للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


السيد محمد بن عقيل بن يحيى

ذكرنا في آخر الجزء الأول من هذا المجلد (٣٢) خبر وفاة هذا السيد النبيل،
وإننا شرعنا في كتابة ما نرى فيه الفائدة والعبرة من سيرته، واضطررنا إلى
تقديم سيرة والدتنا بالنشر عليها، وقد سافرنا بعد ذلك إلى القدس لحضور المؤتمر
الإسلامي العام، وبعد العودة إلى مصر والشروع في طبع الجزء الثاني أردنا أن
ننشر فيه ما كتبنا من سيرته ونزيد عليها فَضَلَّتْ عنَّا فلم نجدها، فلا ندري أسقطت
في الورق المهمل الذي يخرجه الخادم من مكتبنا أم ضلت بين أوراق أخرى، وقد
نُشرت ترجمته - رحمه الله - في كثير من جرائد الأقطار الإسلامية وعقدت له
حفلات تأبين في مصر وجاوة، وإنني أفي بوعدي بنشر شيء من سيرته أستأنف
كتابته، فأقول:
كان - رحمه الله تعالى - قوي الجسم والعقل ذكي الذهن، زكي النفس، عالي
الهمة، واسع الاطلاع على الكتب الإسلامية من شرعية وأدبية وتاريخية، مختبرًا
لأهل هذا الزمان، عارفًا بشؤون السياسة الدولية، وأحوال الشعوب الشرقية
والغربية، فإن له عدة رحلات من بلاده حضرموت إلى جاوة والحجاز ومصر
والهند والصين واليابان وأوربة الشرقية والغربية.
وكان قوي الذاكرة، حسن المذاكرة، ذا بديهة حاضرة، وعارضة ماضية،
وعبارة سلسة في الكتابة لا ركاكة فيها ولا براعة، ولا أعلم شيئًا عن حظه من
الخطابة، وكنت أول عهدي بطلب العلم بطرابلس الشام أقرأ في المؤيد مقالات
معزوة إلى الرحالة سيف الدين اليمني ثم علمت أنها له.
وأما أخلاقه فصف ما شئت من عزة نفس، وسخاء كف، وشجاعة وإقدام،
وعفة وورع، ووفاء ومروءة، واهتمام بالمصالح القومية والملية، ولولا أنه شغل
بالتجارة لكان من أكبر زعماء الأمة العربية ودعاة الإصلاح الإسلامي فيها.
وكان كثير الزواج يجمع ما طاب له من النساء مثنى وثلاث ورباع، وكثير
النسل والإنتاج، أخبرني سنة ١٣٣٠ أن أولاده وأحفاده يزيدون على خمسين نسمة
وهم متفرقون في بلاد مختلفة، وأنه لا يعرفهم كلهم بأشخاصهم، وأنه لا يعلم عدد
من مات منهم، ولم يكن هذا بشاغل له عن أعماله التجارية، ولا عن أبحاثه العلمية
والسياسية.
وقد نشأ على مذهب الشافعية تربية وتعليمًا وعملاً، ولكنه كان مع ذلك مستقل
الفكر في المسائل العلمية والدينية، إلا فيما ملك وجدانه من شعور السيادة ولوازم
عصبيته.
ولما ظهر المنار في أواخر سنة ١٣١٥ بدعوته الإصلاحية في الدين والاجتماع
واللغة كان من السابقين إلى الاشتراك فيه ثم عني بنشره في سنغافورة وجاوة وسائر
الجزائر الإندونسية، واتصلت المودة والمكاتبة بيننا بقوة وحرارة، ثم فترت في
السنوات الأخيرة لما سأذكره، وقد أنشأ في جاوة مع بعض الإخوان مطبعة ومجلة
إسلامية سماها (الإمام) وكتب إليَّ أن الغرض منها نشر مقاصد المنار الإصلاحية
بلغة البلاد الملاوية، وأن جل اعتماده فيها على ما يترجمه عنه.
وأول خلاف في الآراء وقع بيننا مسألة لعن معاوية وأن دعاة التشيع من
العلويين قد أثاروها في جاوة أو أندوسية كلها واستُفتيتُ فيها، فأفتيت بعدم الجواز
وبينت ما في هذا الشقاق من الضرر والتفرق بين المسلمين بدون مصلحة راجحة
تقابله، وفيها ألَّف كتابه المشهور (النصائح الكافية) وعذر كل منا أخاه في اجتهاده.
ثم تفاقمت دعاية الرفض والغلو في آل البيت وسلائلهم في تلك الجزائر فكان
من زعمائها بالتبع لأستاذه السيد ابن شهاب كما بيَّنت ذلك في ترجمة هذا عقب
وفاته؛ ولكنه لم يكن داعية لما وراء ذلك من الخرافات كعبادة الموتى من السادة
وغيرهم من الصالحين بدعائهم والطواف بقبورهم، ولما كان الغلو والإفراط في
طرفي كل أمر يثير الغلو في الطرف الآخر، ظهر في تلك الجزائر خصوم كثيرون
للسادة العلويين وتفاقم الخلاف، واستشرى به الشقاق، وهو ما كنا نخشاه ونتوقعه،
وظهرت في أثناء ذلك جمعية عربية باسم (جمعية الإرشاد) غرضها إنشاء
المدارس ونشر التعليم الديني والمدني الذي تقتضيه حالة العصر من الاستقلال
وإحياء هداية الكتاب والسنة ومقاومة الخرافات الفاشية من طرق الابتداع في الدين،
وجرَّ ذلك إلى إنكارهم على العلويين ترفعهم بأنسابهم على الناس بما يعد احتقارًا
لعلمائهم وأهل الوجاهة منهم، وأفرط بعضهم في ذلك.
وقد طلبت مني جمعية الإرشاد مرة أن أختار لها بعض المعلمين لمدارسها من
مصر فأجبتها إلى ذلك بما أمرنا الله تعالى به من التعاون على البر والتقوى، وإنما
يقومان على أساس العلم. فكتب إليّ السيد محمد بن عقيل - عفا الله عنا وعنه - كتابًا
ينكر علي فيه مساعدة هذه الجمعية الضالة المضلة، في زعمه، بل وصفها بما هو
أقبح من ذلك، ثم أذاع بعض العلويين أنني أنصر الإرشاديين عليهم، وهم
مخطئون، فأنا لا أنصر إلا ما أعتقد أنه الحق ولو كنت أتبع الهوى لكان هواي مع
العلويين؛ لأنني منهم وأهل العلم الصحيح منهم يعلمون ذلك.
وقد علمت منه أنه ترك مذهب الشافعي لا إلى اتباع الدليل، بل إلى تقليد
مذهب العترة أو آل البيت - أي مذهب الزيدية - وأخبرني أنه حاول إقناع الملك
حسين بنشر هذا المذهب في الحجاز والحكم به دون مذهب أبي حنيفة الذي أجبرت
دولة الترك شرفاء مكة على تقليده، فلم يقبل فغضب عليه، ولعل هذا سبب ما
أرسله إليّ من مكة وقتئذ في الطعن على الملك حسين، ووصف ظلمه واستبداده
وقسوته في سجنه وغيره مما نشرته وقتئذ، واعتمدت عليه في الخطاب العام الذي
وجهته إلى العالم الإسلامي في القيام عليه.
ثم سعى لدى شيخ الأزهر في مصر لتقرير تدريس هذا المذهب في الأزهر فلم
يقبل، وأنا لم أنكر عليه هذا السعي؛ لأن مذهب الزيدية في الفقه كغيره من
المذاهب الأربعة التي تدرس في الأزهر، وقلما يخالف بعضها في حكم إلا ويكون
موافقًا للآخر منها؛ وإنما كنت أعارضه قولاً وكتابة هذا الغلو في العلويين الذي
تأباه حالة البشر الاجتماعية في هذا العصر الذي فشت فيه فكرة المساواة وما
يسمونه (الديمقراطية) وهم مهما يكن من غلوهم في تعظيم آل البيت النبوي، فلن
يصل إلى غلو من قبلهم من الشيعة الظاهرية والباطنية، وكله عرضة للضعف
فالزوال.
وقد عرضت عليه وعلى غيره في تلك الأثناء رأيًا لن يجد العلويون من
الحضارمة ولا من غيرهم أمثل منه لإحياء مجد آل البيت النبوي وحمل جميع
المسلمين على حفظ كرامتهم وإعلاء شأنهم وتفضيلهم على غيرهم بالطوع والاختيار،
وهو ما سأذكره في النبذة التالية إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))