للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تأييد عالم وتفنيد واهم

ليس في قوة البشر أن يحيط الرجل بجميع العلوم، أو يتقن جميع الأعمال،
ويتوقف نجاح الأمم وتقدمها في العلوم والفنون والصنائع وسائر الشؤون العامة
على اتباع قاعدة التوزيع، وإناطة كل علم وكل نوع من العمل بطائفة من الناس
ينفردون بالعناية به، حتى يبلغوا درجة التبريز فيه؛ بحيث تكون الأمة - في
مجموعها - نابغة في كل شيء، وقد اهتدت إلى هذه القاعدة الأمم المتمدنة،
وعملت بها؛ فانتهت في كل علم وعمل إلى الغايات التي نسمع ونشاهد. وقد
اتسعت عندهم دوائر المعارف؛ حتى صار ينفرد للفرع الواحد من العلم طوائف
مخصوصة، يحررونه، ويفردونه بالتأليف. ولا يزال قومنا في غفلة من هذا؛
ولذلك لا يبرع عندنا أحد في شيء من الأشياء. ومن الخذلان أن تضل الأمة عن
طرق رشادها، ومناهج إسعادها، ولكن ماذا نقول في قوم يعيبون الهدى والرشاد،
ويذمون مناهج التوفيق والسداد، ويقدحون في عِرض مَن يبرز في علم أو فن،
فيُظهر غوامضه، ويبدي خوافِيَه؛ محتجين بأن الأمة أحوج إلى غير المسائل التي
حررها منها إليها، وكأني بهؤلاء النوكى يطعنون بمَن يتكلم في دقائق المساحة
وتقويم البلدان؛ لأن البلاد المصرية أحوج إلى فن الزراعة منها إلى هذين الفنين،
وإن كانوا يعلمون أن الجهل بدقائق تقويم البلدان وعدم التفرقة بين (سرس)
و (فرس) اختزل جزءًا مهمًا من البلاد المصرية، وألحقه بالحكومة
السودانية.
ساق الله إلى هذه البلاد رجلاً من الغرب، قد نبغ في علوم اللغة وآدابها روايةً
ودرايةً؛ حتى صار إمامًا يُقتدَى به فيها، ألا وهو العلامة المُحَدِّث الشيخ محمد
محمود الشنقيطي، واللغة - كما لا يَخفى على بصير - هي من سائر العلوم بمثابة
الجسد من الروح، فمَن يذم المشتغل بدقائقها زاعمًا أن الأوْلى له الاشتغال بعلم
الأخلاق الباحث عن صفات النفس مثلاً - هو كمَن يذم المشتغل بدقائق الطب،
زاعمًا أن الفلسفة العقلية أفضل منه؛ لأن العقل والنفس أفضل من الجسد.
لو كان المصريون على هدى في طلب العلم؛ لأحلّوا الأستاذ الشنقيطي أعلى
مكانة في الأزهر، ولكان الطلاب في حلقته يعدون بالألوف، ولكنهم لم يرضوا
بهضم حقه، وعدم إحلاله محلَّه؛ حتى وُجد فيهم مَن ينتقصه على إظهار دقائق لغة
دينهم وكشف مخبّآتها!
نُشر في عدد سابق من (المنار) وفي (مصباح الشرق) سؤال منظوم لهذا
الأستاذ، يطلب فيه بيان كلمتين جاءتا في شعر الأخطل وهما لفظ (نوفل)
و (هشام) ، هل هما شخصان أم جنسان؟ ولا يَخفى أن مَن لا يفهم كلام أهل الطبقة
الأولى من بُلغاء لغته، ولا يفرق بين أسماء الأشخاص والأجناس في لسان أمته
ودينه - يكون في دركة من الجهالة سافلة. ولكن لم يكد السؤال ينتشر إلا وأنشأ
المتحذلقون ينددون بالأستاذ الذي يشتغل بمثل هذه المسائل، ويعذلوننا و (مصباح
الشرق) على نشر سؤاله، ولم يقفوا عند حد الكلام باللسان؛ حتى كتب أحدهم -
محمد طلعت - نبذة في جريدة (الرائد المصري) في شأن المسألة - ويا خجلتاه مما
كتب! - كتب إلى مدير تلك الجريدة (نقولا شحاده) ، يقول: (إنني - بكل شوق
ورغبة - أطالع جريدتكم الغرّاء، وأستوعب كل ما تحويه من المواضيع المستحبة
التي تستحقون عليها أطيب الثناء، على أني ألاحظ أنكم نسيتم - أو تناسيتم - أمر
العلماء الذين أهملوا واجباتهم الأدبية والدينية، وشُغلوا بسواها) ثم ذكر
الأستاذ الشنقيطي ومسألته، وختم نُبذته بقوله: (فأنَّى للأمة المصرية أن تتقدم
إذا كان علماؤها يشتغلون بحل مثل هذه المسائل) . اهـ
هذا، وإن السماء والأرض تقولان أنَّى للأمة المصرية أن تتقدم إذا كان شبانها
يحتقرون التدقيق في لغتهم وفهم كلام بُلغائها ومعرفة تاريخها، ويستوعبون جميع ما
يُنشر في مثل (الرائد المصري) ، ويرونها مفيدة للأمة، ويرفعون صاحبها إلى
درجة يطلبون منه بمقتضاها أن يُرشد علماءهم إلى واجباتهم الدينية والأدبية، أما
خجل هذا المصري - الذي يبحث عن ترقية أمته من العهد إلى الأجنبي عن الدين
بتعليم علماء الدين واجباتهم الدينية والأدبية؟ !
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كُلاها وحتى سامها كل مفلس
أما رصيفنا صاحب (الرائد) المحترم، فلا نلومه بمشايعة الكاتب عليه،
وقوله بعدم فائدة الاشتغال بهذه المسائل، ولكننا نستلفته إلى مراجعة السؤال،
والتأمل فيه؛ ليتضح له أن في تخصيص النصارى بالذكر مدحًا لهم وثناءً عليهم،
فإننا تنسَّمنا مما ذيّل به نبذة محمد أفندي طلعت أنه استثقل هذا التخصيص،
واستشعر منه ما لم يقصده صاحبه، ولا يدل عليه اللفظ في نفسه.
ونسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا؛ لنمدح عن بينة، وننتقد عن بينة، ونلزم
حدودنا عن بينة {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (النور: ٤٠) .