وكان اعتناؤه منصرفًا إلى علوم القرآن والتفسير والحديث، ولم يذكر كاتب المقالة السبب في هذا وما هو إلا النزعة الاجتهادية التي كان عليها والده وربّاه عليها، ولذلك تولى تعليمه التفسير والحديث بنفسه. وكأن الاجتهاد في الدين وفهم الحكام من الكتاب والسنة صار معيبًا عند المسلمين، ولذلك حاول كاتب المقالة تكذيب ما أشيع من أن المهدي غير مالكي المذهب وزعم أن كل السنوسيين على مذهب الإمام مالك (رضي الله عنه) قال: (ويُبَسْمِلُونَ في الصلاة ويقبضون أيديهم) لعله يريد أنهم لا يتركون المشهور من مذهب مالك إلا في بعض المندوبات. والصواب أن السيد محمدًا المهدي السنوسي لا يعمل إلا بما صح عنده في الكتاب والسنة كما كان والده من قبله. ثم يتكلم الكاتب عن سياسته فقال: إن السنوسيين لا يخوضون فيما لا يعنيهم كالسياسات، فذلك عندهم كالمحرمات وما أشيع عن السنوسي من أنه مستعد للحرب ويدخر الأسلحة المتقنة المجلوبة من أوربا، وأنه يشيّد الحصون بالصحراء ويصنع البارود، وله عسكر وخيول مسوّمة ويبغض الإفرنج فهاته كلها خرافات وأراجيف لا أصل لها وسيعرف الناس ذلك عندما تسمح الحال بالمواصلات بين أفريقيا الشمالية والجهات الصحراوية. وكتب مستشهدًا: ولا ينبّئك مثل خبير. ثم أطنب الكاتب في تكذيب هذه الإشاعات ونسبها إلى ذوي الأغراس حتى كاد إطنابه يوقع في الظنّة. واحتج على صدق قوله بأن الرحّالة (مونتاي) وصف السنوسي وإخوان طريقته بما يقرب مما قاله. قال الكاتب: وفي هاته المدة ظهر داعٍ بنواحي بحيرة تشاد لِشَنِّ الغارة وإثارة الفتن اسمه محمد السنوسي وهو من أتباع رابح سلطان برنو الذي قتل في السنة الفارطة، وكانت له أخت اسمها فاطمة في عاصمة رابح. ثم وصف من ظلم هذا السنوسي الجديد وعتوّه، وذكر أن بعض الكتاب الفرنسيين لما سمعوا بخبره طفقوا ينددون بالسنوسي صاحب الطريقة ظانين أنه جاهرهم بالعدوان - وسرى هذا الغلط الفاحش إلى الطبقات العالية من أهل الصحف كالطان وغيره، وقال: إنه لا لوم على تلك الصحف في غلطها (لأن هذا الإيهام سرى أيضًا لبعض الصحف الإسلامية نفسها مثل مجلة المنار فقد ذكرت أن السنوسي المهدي له حرب مع الفرنسويين. ثم قال: إن الشيخ المهدي السنوسي رحل سنة ١٣١٢ من بلد جغبوب على حين غفلة مع أهله وولده وبعض الإخوان قاصدًا بلد الكفرة بالصحراء الشرقية في عرض ٢٥ درجة وطول ٢٠ درجة (من باريس) فوصل إليها بعد مسير أربعين يومًا وسماها بغدامس الجديدة، ولم يعلم السبب في ارتحاله والذي أظن هو مَيَلانه للانزواء وابتعاده عن الوساوس والمطامع الإنكليزية إذ كان قدم عليه بعض سياح الإنكليز في جغبوب. وفي سنة ١٣١٧ ارتحل من الكفرة فتوجه إلى نواحي كانم ولا زال في تلك الأماكن على عادته المألوفة من عبادة ربه وعدم اشتغاله بما لا يعنيه هو وطائفة من إخوانه إلى أن بلغنا انتقاله إلى الدار الآخرة في شهر جمادى الأولى سنة ١٣٢٠ على طريق الصحف الإخبارية رحمه الله تعالى وجعل الجنة متقلبه ومثواه. (المنار) : قد انتهى تلخيص ما كتب في جريدة الحاضرة. ونحن نقول: إن أمر موته لا يزال مشكوكًا فيه، فإن السنوسيين الواردين من زوايا الصحراء على مصر يكذبون ذلك، ولا يبعد أن يكون تكذيبهم مبنيًّا على اعتقادهم بأنه المهدي المنتظر، فإن اختفى أيامًا فلا بد أن يظهر، ولذلك نرى أنه يقتضي الشك في موته لا ترجيح عدمه. وأما خبر مناوشة الفرنسيين للسنوسيين فإنما اعتمدنا على مكاتبات السنوسيين أنفسهم لا على الإشاعة والاستنباط، وليس حديث هذه المناوشة بالحديث وإنما كان في العام الماضي، فقد راجعنا بعد نشر مكتوب ذلك الطرابلسي مكتوبًا آخر من أحد بطانة السنوسيّ مؤرخًا في رمضان سنة ١٣١٩ وفيه ما نصه: (الأخبار الواردة من جهة كانم أن الفرنسيين لما سمعوا أن سيدي البراني توجه للزيارة قصدوا الزاوية مرادهم في هتك حرمها فوجدوا بها بعضًا من الإخوان وبعضًا من العربان وبعضًا من التوارق، والتقوا عند طلوع الشمس ٢٦ رجب، ثم انتشب بينهم الحرب من الصباح إلى الزوال، وقتل منهم جماعة وافرة وثلاثة من كبارهم، والمقاتلون الذين بأيديهم السلاح ثمانية عشر رجلاً لأن الناس متفرقة والكفار أتوهم على حين غفلة لكن نصر الله المسلمين وهزم المشركين واستشهد فيها من الإخوان أخونا سليمان ابن أخ سيدي البراني وأخونا عبد الرزاق فقيه الزاوية وأخونا حسين بن الفضل. ومن المجابرة ثلاثة: أخونا أبو علي النمر وأخونا عبد الله بن موسى وأخونا مهدي بن شعيب، واستشهد أيضًا الشيخ غيث بن الشيخ عبد الجليل وابن عمر المضبوه المغربي وبعض التوارق واثنان من جماعة السلطان قورن كانا عند الأستاذ زائرين، وواحد قطروني وباعوا نفوسهم لله كما قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّة} (التوبة: ١١١) ولما أتى الخبر إلى الأستاذ رضي الله عنه وجه سيدي البراني والحاج محمد الثنيّ ومعهم جيشًا من المجابرة وذويه لقتال أعداء الله، ربنا ينصر المسلمين على أعداء الدين. اهـ باختصار قليل جدًّا. ومنه ومن أمثاله من الكتب (ومنها ما نشرناه في الجزء الثامن) يعلم القراء أنه حصل شيء بين الفرنسيين والسنوسيين استمر قريبًا من سنة ولا نعلم كيف انتهى؛ لأن الأخبار الخصوصية انقطعت عنا من مدة طويلة وإننا نتوقع الخبر اليقين عن قريب. ومما ذكرناه يعرف القراء أن السنوسيين مستعدون للدفاع عن أنفسهم ولكنهم ليسوا أهل اعتداء فهم يمتثلون قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: ١٩٠) وستكون هذه الآية الكريمة هي منتهى المدنية في الحرب فإن بقي صاحب المقالة المنشورة في الحاضرة في ريب بعد هذا فإننا نذكر له في جزء آخر شيئًا من نفوذ السنوسيين في واداي ونواحيها وتوليتهم للملوك وحلهم للمشكلات بينهم بذكر وقائع معينة بالأسماء والجهات ليعلم أننا نتكلم عن بصيرة. وقد كنا قد ذكرنا ذلك الخبر لغرابته بالنسبة إلى المصريين وليس من موضوع المنار التوسع في هذه المسائل؛ لأنها أقرب إلى السياسة منها إلى التاريخ ولا غرض لنا بالسياسة. أما العبرة التاريخية في ترجمة السنوسي فهي في شيئين: (أحدهما) اجتهاده في الدين وعدم تقيده بمذهب من المذاهب، وقد مهد له والده رحمه الله تعالى السبيل إلى ذلك بكيفية تعليمه وبما ترك له من مؤلفاته التي بين بها الحجج على وجوب العمل بالكتاب والسنة، وعدم الرغبة عنهما إلى قول أي عالم أو إمام. وقد اطلعنا على كتابه (بقية المقاصد. في خلاصة المراصد) وهو مختصر كتاب (المراصد) وفيه القدر الكافي من الاحتجاج على وجوب العمل بالكتاب والسنة. و (ثانيهما) تأليف عصبية كبيرة بسلطة الطريقة. ومما ننتقده على أصحاب هذه الطريقة أنهم غلوا في شيخهم كسائر أهل الطريق مع شدة تمسكهم بالدين الذي ينهى عن الغلو وأنهم يعتقدون أن شيخهم المترجم هو المهدي المنتظر، وهذا الاعتقاد يضر في المستقبل عندما يتبين لهم كما تبين لغيرهم عقمه وإننا نرى عقلاءهم لا يعتقدون هذا الاعتقاد ويقولون: إن شيخهم لا يرضاه، والله أعلم بمصير الأمور.