ما مرّ هذا الأسبوع على مصر إلا وهدم للعلم أركانًا، وقوّض للفضائل والمكارم بنيانًا. ففي يوم السبت (الماضي) باغتت المنية العلامة الجليل الشيخ حسن الطويل أحد أركان النهضة العلمية الأدبية في مصر. شَرَع الفقيد في طلب العلم، وهو في سن العشرين؛ فنبغ في العلوم الأزهرية في مدة قريبة، ووجّه عنايته للعلوم الرياضية والفلسفية، وكانت قد ركدت ريحها في الأزهر من عهد بعيد، فتناول منها بنفسه ما يعز تناوله من غير تلقٍّ إلا على أفراد أصحاب العقول الكبيرة، فالتفّت عليه أذكياء الطلاب يتلقون عنه الحكمة، ولما قدم السيد جمال الدين الأفغاني الحكيم الشهير إلى مصر، وتصدى لقراءة العلوم العقلية والحكمة، كان جُل مَن حضر عليه وأخذ عنه من الأزهريين من تلامذة الشيخ، فكان بذلك ممهدًا له، أما الشيخ نفسه فلم يتلقَّ عن السيد شيئًا، وإنما كان يزوره قليلاً، وجاء في المؤيد ما نصّه: (ومع أنه لم تكن بين السيد جمال الدين وبين الشيخ حسن الطويل صلة وداد، كان يقول السيد: ليس في علماء الأزهر كالشيخ الشربيني والشيخ الطويل) ، وبالجملة كان الشيخ - رحمه الله تعالى - في مقدمة الطبقة الأولى من علماء الأزهر الشريف، ومتميزًا عن عامة علمائه بكثير من الفنون، وقضى عمره بالتدريس فيه، وفي مدرسة دار العلوم الأميرية، وتخرّج على يديه كثير من العلماء الأفاضل والشبان النابغين. أما سيرته في أخلاقه وآدابه، فقد كان سليم الصدر، طاهر السّريرة، عفيفًا متواضعًا، زاهدًا حرًا، لا يخاف في الحق لومة لائم، فيُصَرِّح بانتقاد الحُكّام في السياسة، كما يصرح بانتقاد سائر الناس في عاداتهم التي أضرّت بدينهم ودنياهم، ولا سيما الغُلوّ بتعظيم القبور وطلب الحوائج من الأموات؛ ولذلك كان يخوض في دينه بعضُ الناس الذين لا يعرفون من الدين إلا ما عليه الناس، ولا حجة لهم على ما يعرفون إلا سكوت أكثر أرباب العمائم عن المنكرات الفاشية، وتأويل بعضهم لها، وإنني أعد هذا من مناقب الشيخ كما أعد مثله من مناقب السيد جمال الدين؛ لأن جميع الذين امتازوا في عصرهم بالعلوم العقلية والاستقامة كانوا يُرمون بمثل ما رُمي به هذان الفاضلان (راجع تاريخ الإمام الأشعري والإمام الغزالي، وأضرابهما) . تُوفي - رحمه الله تعالى - فجأة عن نحو ٧٥ سنة، ولم تكد الدهشة بفجيعته تزايل القلوب، وتجف لها الغروب حتى تأثرتها. *** الفجيعة الثانية ففي يوم الاثنين (٢٥ صفر) قضى أستاذ العلماء الأكبر، وقطب الفقه النعماني والمحور، مولانا الشيخ عبد الرحمن القطب النواوي شيخ الجامع الأزهر. قضى إثْر أَلَم ألمَّ به في صبيحة ذلك اليوم، ولم يمهله إلى مسائه، ففاضت روحه الزكية وقت العصر من ذلك اليوم، وكان - سقى الله لَحْده - من أكابر علماء الأزهر، وله براعة في الفقه الحنفي قلَّما يساويه فيها أحد، وقد تقلب في المناصب الشرعية الدينية؛ فكان فيها مِثال العفة والاستقامة، وقد أُسنِدت إليه مشيخةُ الأزهر الشريف من نحو شهر، وكان مفتيًا للحقانية، وعضوًا في المحكمة الشرعية العليا، ومن ورعه وتَحَرّيه ما أخبرني به أحد أعضاء هذه المحكمة من أنه كان لا يوافق على حكم من الأحكام ما لم يراجع عنه ويشاهد النص، وإن كان قريب عهد بالموافقة على مثله عن مراجعة؛ لأنه يرى أن الدعاوي - وإن تماثلت - فاحتمال الذهول أو الخطأ في المراجعة التي بُني عليها الحكم الأول يقضي بالتكرار لتطمئن النفس. أما لين جانبه ومكارم أخلاقه، فحدِّثْ عنها ولا حرج. وقد احتُفِل بتشييع جنازته ودفنه في اليوم التالي ليوم موته (الثلاثاء) بما يليق بمقامه ومنصبه -رحمه الله تعالى رحمة واسعة! *** الفجيعة الثالثة وبينما الناس يؤدون سُنَّة التعزية بفقيدي العلوم والفضائل، إذ صاح بهم نعي رب المكارم والفواضل. قد مات عثمان باشا ماهر. صاحب المبرات والمآثر. وكانت وفاته في مساء يوم الثلاثاء على فراش المرض، وماذا عسانا نَذْكُر من خيراته ومبراته، وقد وقف جميع أطيانه الواسعة على إحياء العلوم الدينية والعربية كما ذكرنا ذلك في (المنار) من قبل، وقد تقلب في المناصب والوظائف، وكان رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية إلى قُبيل مرضه الأخير، وعضوًا وطنيًا في مصلحة الأراضي الأميرية حتى الموت. وقد احتُفِل بتشييع جنازته في صبيحة يوم الأربعاء احتفالاً موافقًا للسنّة الشريفة، فلم يمشِ فيها حَمَلةُ المجامر والقماقم، ونحوهم، رحمه الله تعالى عداد حسناته، وأسكنه فسيح جناته! *** المصيبة الرابعة وفي يوم الأربعاء استأثرت رحمة الله تعالى بالعلامة المدقق، والمؤرخ المحقق أوحد علماء الأزهر في فنون الآداب والتاريخ، الشاعر النَّاثِر الشيخ عثمان مدوخ، ومن مزاياه أنه كان أعرف الناس بخطط مصر وآثارها، ويقال: إن علي باشا مبارك كان يَرْجِع إليه في أثناء الاشتغال بتأليف خُطَطِه المشهورة، ويستفيد منه، وقد احتُفل بتشييع جنازته في يوم الخميس الماضي، تغمده الله برحمته الواسعة! *** تعلقت إرادة سمو الخديوي المعظَّم بتعيين العلامة الشهير الشيخ سليم البِشْري شيخ السادة المالكية شيخًا للجامع الأزهر الشريف، فنسأل الله تعالى أن يجعل أيامه أيام نجاح وتقدم في الإصلاح! ونقدم التهنئة لفضيلته بهذا المنصب الجليل!