٨- الاحتجاج بأحاديث الآحاد في العقائد وتحقيق معنى الظن واليقين والتواتر [*] قال المتكلمون: إن العقائد لا تثبت بأخبار الآحاد؛ لأن المطلوب فيها القطع وأخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن، وقد قال تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (يونس: ٣٦) وإنما تثبت بالأحاديث المتواترة؛ لأنها هي التي تفيد اليقين الذي هو شرط الإيمان. وقد فهم كثير من الناس من هذا القول ما لم يرده المحققون من قائليه فأخطأوا في فهم المراد وفي فهم كلمتي الظن واليقين، فظنوا أن الأحاديث الصحيحة التي رواها الآحاد من الثقات العدول في صفات البارئ -عز وجل- وفي أمور الآخرة لا يجب الإيمان بها شرعًا ولا يضر المسلم تكذيبها، وإن لم يكن عنده شك في صحتها، وبناء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد في نفسها إلا الظن الذي لا يجوز الأخذ به في العقائد؛ لأنه لا يغني من الحق شيئًا. وهذا الظن الذي فهموه من عبارة المتكلمين هو الذي لا يغني من الحق شيئًا وما أظن أن مسلمًا يُعتد بعلمه يقول به، ولعل أول من قال تلك الكلمة أراد بها أن أحاديث الآحاد لا تقوم بها الحجة في العقائد على المنكر لورودها، وإنما تقوم بالتواتر؛ لأنه لا سبيل إلى إنكاره. الظن ضرب من ضروب التصديق بغير الحسي ولا الضروري من المدركات فهو مما تتفاوت أفراده بالقوة والضعف، فمنه ما يكون يقينًا لا تردد فيه، ومنه ما يكون راجحًا مع ملاحظة مقابل مرجوح تارة ومع عدمها تارة، وقيل: إنه يشمل المرجوح أيضًا. فالتصديق المبني على الأدلة النظرية الذي يجزم به المستدل مع عدم ملاحظة احتمال النقيض يسمى ظنًّا، ولكن إدراك الحواس لا يسمى هنا، ولا العلم الضروري كقولنا: النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان. وهذا الحد الذي شرحنا به معنى الظن هو تفسير لقول الأزهري في التهذيب: الظن يقين وشك. وقول ابن سيده في المحكم: هو شك ويقين إلا أنه ليس بيقين عيان إنما هو يقين تدبر، فأما يقين العيان فلا يقال فيه إلا علم. هذا قول أئمة اللغة. وأما قول الفيروزبادي في القاموس: الظن: التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد غير الجازم- فهو مأخوذ عن اصطلاح علماء المعقول كالمناطقة والفلاسفة ومثله قول المناوي: الظن الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض ولكن الفيروزبادي لم يسعه إلا أن يزيد على تعريفه قوله: وقد يوضع موضع العلم: بمعنى أنه يستعمل في اللغة بمعنى اليقين. فإن أراد أنه يوضع موضع العلم حتى في الحسيات والضررويات فقوله غير صحيح. واليقين العلم وإزاحة الشك وتحقيق الأمر، وهو نقيض الشك، والعلم نقيض الجهل. قاله في لسان العرب. ثم قال: وربما عبروا بالظن عن اليقين وباليقين عن الظن. وقال الراغب: الظن: اسم لما يحصل عن أمارة ومتى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت جدًّا لم يتجاوز حد الوهم. ثم ذكر أن من اليقين قوله تعالى: {وَظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ} (القيامة: ٢٨) وقوله تعالى: {أَلاَ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} (المطففين: ٤-٥) وقوله: {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} (يونس: ٢٤) وقوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} (ص: ٢٤) وإنما يظهر هذا في اليقين اللغوي وهو الاعتقاد الجازم المبني على الأمارات والاستنباط والاستصحاب دون الحس والضرورة - لا اليقين المنطقي المبني على الضرورة أو الحس أو ما يؤدي إليهما بحيث لا يحتمل النقيض. وقد فسر الراغب اليقين بقوله: هو سكون الفهم مع ثبات الحكم. وقال: إنه من صفة العلم فوق المعرفة والدراية. فعلم من قولهم أن اليقين في الأصل هو الاعتقاد الثابت الذي لا شك فيه ولا اضطراب. وأما قولهم بالتعبير به عن الظن والعكس فليس معناه أن كل يقين ظن يقين وإنما معناه أن الظن على مراتب منها ما يرادف اليقين، ومنها ما هو دونه، فبينهما العموم والخصوص بإطلاق، والمشهور في تعريف اليقين عند علماء الدين أنه الاعتقاد الجازم المطابق. واشتراط المطابقة للواقع اصطلاحي خاص باليقين في الإيمان الصحيح، ولعل المطابقة تشترط في العلم فيسمى الجازم بغير الواقع مؤقنًا به لا عالمًا. إذا فقهت هذا فاعلم أن كل اعتقاد يستفاد من السماع يطلق عليه في اللغة اسم الظن باعتبار مأخذ لذاته، واسم اليقين إن جزم صاحبه به، وكذا اسم العلم أن مدلوله حق، ولكن نفس السماع، أي: إدراك الأصوات المحقق لا يسمى ظنَّا بل علمًا. وخبر التواتر إنما يفيد العلم القطعي بضرب من الاستدلال النظري، وإن اعتمدوا أنه يفيد الضروري فإن من شروطه أن يخبر كل واحد من المخبرين الكثيرين عن حسي، أي: عما سمعه بأذنه أو رآه بعينه مثلاً، وأن يقوم الدليل أو القرائن على أنهم لم يتواطؤوا على الكذب، وأن يتحقق ذلك في كل طبقة من الطبقات. وقد اختلف العلماء في العدد الذي يحصل بخبره التواتر مع توفر الشروط التي ذكروها. فاكتفى بعضهم بالآحاد كسبعة وعشرة، واشترط بعضهم العشرات. ولكنهم اتفقوا على أن آيته حصول العلم الجازم بمدلول الخبر. ومثل هذا العلم كثيرًا ما يحصل بخبر الواحد وإن لم يكن متصفًا بالصفات التي اشترطها المحدثون في راوي الحديث الصحيح كالعدالة والضبط وعدم مخالفة الثقات المشهورين فضلاً عن مخالفة الأمور القطعية التي عدوا مخالفتها علامة الكذب ووضع الحديث. مثال هذا النوع من خبر الواحد الذي يحصل به الاعتقاد الجازم وإن لم يكن المخبر به متصفًا بعدالة رواة الحديث أكثر ما نسمعه كل يوم ممن نعاشر ونخالط من أصدقائنا ومعاملتنا وأهل بيوتنا وخدمنا من الإخبار عن أمور معيشتنا كقولهم: حضر الطعام وهيئ الحمام وجاء للزيارة فلان. ومن هذا القبيل كل خبر لا مجال للتهمة فيه. وأما إخبارهم فيما يتهمون فيه فهي التي يُرتاب فيها، ويحتاج إلى القرائن والأدلة في تمييز راجحها من مرجوحها، مثال ذلك مدح النفس والدفاع عنها والطعن في الخصوم، ورواية الغرائب والعجائب، فالأخبار في مثال هذه المسائل يكثر فيها الكذب والخلط، إما بالعمد أو بعدم الضبط أو بسوء الفهم والاستنباط، أو بضعف البيان، أو بتقليد الآباء أو الأموات، وما يتبع ذلك من الوهم، ومن خطأ الحس والرأي. فمن وعى ما ذكرنا وتدبره يعلم منه ما يعلم من نفسه إذا هو فكر في مصادر علمه، والأخبار التي يحدث بها والتي يتلقاها عن غيره، وهو الأصل في إخبار جميع الناس الصدق، وأن الكذب إنما يقع لأسباب عارضة، وأنه هو وسائر الناس يصدقون في كل يوم كثيرًا من أخبار الآحاد حتى غير العدول وتصديقًا جازمًا لا يزاحمه شك ولا احتمال، ولا يخطر لهم فيها النقيض على بال، ومنها ما يجزمون باستحالة وقوع نقيضه عادة وإن جاز عقلاً، كبعض أخبار العدول الثقات الضابطين الخالية من الشبهات، ورجال الحكومة المسئولين في الرسميات. بل أقول: إن من هذه الأخبار ما يجزم العقل بصدقه وامتناع نقيضه، وأعني بالعقل هنا العقل البشري الذي يبني حكمه على الاختيار، ويزنه بميزان رعاية المصالح ودفع المضار، لا عقل واضعي المنطق والفلسفة، الذي يجيز وقوع كل ما يمكن تصوره، ويحصر وقوع المحال في اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما وما يؤدي إلى مثل ذلك حتمًا. وقد تحير هؤلاء في تعريف العلم حتى قال بعضهم: إنه لا يمكن تعريفه. ومن أشهر أقوال مدققي متكلمينا في ملكة العلم: إنها صفة توجب انكشافًا لا يحتمل النقيض. فالعلم بالشيء عندهم لا يمكن نقضه ولا الرجوع عنه، فلو كان هذا العلم شرطًا في كل مسألة من مسائل العقائد لكان الكفر بعد الإيمان محالاً، ولكن قد ثبت وقوع الكفر بعد الإيمان بنص القرآن، فالعلم الذي لا يحتمل النقيض ليس شرطًا لصحة الإيمان، وإنما الشرط أن يكون المؤمن جازمًا بما يعتقد، غير مرتاب ولا متردد، وقول الأستاذ الإمام: الرجوع عن الحق بعد اليقين فيه كاليقين في الحق كلاهما قليل في الناس. أراد به اليقين المنطقي، وأراد بالرجوع عنه إظهار الجحود والمخالفة كبرًا واتقادًا، فإن اعتقاد نقيض المتيقن ليس في استطاعة الموقن إلا إذا اختلط عقله، واختل فهمه، هذا قليل الوقوع كالرجوع عن الحق كبرًا وعنادًا بعد الإذعان له، إذ أكثر المعاندين للحق المستكبرين عنه الذين قال الله في بعضهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُواًّ} (النمل: ١٤) لم يكن ذلك الجحود منهم بعد إذعان، أو لم يكن استيقانهم على شرط علم الكلام وفلسفة اليونان. وإذا فكر السائل في العلوم النقلية وطريقة أدائها وتعليمها عند البشر من جميع الأمم رأى أن أكثر أخبارها المقطوع بها يتلقاها الآحاد بعضهم عن بعض، فإذا اشترطنا فيها ذلك العلم الكلامي واليقين المنطقي، وأن لا نعد شيئًا منها حقًّا ثابتًا إلا إذا تلقيناه بالتواتر اللفظي، فكيف تكون حالنا في معارفنا التاريخية، وما يُبنى عليها من علومنا الاجتماعية وأعمالنا السياسية، وفي سائر العلوم التي ينقلها بعضنا عن بعض؟ بعد هذا كله أقول: إنه لم يعرف عن أحد من شعوب البشر مثل ما عرف عن المسلمين من العناية بنقد الأخبار النبوية وتمحيصها، وضبط متونها وحفظ أسانيدها، بل كانوا ينقلون الأخبار التاريخية والأدبية والشعر والمجون بالأسانيد المتصلة، ووضعوا كتب التراجم لجميع أصناف العلماء والأدباء كما وضعوها من قَبْل لرجال الحديث، ليسهل طريق العلم بالصحيح وما دونه من ذلك، ولكنهم دققوا في نقد رجال الحديث ما لم يدققوا في شيء آخر، فإذا كان ما صح من الحديث عندهم متنًا وسندًا لا يجزم به فبماذا نثق من أخبار البشر، وإذا كان المسلم منا يصدقها فكيف يمكنه أن يرد مضمونها إذا كان في عقائد الدين، بناء على كلمة عرفية للمتكلمين؟ الحديث الصحيح عند المحدثين: ما ثبت بنقل عدل تام الضبط متصل السند غير معلَّل ولا شاذ وينافي العدالة عندهم ثبوت الكذب، وكذا الاتهام به والفسق والغفلة وكثرة الغلط والجهالة - أي: كون الراوي مجهولاً عند علماء الجرح والتعديل، ولولا هذا الشرط لاخترع الكذّابون أسانيد كثيرة لا أصل لها وخدعوا الأمة بها - وكذا البدعة، فمن كان مبتدعًا لشيء من أمر الدين لم يكن عليه أهل الصدر الأول ليحكم بصحة حديثه، قيل: مطلقًا وقيل: فيما يؤيد بدعته وهو المعتمد، بل لا بد لثبوت ذلك من روايته عن غيره. والضبط عندهم ضبط الصدر وضبط الكتاب، فالأول الحفظ عن ظهر قلب بحيث يتمكن من استحضار ما حفظه متى شاء، فإن غلط أو أخطأ في الأداء لا يعد حديثه صحيحًا، والثاني حفظ الكتاب منذ سمع فيه وصححه على من تلقاه عنه إلى أن يؤدي منه، فإذا غاب عنه غيبة أمكن أن يعرض فيها التغيير والتحريف أو الزيادة أو النقصان لا تعد روايته له ولا منه صحيحة. واتصال الإسناد سلامته من سقوط فيه بحيث يكون كل فرد من رواته قد سمع ذلك المروي من شيخه، ويقابله الانقطاع، وهو أقسام، فالحديث (المنقطع) وهو ما سقط من سنده بعض الرواة لا يعد صحيحًا، إلا أنهم اختلفوا فيما سقط منه من بعد التابعي ويسمونه (المرسل) وذلك كأن يقول التابعي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كذا. فالجمهور يتوقفون فيه، وبعضهم يحتج بمراسيل من عُلم من حاله أنه لا يروي إلا عن الصحابة أو ثقات التابعين كسعيد بن المسيب، دون مَن يروي عن غيرهم كالحسن البصري ومن (الانقطاع) عندهم (التدليس) وهو رواية الراوي عمن فوق شيخه الذي سمع منه بلفظ يوهم السماع منه إيهامًا لا تصريحًا، كأن يقول المدلس: قال فلان - أو عن فلان، وقد اختلفوا في حديث المدلس فقيل: لا يُقبل مطلقًا وقيل: إلا فيما صرح فيه بالسماع، والجمهور على قبول حديث من لا يدلس إلا عن ثقة كابن عيينة. ولأجل هذا شددوا في قبول الحديث (المعنعن) أي الذي يقال فيه: عن فلان عن فلان. فقالوا: عنعنة المدلس غير مقبولة، واشترط مسلم في العنعنة معاصرة الراوي لمن روى عنه، والبخاري اشترط العلم باللقي ولم يكتف بمجرد المعاصرة فإذا قال العدل الثقة الضابط: عن فلان أو قال: قال فلان: كذا لا يعتد البخاري بروايته هذه إلا إذا كان قد علم أنه قد لقي ذلك الرجل واجتمع به، ولكن مسلمًا يكتفي بالعلم بأنهما وُجدا في عصر واحد، ومن الممكن أن يكون لقيه وروى عنه. ومن أقسام الحديث عندهم (المضطرب) وهو ما يقع في إسناده أو متنه اختلاف من الرواة بتقديم وتأخير أو زيادة ونقصان أو اختصار أو حذف أو إبدال راوٍ براوٍ أو متن بمتن أو تصحيف في أسماء الرواة أو ألقابهم أو أنسابهم أو في ألفاظ المتن. فإن أمكن الجمع وعرف الأصل وإلا توقف في قبول الحديث والاحتجاج به. ومنها (الشاذ) وهو ما خالف راويه فية من هو أوثق منه فإن لم يكن المخالف للثقة ثقة سُمي حديثه (المردود) وإن كان ثقة رجح عليه مخالفة الذي هو أوثق منه وسمي حديثه (المحفوظ) فهو مقابل الشاذ. ومنها (المنكر) وهو ما خالف رواية الضعيف فيه من هو أضعف منه، ويقابله (المعروف) وكلاهما راويه ضعيف لا يحتج بحديثه. ومنها (المعلّل) وهو ما فيه علة خفية كوصل المنقطع ورفع الموقوف وإدخال حديث في آخر أو إدراج كلام الرواي في المتن أو الإدراج في سياق الإسناد. ولو شئنا أن نبين تدقيق علماء الجرح والتعديل في نقد رواة الحديث لرأى فيها غير المطلعين عليها من القراء ما لم يخطر لأحد من أمثالهم على بال. ولعلموا منه أن أكثر من يعدونهم من الثقات الصدوقين من أهل هذا العصر، ولو كانوا في أزمنة أولئك النقاد لما عدوا روايتهم صحيحة ولو لعدم إتقان الحفظ والضبط. ومن تدقيقهم أنهم يعدون بعض الرواة ثقات في الرواية عن أهل قطر دون آخر، كقولهم: فلان غير ثقة في المصريين أو الشاميين؛ لأنه كان عرض له عند الرواية عنهم اختلاط في العقل، أو هرم خانته به الذاكرة وفقد جودة الضبط. وقد وضعوا كتبًا ببيان الأحاديث الموضوعة خاصة بينوا فيها وفي غيرها أسباب وضع الحديث والكذب فيه وعلامته وأسماء الوضّاعين والكتب والنسخ الموضوعة برمتها التي لا يصح منها شيء كما وضعوا عدة كتب للأحاديث التي اشتهرت على الألسنة وبينوا درجاتها، وميزوا بين الصحيح والحسن والضعيف والموضوع منها. ولكن عناية العلماء بنقد المتون وعرض الأحاديث القوية الأسانيد على القواعد التي بينوا بها علامات الوضع كانت أقل من العناية بنقد الأسانيد، وقلّ أن يهتم المنتمون إلى المذاهب بنقد متون الأحاديث إلا إذا كانت مذاهبهم مخالفة لها فكان هذا من سيئات التعصب للمذاهب. *** نتيجة البحث وخلاصة الجواب فمن فقه ما شرحناه علم أن أكثر الأحاديث الأحادية المتفق على صحتها لذاتها كأكثر الأحاديث المسندة في صحيحي البخاري ومسلم- جديرة بأن يجزم بها جزمًا لا تردُّد فيه ولا اضطراب، وتعد أخبارها مفيدة لليقين بالمعنى اللغوي الذي تقدم، ولا شك في أن أهل العلم بهذا الشأن قلما يشكون في صحة حديث منها، فكيف يمكن لمسلم يجزم بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخبر بكذا ولا يؤمن بصدقه فيه؟ أليس هذا من قبيل الجمع بين الكفر والإيمان؟ وليعلم أنني أعني بالمتفق عليه هنا ما لم ينتقده أحد من أئمة الفقهاء وغيرهم، ومن غير الأكثر ما تظهر فيه علة في متنه خفيت على المتقدمين أو لم تنقل عنهم وذلك نادر. وقد عدَّ بعضهم هذه الأحاديث المتفق على صحتها مفيدة للعلم اليقيني الاصطلاحي إذا تعددت طرقها، قال الحافظ ابن حجر في شرح نخبة الفكر ما نصه: (فائدة) ذكر ابن الصلاح أن مثال المتواتر على التفسير المتقدم يعز وجوده إلا أن يدعي ذلك في حديث: (من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) وما ادعاه من العزة ممنوع، وكذا ما ادعاه غيره من العدم؛ لأن ذلك نشأ عن قلة الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطئوا على كذب أو يحصل منهم اتفاقًا، ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر موجودًا وجود كثرة في الأحاديث أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقًا وغربًا المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنفيها إذا اجتمعت على إخراج حديث وتعددت طرقه تعددًا تحيل العادة تواطأهم (فيه) على الكذب إلى آخر الشروط أفاد العلم اليقيني بصحته إلى قائله، ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير اهـ.