حب الزينة وحب التميز لست من محبي الأمور الفانية، ولا المغرورين بها ولكني أحب ذلك السر الرباني الذي به نعلم خواص هذه الأمور مفردة ومركبة. وبه نتصرف فيها على أمثلة لا يعي مجموعها عقل واحد. وإنكم لتعلمون أن ذلك السر الرباني الذي أُودِعناه من أعظم خواصه محبة الجميل. وحرام على من لم يروا ببصائرهم شيئًا من أسرار الصنعة الإلهية أن يخوضوا في علم الأخلاق وعلم شرائع الاجتماع. احفظ لي أيها القارئ هذا الكلام لعلك تتذكر وتتدبر إذا فاجأتك منّي مخالفةٌ لبعض كتّاب هذا العلم. لحياة الإنسان لوازم هُنَّ حاجاته الضرورية، والحيوانات تشاركه بنظائرها. وتوابع هنَّ حاجاته الكمالية. وليس للحيوانات حظ بأشباهها. ويمكننا باعتبار الأولى والثانية أن نقسّم حياته الواحدة إلى قسمين: حياته الجنسية. وحياته النوعية. الحياة الجنسية يمكن حصر ما به قوامها. فالغذاء قد يكون من الأعشاب كدأب آكلة النبات من الأنعام وغيرها. وليس هذا مبنيًا علي خيال شعري يعظمه الزهد فيما تقبله طبيعة الإنسان؛ بل هو مجرّب محسوس أثبته لنا بالفعل قوم أوحى إليهم الوهمُ ما أوحى من نبذ ما خلقه الله للبشر. والإواء قد يكون حجرًا كأوجار الوحوش. وقد أتاح الله لنا أن نشاهد بالذات معيشة بني هذا النوع في الغيران؛ ولا أعني بالذين شاهدناهم قومًا من إخوان الوحوش في السيرة والطباع والانقطاع عن الإنس؛ بل هم فئات من زراع هذه البلاد أولو ثاغية وراغية وأولو حرث في بلاد ذات زرع وحب الحصيد. والكساء قد يُستغنى عنه وقد يكون من جلود الصيد أو الأنعام. ولدينا قبيلة يقال لهم (الصُّلَيب) لم نشاهد من أكسيتهم غير جلود الآرام التي جُلّ غذائهم من لحومها. والوقاع لا يحتاج منه إلى أكثر مما في طبيعة النوع من تراضي أنثى وفحل وانجذابهما لهذا الأمر بسائق ما في الفطرة. وبهذا القدر الذي مثلنا به تُحْفَظُ الأشخاص ويبقى النوع كما حفظت أشخاص السوارح العجماوات وأنواعها. قلنا: إن هذا القدر يمثل لنا الحياة التي يمكن أن يعيش بها الإنسان ويتناسل. وهل يمكننا أن نقول يوجد شيء يميز الإنسان عن باقي الحيوان في هذا المثال من الحياة؟ قد كان يمكننا أن ندعي وجود مميز لو كان له مع هذه الحياة أفكار عالية. وهيهات فقد أنبأنا التاريخ أن الإنسان كان معدمًا من الأفكار العالية يوم كان يعيش مثل هذه المعيشة وكذلك بلونا الذين يحيون هذه الحياة في يومنا فلم نجد لديهم فضل إدراك ينيفون به على الغابرين. بلى، إن وعد الله حق وإن الإنسان بمجموعه ارتقى ولكن كان ذلك منذ طفق الاستعداد النوعي تنجلي مظاهره، وتتجلى مناظره، ولن يبرح في رقيه ما دامت الغبراء في إزاء الزرقاء، تتجلى عليها شمسها وتؤتيها من لدنها نظامًا. عرَّفنا لكم الحياة الجنسية بالتمثيل وبه أوضحنا قولنا إنه يمكن حصر ما به قوامها. أما الحياة النوعية فمن الصعب جعل حد لما يتعلق بها كما كان من الصعب تحديد الأوهام والأفكار التي هي تابعة لها. ولكن يمكن أن نقول إن أكثر الأشياء التي هي من فروع الحياة النوعية تابعة لناموسين عظيمين من طبيعة النفس الإنسانية هما: (١) حب الزينة و (٢) حب التميز. ونتكلم فيهما على الإفراد لشدة العلاقة بينهما.
(حب الزينة) نأخذ من التمهيد المقدم كلمة نقولها هنا: لو كان الإنسان هو الآكل المواقع لكان من السهل في معرفة ما هو أن نقول: هو آلة من جملة هذه الآلات الكونية المتحركة بأصل صنعتها ولكن هنا فصول وقيود كثيرة زائدة على هذين الوصفين لا نريد الآن ذكرها كلها؛ بل ذكر واحد منها وهو كونه (محبًا للجميل) فهذا القيد وحده يمنعنا أن نقول في تعريفه ذلك الكلام ويجعلنا نتفكر وسعنا في خصائص هذا المخلوق الكريم المصنوع لأمر عظيم. من تأمّل في الإنسان وجد العوالم محشورة في ذرّات صغيرة من مواقع إدراكه، ووجده حاكمًا فيها بأحكام كثيرة وإن لم تنلها يده؛ بعض تلك الأحكام له نسب بالحقيقة متصل، وبعضها له سبب إلى طائف الوهم ممدود. أما الذي يتعلق بالوظائف الطبيعية لحياته الفكرية من تلك الأشياء المتكثرة فهو تقسيمه المحسوسات والمتخيلات إلى قسمين: مستحسن محبوب، ومستقبح مكروه. ما هو الحسَن، ما هو الزَّيِّن، ما هو الجميل؟ الحسن والزين والجميل كالحُسن والزينة والجمال، ألفاظ متعددة تدل على معنى واحد عند رواد لب البيان. وعلى معانٍ متقاربة عند رواد القشور. وتعدد الألفاظ مع توحد المعنى (وهو الذي يسمونه الترادف) لا عيب فيه على لغة؛ لأنه كتعدد الحُلل لكاسية واحدة. ولكن بعض المتورعين في حفظ الدلالات اللغوية من طوارق النسيان يجتهدون أن لا يثبتوا الترادف بادعاء معان متقاربة أو فروق لا تكاد تذكر في مثل هذه المترادفات ولا نعيب فعلهم هذا فإن له فوائد؛ ولكن نسألهم أن لا يعيبوا قولنا بترادف هذه الكلمات التي رُمنا بتعديدها تفسير بعضها ببعض وبيان ترادف ما اشتقت منه ليتم من قولنا (حب الزينة) إعلام بحب الجمال الطبيعي كالصناعي، وقد حملنا على هذه الإيضاحات ما نعلمه من تفريق الاصطلاح وأهله بين هذه المتحدات تفريقًا أفضى إلى تشتيت الفهوم. وهنا أستغفر من هذا الاستطراد الطويل وإنْ أوجبه المقام. نعود إلى معرفة حقيقة الحسن الزين الجميل ثم نسأل نفسنا وغيرنا: ما هو الحَسَنُ؟ ما هو الحُسْنُ؟ ما هو الاستحسان؟ ما هو حب المستحسن؟ لماذا نستحسن؟ لماذا نحب الحسن؟ لماذا نختلف بالاستحسان؟ ما هو عشق المستحسنات الذي يميل بكلٍّ نحو مستحسن فيغرم به؟ هذه مسائل تخطر في بال كثيرين ولكن قلَّ أن تجد في حجرات السرائر مقرًا تقيم فيه برهة طويلة، أستدل على ذلك بعدم ثبات إراداتها معشر بني النوع؛ اللهم إلا قليلاً من أحكام الحكماء الذي تزكت أرواحهم فكانوا بالأسرار من العارفين، ولا جُناح عليَّ أن أعترف بأني لا أملك تلك المَلَكَة التي بها يتيسر الجواب عن كل مسألة من هذه المشروحات ولكني أظن أن هذا لا يكون مانعًا من عرض ما استفاده الفكر من ملاحظاته في عالمَيْ الشهادة والغيب. فأشد ما ساح في هذين العالَمين في سبيل اكتشاف هاتيك الشؤون. (١) ما هو الحسن؟ نجيب عن السؤال الأول جوابًا يفتح كل مغلق أمامه من المسائل فنقول: الحسن إن كان محسوسًا فهو ما يفي بالحاجات ويزيد عليها أمورًا تنبسط النفس بمرآها لمناسبة ما خُفِيَّةٍ تَنْقدِح في النفس ويظهر للقارئ أن هذه المناسبة ببقائها خفية بقي الكثير من أسرار الاستحسان في المحسوسات غامضًا وستأتي زيادة بيان، وإن كان الحسن غير محسوس فهل هو ما يستحسنه كل عقل لنفسه؟ كلا، بل هو ما تتفق العقول السليمة كلها أو جُلها على استحسانه ويجب أن نصرّح هنا بأنه لا عبرة بكثرة الذين يستحسنون الشيء تقليدًا بل العبرة بكثرة الحكماء الذين يستحسنون الشيء عن طول تفكر. وإذا وجدناهم مختلفين في شيء وفي جانب كل حزب كثرة؛ فإن لأصحاب العقول من أهل الزمان الذي هم فيه أن يتفكروا كما يتفكرون، ولهم أن يصرّحوا باستحسان ما استحسنوه فليس ثمّة أغلال للأفكار. ويختلج في الأذهان أن حرية الاستحسان في غير المحسوسات توجب انفراجًا واسعًا بين الأفراد. وإنه ليكاد هذا الظن أن يكون صوابًا لولا سببان عظيمان: أحدهما: أن توسع حاجة النوع إلى الاجتماع وتوسع حاجاته في الاجتماع قد ضَيَّقا بالتدريج ذلك الانفراج من قبل أن يتسع اتساعًا عظيمًا؛ إذ كما تتسع أشياء من الضيق تضيق أشياء من السعة. الثاني: أن العلم الذي رزقه مجموع النوع قد قارب بين الأفكار بأنواع خاصة سيجيء بيانُها. وبهذا التقارب صار الأفراد الذي لا يُحصَوْن جماعات تحصى، ومن المشاهد أن لكل جماعة مستحسنات عامة لا يستنكرها الأفراد وإن لم تكن حسنة في الحقيقة؛ لأنهم مقلدون. وأكثر هؤلاء الجماعات يذهبون إلى أن الحسن ما حسنته مذاهبهم الدينية على أنه مهما بالغ المبالغون في حبس حرية الأفكار فلا يسعهم مناقشة الناس إذا بدا لهم ضد ما حسنته المذاهب؛ بل يضطرون إلى المجاملة بضروب من الاصطلاحات معروفة لمن مرَّ بتلك الأبواب. وبمثل هذا كانت ولا تزال تحصل التغيرات في العالم، ويجب أن لا نكتم أن حكماء الناس هم حكماء الأفكار؛ ولكن قد تصير فترات تضيع فيها الحكمة ويقوم أناس ينتحلون لأنفسهم هذه الوظيفة بصبغة أخرى فيحيون ضالين مضلين. وفي هذه الأيام يصير غير الحسن حسنًا. يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسنِ هذا، والمقام يحتاج إلى فضل بيان ولكننا أجملناه إجمالاً فمَن لم يسع ما في باطنه كفاه ظاهره الواضح. وسواء كان المستحسن مستحسن جماعة أو مستحسن فرد من محسوس أو متخيل لا يمكننا تعليل وجه الاستحسان في كل شيء؛ ولكن نعلم أن العلة العامة في استحسان الأشياء هي مناسبة تنقدح في النفوس. ونعلم أن استحسان كل شيء علة محبته، والاهتمام به على مقدار درجة المحبة (إذ لها درجات) . ونعلم أن هذه الاستحسانات من حيث هي طبيعية في النوع. ونعلم أنها هي التي أوصلت مصانع الإنسان إلى هذه الصورة الباهرة الساحرة ونعلم أن هذه المصانع من المميزات العظمى لهذا النوع. ونعلم أن الإنسان سيتسامى رقيُّه مادام يستحسن ويسعى وراء ما يستحسنه باهتمام يسوق، وأمل يقود، وعزم يعين. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))