للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خطأ العقلاء

من مقالات الأستاذ الإمام في جريدة الوقائع المصرية، وفيها تعريض
بالعرابيين كتبها في العدد ١٠٧٩ الصادر في خمسة جمادى الأولى سنة ١٢٩٨ - ٤
أبريل سنة١٨٨١.
إن كثيرًا من ذوي القرائح الجيدة إذا أكثروا من دراسة الفنون الأدبية ومطالعة
أخبار الأمم وأحوالهم الحاضرة تتولد في عقولهم أفكار جليلة، وتنبعث في نفوسهم
همم رفيعة تندفع إلى قول الحق وطلب الغاية التي ينبغي أن يكون العالم عليها،
ولكونهم اكتسبوا هذه الأفكار وحصَّلوا تلك الهمم من الكتب والأخبار ومعاشرة أرباب
المعارف ونحو ذلك - تراهم يظنون أن وصول غيرهم إلى الحد الذي وصلوا إليه
وسير العالم بأسره أو الأمة التي هم فيها بتمامها على مقتضى ما علموه هو أمر
سهل مثل سهولة فهم العبارات عليهم وقريب الوقوع مثل قرب الكتب من أيديهم
والألفاظ من أسماعهم فيطلبون من الناس طلبًا حاثًّا أن يكونوا على مشاربهم،
ويرغبون في أن يكون نظام الأمة وناموسها العام على طبق أفكارهم، وإن كانت
الأمة عدة ملايين، وحضرات المفكرين أشخاصًا معدودين، ويظنون أن أفكارهم
العالية إذا برزت من عقولهم إلى حيز الكتب والدفاتر ووضعت أصولاً وقواعد لسير
الأمة بتمامها ينقلب بها حال الأمة من أسفل درك في الشقاء إلى أعلى درج في
السعادة، وتتبدل العادات وتتحول الأخلاق، وليس بين غاية النقص والكمال إلا أن
يُنادى على الناس باتباع آرائهم.
تلك ظنونهم التي تحدثهم بها معارفهم المكتسبة من الكتب والمطالعات، وإنهم
وإن كانوا أصابوا طرفًا من الفضْل من جهة استقامة الفكر في حد ذاته وارتفاع الهمة
وانبعاث الغيرة لكنهم أخطأوا خطأً عظيمًا من حيث إنهم لم يقارنوا بين ما حصلوه
وبين طبيعة الأمة التي يريدون إرشادها، ولم يختبروا قابلية الأذهان، واستعدادات
الطباع للانقياد إلى نصائحهم واقتفاء آثارهم، ولو أنهم درسوا طبائع العالم كما
درسوا كتب العلم، ودققوا النظر في سطور أخلاقه وعاداته الحقيقية الواقعية التي
اقتضتها حالة وجوده، بل لو قارنوا بين الحوادث المسطرة في الكتب، وتبينوا
كيفية انتقال الأمم من بداياتها إلى نهاياتها لعلموا أن الأمم في أحوالها العمومية
كالأشخاص في أحوالها الخصوصية، بل إن الأحوال العمومية هي عبارة عن
مجموع الأحوال الخصوصية، وليست الأمة مثلاً إلا مجموع أفرادها، وليس حال
الهيئة المركبة من تلك الأفراد إلا مجموع أحوال هاته الأفراد.
فعلى من يريد كمال أمة بتمامها أن يقيس ذلك بكمال كل فرد منها ويسلك في
تكميل العموم عين الطريق التي يسلكها لتكميل الواحد، هل يسهل على صاحب
الفكر الرفيع أن يودع في عقل الطفل الرضيع أو الصبي قبل رشده وقبل أن يتعلم
شيئًا من مبادئ العلوم تلك الأفكار العالية التي نالها بالجد والاجتهاد وكثرة المطالعات؟
كلا بل لو أراد أن يجعل شخصًا من الأشخاص على مثل فكره احتاج إلى أن يبدأ
بتعليمه القراءة والكتابة، ثم مبادئ الفنون السهلة التحصيل، ثم يتدرج به شيئًا
فشيئًا حتى ينتهي بعد سنين عديدة إلى بعض مطلوبه، ثم هو في خلال ذلك محتاج
إلى أن يحصر أعماله ويقيدها بقيود من الترغيب والترهيب، وأن يراقب حركاته
في أعماله خوفًا من اختلاطه بفاسدي الأخلاق والأفكار أو المائلين إلى الكسالة
والبطالة أو ورود موارد الشهوات، ونحو ذلك من الملاحظات التي لا بد منها فإن
اختل شيء من الترتيب في التعليم بأن قدم الأصعب على الأسهل مثلاً أو أهمل
ملاحظة أعماله وأحواله اختلت التربية وذهبت الأتعاب سُدى، واستحال صيرورة
حال ذلك الشخص مماثلة لحالة مرشده.
ولو أنه أراد تحويل أفكار شخص واحد وهو في سن الرجولية هل يمكنه أن
يبدلها بغيرها بمجرد إلقاء القول عليه؟ كلا، إن الذي تمكن في العقل أزمانًا لا يفارقه
إلا في أزمان. فلا بد لصاحب الفكر أن يجتهد أولاً في إزالة الشبه التي تمسك بها
ذلك الشخص في اعتقاداته، وذلك لا يكون في آنٍ واحد ولا بعبارة واحدة، ولكن
بعبارات مختلفة في التقريب بعضها سهل المأخذ قريب المنال، والبعض أرقى منه،
وبعضها خطابي، والآخر برهاني، وما شابه ذلك. فإن لم يتخذ تلك الوسائل في
إرشاده امتنع عليه مقصوده، بل ربما جره نصحه إلى الضرر بنفسه، تلك هي
الحالة المشهودة التي لا ينكرها أحد، ثم إن نجاحه في تغيير فكر واحد مع كل هذا
الاجتهاد موقوف على أن صاحب ذلك الفكر الفاسد لا يعاشر ولا يخالط في خلال
تعلمه إلا مرشده صاحب الفكر السليم، فإن كان يخالط غيره ممن يؤيد فكره الأول
طال الزمن وربما لم ينجح فيه الإرشاد، وأظن (أن) هذا يعترف به كل من
مارس الأخلاق والعادات.
إن كان هذا حال شخص واحد إذا أردنا إصلاح شأنه في صغره أو كبره مع
أنه يسهل ضبط أعماله وأحواله والوقوف على كُنْه أوصافه ودرجات تقدمه في
المقصود وتأخره فيه، فما ظنك بحال أمة من الأمم تختلف عناصرها وتتباين
شعوبها؟ فمن الخطأ بل من الجهالة أن تكلف الأمة بالسير على ما لا تعرف له
حقيقة أو يطلب منها ما هو بعيد عن مداركها بالكلية، كما أنه لا يليق أن يطلب من
الشخص الواحد ما لا يعقله أو ما لا يجد إليه سبيلاً.
وإنما الحكمة أن تحفظ لها عوائدها الكلية المقررة في عقول أفرادها، ثم
يطلب بعض تحسينات فيها لا تبعد منها بالمرة، فإذا اعتادوها طلب منهم ما هو أرقى
بالتدريج حتى لا يمضي زمن طويل إلا وقد انخلعوا عن عاداتهم وأفكارهم المنحطة
إلى ما هو أرقى وأعلى من حيث لا يشعرون، أما إذا وضع لهم من الحدود ما لم
يصلوا إلى كنهه، أو كلفوا من العمل ما لم يعهدوه، أو خولوا من السلطة ما لم
يعودوه رأيتهم يتخبطون في السير؛ لخفاء المقصود عنهم وضلال الرأي فيما لم
يكن يمر على خواطرهم، فيمكن أن يخرجوا عن حالتهم الأولى لكن إلى ما هو
أتعس منها بحكم الاستعداد القاضي عليهم بذلك.
مثلاً: إننا نستحسن حالة الحكومة الجمهورية في أمريكا واعتدال أحكامها
والحرية التامة في الانتخابات العمومية في رؤساء جمهورياتها وأعضاء نوابها
ومجالسها وما شاكل ذلك، ونعرف مقدار السعادة التي نالها الأهالي من تلك الحالة،
ونعلم أن هذه السعادة إنما أتت لهم من كون أفراد الأمة هم الحاكمين في مصالحهم
بأنفسهم؛ لأنهم أرباب الانتخاب، وإنما رؤساء الجمهوريات وأعضاء المجالس
نواب عنهم في حفظ تلك المصالح والحقوق التي رأوها لأنفسهم. وتتشوق النفوس
الحرة أن تكون على مثل هذه الحالة الجليلة، لكننا لا نستحسن أن تكون تلك الحالة
بعينها لأفغانستان مثلاً حال كونها على ما نعهد من الخشونة، فإنه لو فوض أمر
المصالح إلى رأي الأهالي لرأيت كل شخص وحده له مصلحة خاصة لا يرى سواها،
فلا يمكن الاتفاق على نظام عام، ولو طلب منهم أن ينتخبوا مائة نائب مثلاً
لرأيت كل شخص ينتخب صاحبًا له أو نسيبًا أو قريبًا، فربما ينتخبون آلافًا
مؤلفة، ثم لا ينتهي الانتخاب إلى المرغوب أصلاً لوقوف كل واحد عند انتخابه
الأول، ولو وكل إليهم انتخاب رئيس للحكومة لانتخبت كل قبيلة رئيسًا منها، ثم
يقع الهرج بين الرؤساء، وهكذا حال الأمم التي تعودت على أن يكون زمامها بيد ملك
أو أمير أو وزير يدير أعمالها بدون أن يكون لها دخل في رؤية مصالحها - لا
يمكن أن يطلب منها الدخول في أعمالها العامة وإلا فسدت، فإذا أردنا إبلاغ الأفغان
مثلاً إلى درجة أمريكا فلا بد من قرون تُبث فيها العلوم وتهذب العقول وتذلل
الشهوات الخصوصية وتوسع الأفكار الكلية حتى ينشأ في البلاد ما يسمى بالرأي
العمومي، فعند ذلك يحسن لها ما يحسن لأمريكا.
ويا عجبًا هل الشخص الذي توارث العوائد عن آبائه وأجداده ومرن عليها من
مهده إلى كهولته وتعود تفويض مصلحته إلى إرادة غيره يصح أن يطلب منه في
زمان واحد خلع جميع ذلك، ويلقى إليه زمام مصلحته وهو في جميع عمره لم يفكر
فيها، إن هذا لخطأ ظاهر.
ولكون أرباب الأفكار منا يرومون أن تكون بلادنا وهي هي كبلاد أوربا وهي
هي، لا ينجعون في مقاصدهم، ويضرون أنفسهم بذهاب أتعابهم أدراج الرياح،
ويضرون البلاد بجعل المشروعات فيها على غير أساس صحيح، فلا يمر زمن
قريب إلا وقد بطل المشروع ورجع الأمر إلى أسوأ مما كان؛ فيفوت الزمان وهم
على حالهم القديم، وكان لهم إمكان أن يكونوا على أحسن منه، فمن يُرد خير
البلاد فلا يسعى إلا في إتقان التربية، وبعد ذلك يأتي له جميع ما يطلبه - إن كان
طالبًا حقًّا - بدون إتعاب فكر ولا إجهاد نفس، وفي الكلام بقية أذكرها بعد هذا العدد.
وكتب في العدد ١٠٨٢:
كلام في خطأ العقلاء
تولى أمر هذه البلاد (المصرية) أناس في أزمنة مختلفة، تظاهر كل منهم
بأنه يريد تقدمها ونقلها من حالة الهمجية (على ما يزعم) إلى حالة التمدن التي
عليها أبناء الأمم المتمدنة، وجعلوا الوسيلة إلى ذلك أن تنقل عادات أولئك الأمم
المتمدنين وأفكارهم وأطوارهم إلى هذه البلاد وظنوا أن تقليدنا لعاداتهم وأخذنا الآن
بأفكارهم اليومية، وتشبهنا بهم في الأطوار كافٍ في أن نكون مثلهم، وأن
استلامنا لتلك العادات وتلقينا الأفكار أمر غير عسير.
لم ينظروا في الأسباب والوسائل التي توصل بها أولئك الأمم إلى هذه الحال
التي هم عليها حتى يعتدوا مثلها أو قريبًا منها لترقي هذه البلاد، بل ظنوا أن هذه
الغاية من الممكن أن تكون بداية، مع أن ما نرى عليه جيراننا من الممالك الغربية
لم يصلوا إليه إلا بعد معاناة أتعاب ومقاساة مشاق وسفك دماء شريفة وثل عروش
ملك رفيعة، وكانوا في كل ذلك يقربون من المقصود تارة ويبعدون عنه أخرى،
كما يرشدنا إليه تاريخهم حتى بدلت الحوادث الدهرية طبائع الأهالي وغيرت
أخلاقهم , ونبهت الضرورات أفكارهم , وهذبت المخالطات الجهادية والتجارية
عقولهم.
إن بداية التقدم الأوربي في الحقيقة كان في نفوس الأهالي وأفراد الرعايا.
علمتهم الحروب الصليبية سبر البر والبحر، وخالطوا فيها الأمم الشرقية أجيالاً،
وطمحت أنظارهم لمغالبتهم، فدققوا في سبب قوة الشرقيين (التي كانت لهم إذ ذاك)
وبحثوا في أحوالهم فرأوا لهم عادات جميلة وفيما بينهم أفكار سامية، ورأوا في
دوائر أعمالهم اتساعًا وأيدي الصناعة والاكتساب مطلقة الحرية؛ ولذلك كان الغنى
والعز مستوكرًا أقطارهم؛ فأخذ أهالي أوربا عند ذلك في تقليدهم، لكن لا في
البهارج والزخارف بل في أسبابها والموصلات إليها وهي توسيع نطاق الصناعة
والتجارة ونحوهما من وجوه الكسب؛ فكان ذلك أساسًا للعمل وقر في النفوس وثبت
في العقول، وبنوا عليه ما شاءوا، ولو تأملنا تاريخ سير التقدم الأوربي لرأينا
أسباب التقدم يجمعها سبب واحد وهو إحساس نفوس الأهالي بآلام صعبة الاحتمال
من ظلم الأشراف (النبلاء) وغدر الملوك، وضيق وجوه الاكتساب، ونفرة دينية
على المسلمين الذين استولوا على حرمهم المقدس، وهذا الإحساس هو الذي دعا
الأنفس الكثيرة العدد إلى الخروج من هذه الآلام فطلبوا لذلك أسبابًا متنوعة أقواها
التعاضد والتعاون على ترويج وسائل الكسب وافتتاح أبواب الرزق، فكانت تعقد
لذلك المحالفات والمعاهدات وتتألف له الجمعيات , فكان جرثومة تقدمهم أمرًا منبثًّا
في غالب الأفراد ومحرزًا في أغلب العقول، وهو نشاط الأهالي في اجتلاب الثروة
وطلبهم لحرية العمل لينالوها , ورفضهم لتلك التقيدات التي كانت تمنعهم من طلب
حقوقهم الطبيعية، ثم تدرجوا فيه ينتقلون من حال إلى حال، والأصل ثابت لا
يتغير حتى عم التغير جميع العوائد والمشارب والقوانين، ولم يكن ذلك كله إلا من
حرص الأهالي أنفسهم على الخروج من الآلام التي كانوا يشعرون بها في كل لحظة
من حياتهم , ويتوارث هذا الشعور وذلك الحرص أبناؤهم من بعدهم.
أما عقلاؤنا فقد وجهوا نظرهم إلى حالة التمدن الحاضرة والأهالي على غير
علم منها بأنفسهم، فاستلفتهم العقلاء إليها لكن لا بتحريك غيرتهم إلى العمل اختيارًا ,
أو ألجأتهم إليه اضطرارًا وتسهيل الطرق لهم حتى يسير من جميع عناصر البلاد
وطبقاتها أشخاص مختلفون في الأفكار والأحوال إلى تلك البلاد المتمدنة، ويشهدوا
عاداتها وأحوالها ويهتم العقلاء منهم بالبحث عن أسباب السعادة وموجبات الشقاء
اهتمام المضطر الذي يطلب خلاص نفسه من هلاك يتوقعه، بل جلبوا إليهم كثيرًا
من أبناء تلك البلاد تظهر عليهم الرفاهية، وترى عليهم آثار النعمة يتكلمون بما لا
يفهم، ويتفكرون فيما لا يعقل , فشادوا بيننا أبنية وزينوها بما لم نكن نعهده من
أنواع الزينة، وجلبوا إلينا من مصنوعاتهم ما راق منظره وطار مخبره، لكننا لم
نشهد مصنعه، ولم ندرِ منبعه، ورأيناهم يتزينون بهذه اللطائف التي تذهب الحزن
وتشرح الخواطر ويتنافسون فيها، فأعجبتنا حالهم هذه، وقال لنا العقلاء: كونوا
مثلهم والحقوا بهم في هذه السعادة، ثم صاروا أئمة لنا في العمل، فأخذنا نتشبه بهم
لكن فيما رأيناه وهو الزينة والبهرجة غير باحثين عن كون ذلك هو الذي يلحقنا بهم
في الحقيقة أم لا، ومن ذلك ترى أفكار الغالب منا دائمًا عند ما يجد فرصة الاقتدار
موجهة إلى تشييد الأبنية، وتجويد وضعها، وإتقان ترتيبها، وتزيين بواطنها
وظواهرها , والتوسع في لوازم المآكل والمشارب وآلاتها وأوانيها والتفنن فيها،
وجلب ما هو أغلى ثمنًا وأدخل في النظر وأجلب للأنس والتأنق في الملابس
ومحاذاة الأوربيين فيها، ومحاولة أن تكون على النمط الأعلى عندهم، وعلى هذا
النحو تفننا في أنواع المفروشات وتألقنا في اقتنائها من أنواع مختلفة مما غلا ثمنه
وارتفعت عن الطاقة قيمه، وتنافسنا في ذلك كتنافس أسلافنا في افتتاح البلاد وتملك
الحصون. وبالجملة فقد سلكنا مسالك المتمدنين في ثمرات تمدنهم التي جعلوها من
زوائدهم، فأسرفنا في الإنفاق، وصار الناظر لملابسنا ومساكننا والذائق لمطاعمنا
ومشاربنا يشهد بأننا في ذلك بحمد الله متمدنون، فقد اشتركنا معهم في ثمرات التمدن،
أي ما ينتهي إليه حال المتمدن من طلبه للتمتع باللذائذ وركونه لترويح النفس
وتخفيف أتعابها.
لكن من تأمل حقيقة الأمر علم أن مثلنا في ذلك كمثل الدجاجة رأت أن
الأوزة تبيض بيضًا كبيرًا فطلبت أن تبيض مثلها، فأجهدت نفسها في أن تكون كذلك
غير عارفة أن ذلك لا يكون إلا باستعداد (أي بأن تكون أوزة) فحبست نفسها
واستعملت قوتها الدافعة حتى انشق منها ما انشق وتمزق منها ما تمزق، فإن
إفراطنا في تقليد الأوربيين ومجاراتهم في عاداتهم التي نظنها تفوق عاداتنا البسيطة
فعل في نفوس غالب الأغنياء منا فعلاً غريبًا، صرف نظرهم إلى اللذائذ واستكمال
لوازم الترف والنعيم , وأحدث في نفوسهم غفلة عما يحفظ ذلك عليهم، بل يوجب
ازدياده لديهم وهو الوقوف على الطريق المستقيم الموصل إلى اكتساب المجد
الحقيقي والشرف الذاتي الذي يتبعه الغنى والثروة والراحة المستتبعة للذة الحقيقة
والنعيم الباقي في الحياة وبعدها، ومن هذه الجهة (جهة الغفلة عن روح الثروة
وحياتها وهو التمدن الحقيقي، أعني الإحساس بوجوه اللذائذ والآلام والتنشيط في
طلب وجوه الكسب المتنوعة، وطلب المنة على تلك الوجوه ومراعاة الحقوق
والواجبات الطبيعية والشرعية) فارقوا الأمم المتمدنة فصح أن يطلق عليهم أنهم
في غاية التمدن مع أنهم إما في بدايته وإما قبلها بكثير، وحق لهم ذلك فإنهم رأوا
أبواب اللذات مفتحة قبل أن يجدوا عقلاً يقدر لهم ما يلزم منها وما لا يلزم.
كل ذلك نشأ من جلب تلك العوائد الترفيهية إلى بلادنا وطلب التحلي بها بدون
أن نحوز ما يوصلنا إليها من أنفسنا , وليتنا قبل أن نشيد بيوتنا بالارتفاع الشاهق
والترتيب المحكم ونزينها بأنواع النقوش والأثاثات أبقيناها على بساطتها , وشيدنا
في عقولنا الهمم الرفيعة والحمية التي لا تمتد إليها الأيدي، وأحكمنا طرق سيرنا في
حفظ حقوقنا، ورتبنا في مداركنا جميع الوسائل والمعدات التي تحفظ علينا ما وجدنا،
وتجذب إلينا ما فقدنا , وزينا نفوسنا بالفضائل الإنسانية والشرعية من رحمة
بالضعفاء ورفق بالملهوفين وغيرة على البلاد وأنفة عن الصغار.
لعمر الله لو قدمنا هذه الزينة الجوهرية على ذلك الرونق الصوري لكان العالم
بأسره ينظر إلينا نظر الراهب الخائف أو يرمقنا بلحظ المعظم المبجل، وكانت
معيشتنا البسيطة أوقع في نفسه من معيشته الرفيعة , وكان ذلك سهلاً لو أن
الزاعمين فينا حب الترقي والتقدم ساروا بنا من البدايات وحجبونا عن النهايات حتى
لا نراها إلا من أنفسنا فنطلبها لا لأنها أعجبت النظر ولكن لأنها بنت الفكر ونتيجته،
وكانوا يعلموننا محاذاة المتمدنين في أصول أعمالهم لا في زوائدها، فكنا بذلك
نصل إلى ما وصلوا إليه في زمن أقل بكثير من الزمن الذي نالوا فيه ما نالوا، لكن
فات الوقت ونحن الآن فيه فعلينا بالعمل غير مقتصرين على مجرد الأمل.
وكتب في العدد ١٠٩٢الصادر في ١٩ابريل سنة١٨٨١
كلام في خطأ العقلاء
لسنا ننكر أن بلادنا كانت في الأزمان السابقة تحت تصرف أقوام خشنين لا
يعلمون للخلقة غاية إلا وجودهم الشريف، وكانوا يعدون أفراد الأهالي أنعامًا خلقت
لهم يستعملونها كيفما يريدون (كما كان ذلك شأن سائر الأمم غربية وشرقية)
فأرغموا أنف الطبيعة ومحوا أنوار الإلهام الفطري الذي وضعه الله في نفوس عباده
لفهم منافعهم ومضارهم حيث وقفوا سدًّا حصينًا بين كل شخص ومنافعه، فاستأثروا
بجميع ثمرات الأعمال، فلا يعمل العامل وله أمل بأن يجني ثمرة عمله، فإنه عندما
تبدو الثمرة يسرع حاكمه إلى قطفها، وكانت حياته معقودة بغضب ذاك الحاكم
ورضاه، فإن رضي عنه فهو في أمن عليها , وإن غضب عليه فهو إن عاش
كمريض بلغ به المرض غايته ينتظر الموت في كل لحظة، فيكون في حالة تسليم
مطلق (خائف على حياته مستسلم لقضاء حاكمه) وبالجملة لم يكن لأحد من الأهالي
حركة اختيارية ناشئة عن فكره الخاص به في تحصيل منفعة أو درء مضرة، بل
كانت أعماله تابعة لإرادة سيده الحاكم، وكان يعتقد أنه وما ملكت يداه حل للآمر
عليه، وليس لتصرف ذلك الآمر حد يجب أن ينتهي إليه، وهذه حالة يصعد بها
تاريخ هذه البلاد أجيالاً كثيرة، إذا استرسلنا في طلب مبدئها قد نصل إليه وقد لا
نصل، وبذلك الاسترقاق الظاهري والباطني فنيت الإرادة ومات الاختيار وطفئ
نور الفكر بالمرة.
وكان من جملة التقييدات العنيفة التي وضعها أولئك المتسلطون، الحجر على
أهالي المدن وغيرها في الأعمال والأقوال الشخصية، حتى كانوا من شدة التضييق
يستعملون طريقة يقال لها الكبسة، وهو أن يهجم رجال الضابطة على بعض
الأماكن ليلاً؛ ليقبضوا على من يظن بهم الاجتماع على فسق كفحش بالنساء أو
شرب للمسكرات وما شاكل هذا، فإن وجدوا شيئًا من ذلك ساقوا من يجدونه إلى
حيث يستوفي عقابًا أليمًا، وكذلك وضعوا في الأفواه لجامًا من الرهبة، فلا يكاد
ينطق الناطق بكلمة في مطلب علمي أو تجادل في حال شخص إلا ويرمى بكفر
وزندقة أو طعن في حاكم، وله عند ذلك الويل الذي لا مخلص منه. كل ذلك سمعنا
بعضه بالنقل، ورأينا بعضه الآخر بالعيان.
فتلك كانت حالة تعيسة يجب على عقلائنا أن ينتحلوا كل وسيلة لتخليص
رقاب العباد منها. فرزق الله هذه البلاد بأناس خالطوا الأمم المتمدنة، وطالعوا
أحوالها، ورأوا ما عليه أهلوها من إطلاق الإرادة وحرية الاختيار، فطلبوا لبلادنا
أن تكون في أحوال أهاليها الشخصية على مثال تلك البلاد المتمدنة، لكنهم أول ما
بدءوا به أن أباحوا (ما أقبحها من إباحة) لكل شخص أن يعمل فيما يخص نفسه
بإرادته ويتكلم فيما هو مقصور على ذاته بمقتضى فكره، وشرطوا في ذلك شرطًا
(ما أنفسه من شرط) وهو أن تكون تلك الأعمال والأقوال متعلقة بارتباطاته مع
حاكمه، فإن كانت كذلك فدونها ضرب الرقاب أو سكن الحبوس أو الجلاء عن
الأوطان، وسموا تلك الإباحة حرية ونادوا بها على الألسنة الظالمة، فكان حاصل
تلك الحرية أن لا جناح على من ارتكب أي جريمة، وتطبع بأي خلق حسنًا كان أو
سيئًا، وذهب إلى أي مذهب صحيحًا كان أو فاسدًا، وإنما عليه أن يكون تحت أمر
الحاكم ليس له حق في أن يمنع عنه مطلوبًا أو يستقضي منه مسلوبًا أيًّا كان، فلم
يجعلوا للسلطة حدًّا معينًا، وهو الذي نسميه بالقانون الذي يعرفه كل أحد، فيقف
عنده بل أبقوها على ما كانت عليه، وجعلوا تلك الحرية غطاء على هذا الاستعباد،
فهم في الحقيقة لم يقلدوا الأمم المتمدنة في إطلاق الإرادة من جهة الارتباطات
العمومية الثابتة فهذا خطأ من وجه - إن كان لهم مقصد إصلاح - وظلم إن
كانوا معتمدين هذا التقييد، ثم إنهم قلدوها في الأحوال الجزئية الشخصية مع علمهم
أن البلاد غير معتادة على مثل هذه الحرية فيها، فلذلك اندفعت الناس إلى انتهاب
الشهوات وهتكوا حرمة الوقار، وتهالكوا على شرب المسكرات في بلادنا الحارة إلى
الحد الذي لا يبلغه الأوربيون في بلادهم الباردة، وكثرت لذلك الحانات ومخازن
الشراب المهلك للعقول والأبدان، ثم تولعوا بما يتبع السكر من اللهو واللعب
وتنافسوا في الحظوة عند النساء الباغيات، واتسع الأمر في ذلك حتى صارت
المداعبة والملاعبة بين النساء والرجال في الطرق والشوارع وتعدى ذلك المرض
المعدي إلى الحرائر، فذهب الكثير منهن إلى حيث يبتغين، وافتضحت بذلك بيوت
شريفة، وكلما طلبت لذلك منعًا أو رُمت له دفعًا قال المولع: هذا حرية.
فضاع شأن الآداب وانحطت قيمة الشرف والوقار، حيث أصبح أبناء الأغنياء
وذوي المقامات يتسابقون إلى التهور في هذه الأحوال الرديئة، ويدعون إليها من
دونهم ومن فوقهم (إلا قليلاً) ويصرفون فيها ما لا يقدر من النقود (وسأجعل لذلك
موضوعًا خاصًّا) ، وكاد فساد الأخلاق يسري إلى كثير من طبقات الأهالي - هذه
نتائج حرية ذلك العمل.
وأما نتائج حرية الفكر (التي يزعمونها) فكانت خاصة بالاعتقادات
والمشارب الدينية، فأخذ كثير من الناس يجهر بين العامة بألفاظ تناقض دينه الذي
ولد فيه، فإن قيل له: خفض من صوتك وأجمل في قولك فما كل الناس يرضاه،
قال: إننا في زمان الحرية. على أن أفكاره التي يذهب إليها في مخالفة دينه ليست
بأفكار مرتبة مبنية على مبادئ ربما يقال: إنه اتخذها مشربًا. بل ألفاظ حفظها من
معاشريه لو سئل عن معناها أو طلب منه أي وهم ساقه إليها لعجز عن التعبير،
والتجأ إلى التهوس ورمى من يخاطبه بالجهل والخشونة حيث لم يوافقه على مشربه
الفاسد، ثم يتخذ هذه الخزعبلات الاعتقادية التي يظنها تنورًا وتبصرًا ذريعة
لاستباحة القبائح واستحلال المحظورات، ولقد رأيت شخصًا ينكر ألوهية الخالق
والعياذ بالله، ثم يسأل عن حكمة المعراج ومنهم من ينكر النبوات، ويعتقد
بالشياطين وما أشبه ذلك، فهؤلاء من الجهل بمكان لا يعلوهم فيه حيوان فضلاً عن
إنسان.
فهذه الحرية البتراء التي رمانا بها عقلاؤنا لم تدع لها أثرًا يحمد وإن كان
الأورباويون يحرصون عليها، فإن استعداد بلادنا لم يكن ملائمًا لمثل هذا الإطلاق
الذي هو في الحقيقة عين الرق والاستعباد، فإن الجاهل الذي لم يتعود على
تصريف إرادته وإعمال اختياره، إذا أطلق له العمل وقع في أشد من الرق وأضر
من العبودية، نعم إنه عتق من أسر الضابطة وغل الجزاء , ولكن شهواته الخبيثة
تبيعه بأبخس الأثمان إلى الإسراف والبطالة والكسل وجميع أنواع الشرور، وتودعه
سجن الفقر وتغله بطوق الذل والعار، وياليته بقي تحت سيادة القانون يسوسه حتى
في أعماله الشخصية، فالكبسة على ما كان فيها من الخطر على النفس والأموال
وشناعة الصورة، لو أحسن فيها القصد لكانت أولى وأفضل إلى زمن تتقدم فيه
التربية، فيكون لكل شخص زاجر من نفسه فترتفع الكبسة بذاتها، ويذهب الناس
أحرارًا بطبعهم، وما كان ذلك بعسير ولا محتاج إلى زمن طويل، وما ضرنا إلا
التقليد على غير تبصر بحال البلاد واستعدادها.
فتلك الحرية التي سموها إطلاق الفكر قد عتقت صاحبها من قيد العقل،
وأسلمته إلى الجهل الأعمى، فهو يتصرف به كيف ما يقتضي من المضرات، ولو
أنه بقي تحت سيادة العقل يسوسه المهذبون ويقوده المتبصرون حتى يعلم من أين
تؤتى الأفكار، وبأي الوسائل يوفى العقل حظوظه الحقيقية، لكان ذلك خيرًا وأبقى،
ولم يحتج إلا لتخفيف يسير في شناعات المتعصبين وتعيين دائرة منتظمة يردد
الكلام بين محيطها إلى زمن معين حتى تستقيم العقول، فتضرب لنفسها حدًّا تقف
عنده، ولكننا طلبنا أن نكون على مثال الأوربيين في عوائدهم حتى المُضرة
بأخلاقنا وأعمالنا وأفكارنا.
وياليت العقلاء منا في الزمن السابق اقتدوا بالبلاد المتمدنة في الأزمان السابقة
عند إرادتهم تأييد الاستقلال حقيقة حيث بدأوا بالمجالس البلدية، فكان يمكنهم أن
يضعوا لأهل البلاد قانونًا بسيطًا ينطبق على عوائدهم وأحوالهم، ويقرب فهمه من
إدراكاتهم، ثم يفوض إلى أهل كل بلد أن تنتخب منها عددًا معينًا؛ ليقوم بالفصل
بينهم على مقتضى هذا القانون، ثم يصنعوا مثل ذلك في المدن على حسبها،
ويذهب أشخاص من العارفين إلى القرى والمدن؛ ليفهموا أولئك مواد القانون السهل
البسيط، ويدربوهم على كيفية العمل به ثم لا يزلوا على المراقبة أزمانًا، فلا
تمضي مدة حتى يكون جميع الأهالي عالمين بما يجب عليهم ولهم، فتنمو فيهم القوة
وتحيا فيهم روح الاختيار كما كانت عليه الجمعيات ببلاد إيطاليا وفرنسا وغيرها
في مبدأ تمدنها، ثم يتدرجوا في القوانين إلى أرقى مما وضعوا أولاً مع تفهيمه
وتعليمه لجمهور الأهالي ليعلموه فيقفوا عند حده.
وكان في ذلك غنية عن القوانين الضخمة التي لا يفهمها إلا الراسخون في
العلم، وهي محفوظة بين دفات الكتب وصدور بعض النبهاء، لكن الأهالي
أنفسهم الذين قد وضعت هذه القوانين لهم غير عالمين بها، فكيف يطلب منهم أن
يعملوا بمقتضاها؟ إن هذا لشيء عجاب، غير أن العقلاء منا يقولون: لا بد أن نكون
مماثلين لأوربا في القوانين والعادات رغمًا عن الحق الذي يقضي علينا بأن نكون
خاضعين لأحكام بقعتنا، وما تقتضيه طبيعة موقعنا الذي نشأنا فيه، ولن يكون ذلك
أبدًا.
وإننا نخشى لو تمادينا في هذا التقليد الأعمى واستمر بنا الأخذ بالنهايات
الزائدة قبل البدايات الضرورية الواجبة أن تموت فينا أخلاقنا وعاداتنا، وأن يكون
انتقالنا عنها (لو انتقلنا) على وجه تقليدي أيضًا فلا يفيد. لكن الوقت لم يفت بعد،
فعلى من يريد بنا خيرًا أن يذهب بنا طريقًا قويمًا ولا أراه إلا نشر القوانين (وإن
كانت طويلة صعبة المنال في وقتنا هذا، وما لا يدرك كله لا يترك كله) إنما لا
يكتفي بنشرها على لسان الجرائد، فإن قارئيها قليل، ولا بإرسال المنشورات إلى
عمد البلاد فإن كثيرًا منهم قلما يفهم إذا قرأ , ولكن لا بد من تشكيل جمعيات في
القرى والمدن لتفاهم القوانين واللوائح والمنشورات، وإلا ضاعت الحقوق وكثرت
المشاكل، وصعب كبح صغار المأمورين عن الإجراءات المضرة بالحكومة
والأهالي معًا، ثم وضع حدود قويمة للأعمال الشخصية والأخلاق والتصرفات،
فإن إصلاح الأخلاق والأفكار والأعمال من أهم واجبات البلاد، وبدونه لا يمكن
إصلاح شيء من أمورها وليس بجائز أن يجعل في درجة أقل من درجة قوانين
حفظ الضبط والربط.
ومركز النظر في جميع ذلك نبهاء البلاد وذوو الشأن فيها، فعليهم إن كانوا
صادقين في الوطنية أن يبذلوا الجهد في طلب ذلك والقيام بما يلزم وإلا فإنهم مقلدون
فقط، والله أعلم.
وكتب في العدد ١٤٠٠ الصادر في١٦جمادى الثانية سنة ١٢٩٩ - ٤مايو
سنة ١٨٨٢
التمرن والاعتياد
حصول صورة الشيء في النفس علم، وميلها إلى طلبه أو تركه إرادة،
والتصميم على أحد الأمرين عزم وليس بعده إلا الطلب بالفعل أو الترك، والترك لا
يحمل النفس كبير مشقة سوى الوقوف على كون المتروك من الأمور التي تكلف بها
النفس تكليفًا ضروريًّا أو كماليًّا أو كان من الأمور المباحة أو المحظورة، فإذا وقفت
على حقيقته انصرفت عنه انصرافًا.
أما الطلب فهو أحد الأمرين الذي يحمل النفس عنائين أحدهما يتعلق بها من
جهة قوتها الفكرية، والثاني من جهة القوة العملية المودعة في أعضاء البدن ,
والأول مقدمة الثاني وسابق عليه، ونسبته إليه لدى أرباب الحل والعقد ورجال النقد
نسبة الأمرين المتضايفين لا يوجد أحدهما بدون الآخر.
أما الأول فهو البحث في أصل الطلب واستقصاء ما يعود منه على الطالب أو
غيره من المنافع والتنقيب عن الوسائل، التي توصل إلى الغاية بلا مشقة ولا فوات
منفعة وتقدير الأعمال إزاء الفائدة؛ لتكون المنفعة مساوية على حكم التبادل في
الأعمال البشرية أو زائدة عنها على أصل التفاضل، وذلك كله إنما يكون بعد أن
تعرف نسبة الطلب إلى غيره من المطالب ليترجح عما سواه بخاصية من الخواص
حتى لا يلزم على الشروع فيه الترجيح بلا مرجح , هذا شرح حال العناء الأول
وليس بعده إلا الشروع في العناء الثاني عناء الأعمال البدنية.
أما فوائد الأعمال فهي وإن كانت جزئياتها غير قابلة للدوام والاستمرار، إذ
هي نتيجة أعمال متجددة، وكل متجدد فنتائجه كذلك، ولكنها تقبل الدوام بكليات
أنواعها دوامًا غير مطلق , والطالب لا يستغني عن هذه الفوائد وقتًا من الأوقات،
وكيف يستغني مع أن الحامل له على العمل حاجته إلى فوائده، سواء كانت من
الضروريات أو الكماليات فهو محتاج إلى دوام الفوائد، ودوامها يتوقف على دوام
الأعمال، وهو أمر موقوف على العامل، وليس إدمانه العمل المطلوب في
موضوعنا هذا أمرًا من لوازم وجود ذاته، فيحتاج إلى صفة زائدة تقضي عليه أن
يكون دائم العمل بقدر الحاجة، وليس احتياجه كافيًا لهذا الاقتضاء، إذ ربما تحققت
الحاجة بدون أن يتحقق دوام العمل، وإلا لم نسمع بذكر التهاون والكسل والإهمال
وما شاكلها، على أن الحاجة متفاوتة فما كان منها في الدرجة الأولى درجة
الاضطرار البحت، فهو بنفسه كافٍ لإدمان العمل بخلاف ما كان منها في الدرجات
الثانوية فما فوق والصفة القاضية بالإدمان؛ أي: المتممة لعلته هي التمرن
والاعتياد.
وبعبارة أوفق بالغرض: إن ما لا تدعو إليه الحاجة أصلاً في زمن من
الأزمان قد تدعو إليه في زمن آخر لا لسد الاضطرار البحت، بل لما زاد عنه من
الحاجات الثانوية كالكماليات والمحسنات، وقد تدعو إليه بعد زمن طويل أو قصير
لسد الاضطرار البحت، فلا يجد الإنسان عنه فرارًا فيتكلفه مقهورًا مقسورًا يتصور
المنفعة على بعد ولكنه غائب في دهشة آلام الأعمال التي لم يتكلفها يومًا من الأيام
لولا حكم الصروف والحادثات التي تقلبه على بساط القهر تقلب العصفور في يدي
الطفل، فلا يزال يحس بالألم ويدمن العمل حتى يهون عليه شيئًا فشيئًا إلى أن
يزول الألم بالكلية، ولا يجد إلا عملاً بدون ألم، فإذا مضت برهة بعد الابتداء
يحس من نفسه بعض الميل إلى العمل، فكأن الألم الأول استحال إلى ضده (على
حكم تلاقي الطرفين) ، ويجد منه باعثًا طبيعيًّا إليه، وهكذا يزداد الميل ويشتد
العشق حتى لا يميل به الكسل يومًا ما إلى إهمال العمل، وهذا هو المقصود من
التمرن والاعتياد.
أما كون الشيء ربما يكون ضروريًّا في وقت دون وقت فالأمر فيه وإن كان
على ما أظن لا يحتاج إلى البيان، غير أني بحكم الحاجة لتوضيحه لبعض
الناظرين أقول:
إن الإنسان من حيث هو مفكر لا يقف عند حد محدود فيما يتعلق بلوازم حياته،
وهو في ذاته غير مكلف بكل فرض مطلوب يعده من قبيل التمدن أو الحضارة أو
الترف في المعيشة أو غير ذلك، بل يكفيه ما يسد الرمق من القوت ويقيه الحر أو
البرد من اللباس، ويكنه وقت الإيواء من البيوت غير أنه لما تأنق في هذه
الضروريات بعض التأنق ورأى أنها تقبل التحسين شيئًا فشيئًا أخذ على نفسه أن لا
يقر له قرار ولا يهدأ له جأش حتى يستخرج من دائرة الإمكان كل ما تتأدى إليه
فكرته، فجد واجتهد، واستطلع بقوته النظرية خواص العناصر فحسبها عندما
اكتشف منها معدات تساعده على غرضه أنها لم تخلق إلا له، فتسلط عليها بصفتي
التحليل والتركيب حتى فتح أبوابًا للتجارة والزراعة والصناعة ووصل إلى ما وصل
إليه الآن، وهو في هذا السير الطويل يتحمل أثقالاً على أثقال كلما وصل منه إلى
درجة ظنها آخر الدرجات، وحسب نفسه فيها غريبًا؛ فيتخذ نتائج تقاليدها الغريبة
زينة شأن كل أمر غريب نادر الوجود إذ كل نادر عزيز. قال الشاعر:
سبحانه من خص القليل بعزه ... والناس مستغنون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذي ... نفس لمحتاج إلى أنفاسه
فإذا توطنت نفسه إلى هذه الغرائب زمنًا استزاد منها حتى يبلغ بها حد الكثرة
فيستعملها في لوازمه الضرورية في كافة أحواله، ولا يخص بها وقتًا دون وقت،
إلى أن تصير من قبيل الأمور المعتادة التي لا يستغني عنها بحيث يعتبر كل ما كان
أقدم منها وفي درجة قبلها من التقاليد ساقطًا عن درجة الاعتبار وغير جائز
الاستعمال، ويتوهم أن استعماله في الحالة التي وصل إليها يزري بمقامه المنيف
ويحط بمقداره الشريف، ولا يتذكر أنه هو الإنسان أيام كان يقتات بسائط النبات،
ويستتر بأوراق الأشجار، ويأوي إلى الكهوف والأغوار، فبان بما ذُكر أن الشيء قد
يكون ضروريًّا في وقت دون آخر.
ومن وجه آخر نقول: إِنَّا إِذَا سبرنا أخبار الأمم نعلم يقينًا أن الهيئة
الاجتماعية البشرية ما وصلت إلى درجة من درجات التمدن والحضارة في وقت من
الأوقات دفعة، بل لا بد كما يشهد العيان أن تسبق أمة من الأمم إلى غاية في المدنية،
فإذا نظرت إلى جارتها، وقد بقيت في مركزها متأخرة عنها. والإنسان {قُتِلَ
الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عبس: ١٧) بحكم الحيوانية مطبوع على التعدي والشره،
فتفاخرها بما يدهش العقول ويبهر النواظر من صناعاتها الغريبة وأوضاعها الجميلة،
فترمقها تلك بعين الذاهل المندهش، وتتوهم أن ضعفها واقعي فتنقبض نوعًا من
الانقباض، فإذا توسمت فيها هذه الانكماش والذعر (الخوف) أخذت تهددها بما
تقلب عليها من ضروب الحيل والدهاء، وبما تتظاهر به من قوة الجند وكثرة العتاد؛
فتقف تلك وقفة الحائر المتفكر إلى أن يرشدها التأمل إلى أن هذه ما وصلت إلى ما
وصلت إلا بالعلم والعمل المتوقفين على الكد والاجتهاد؛ فتندفع وراء الجد بحكم
الاضطرار حتى تصل إلى ما وصلت إليه أو تكاد، غير أن تلك أيضًا بعد أن تذوق
لذة التقدم، وتنسيها سكرة التيه طعم الذل الذي كانت تقاسيه تحت رهبة جارتها
الأولى، وتعامل الأمة المجاورة لها أيضًا بمثل ما كانت تعامل به في مبدأ الأمر
حتى تضطرها كذلك إلى أن تركب متن الاجتهاد في السير وراء من تقدمها، وهكذا
كلما دخلت أمة من باب كلفت به من يجاورها من الأمم حتى تنتظم الأمم جميعًا في
سلك واحد في هذا الباب، ولكن حيث إن حب التسابق طبيعة في الناس فلا تراهم
يقفون لدى نقطة، بل متى وصلوا إلى حد ما من حدود التقدم فلا يمضي زمن
طويل حتى يقال: إن أمة كذا انتهزت فرصة عظيمة وفتحت بابًا من أبواب التقدم
عاد عليها بالنماء في الأموال والأنفس والثمرات، وبأن مجاوريها يخشون بأسها
ويراقبون حركاتها؛ فتضطرب الهيئة الاجتماعية البشرية من هذا النازل الذي لم
يكن في الحسبان، ولا تسكن خواطر بقية الأمم والممالك حتى ينساقوا إلى هذه
الخطوة التي خطاها غيرهم على غفلة منهم وهم كارهون، فبان أن الأمم قد
يحتاجون في زمن ما لا يحتاجونه في آخر , فصدق القول: إن الشيء قد يكون
ضروريًّا وقد لا يكون.
وما ذكرناه من التقلبات والتنقلات يحكي حال الجمعية الإنسانية من يوم أن
تفرقت شعوبًا وقبائل يتخالفون في العوائد والأخلاق فيتنافسون ويتحاسدون على
النقير والقطمير، ويغلب عليهم حب الذات والميل إلى الخصوصيات، فيدعون أنهم
أجناس شتى، ولا يزال حالهم كذلك يتقلبون على جمر الشحناء ويعذبون بعوامل
البغضاء، فتارة ترمي بهم الأطماع في مخاليب التكلف ومشاق التنقل من حال إلى
حال فيضطربون لهذا الأمر اضطرابًا وينقبضون منه انقباضًا , وآونة يلقي بهم
الجهد الجهيد بعد أن يروا من الصعوبات ألوانًا في بوادي الراحة عندما يصلون إلى
نقطة التمرن والاعتياد، ولكنها نقطة غير ثابتة، كما أن درجات تقدمهم غير
متناهية، فلا يزالون يترددون من التعب إلى الراحة حتى يرجعوا إلى المجرى
الطبيعي فيلتئمون بعد التفرق، ويرفعون عن أعينهم حجاب هذا التشتت.
ويا ليت شعري ما هو النازل الذي حل بالإنسان فغير معالمه الطبيعية، وبدل
أخلاقه السلمية، وحل رابطته النوعية، وإلا فعهدنا به إن لم نقل: إنه من أم وأب
تسليمًا جدليًّا فهو من نوع واحد يشف مرآه عن الوحدة التامة الناطقة بأن الإنسان من
جرثومة واحدة نشأ عنها عائلة واحدة حواها بسيط واحد، ربطتها عادات وأخلاق
متحدة الصفة، ولقد رمزت تعاليمه الحاضرة - التي منها وهو أكبرها تعميم
المواصلات، وتأكيد الروابط بين الممالك وحركة الاجتماع والتآلف - إلى هذا السر
المكنون، وبشرتنا المحافظة العامة على دعائم السلام والراحة العموميين حفظًا
لحقوق الإنسان وصونًا لذمة الشرف بأن الحركة العمومية موجهة إلى النقطة الأولى،
وكلما قربت إلى المركز زادت سرعتها شأن كل حركة طبيعية، ولقد أثرت هذه
الحال تأثيرًا خفيًّا في الجم الغفير من عقلاء الناس؛ فمالوا إلى خدمة الإنسانية من
غير أن يتعصبوا لجنس ولا دين ولا مذهب، فإذا رجع الإنسان إلى مركزه الطبيعي
لا ترى الجمعية البشرية بعد إلا كساكني منزل واحد يرتفقون بمنافعه على السواء،
ويجدون من بركات الأرض ما يكفيهم مؤنة التعب، ويكفهم عن الشقاق والعناد. إذا
أصاب قبيل منهم منفعة عادت على الجميع بدون اختصاص على حكم تبادل
الأعمال، وإذا نزل بقبيل نازل توجه الكل إلى إنقاذه مما ألم به، وساروا جميعًا
على وفق القانون الطبيعي المودع في فطرة الإنسان يهديه إليه مَن علم الطير
النياحة ومرنه على السباحة، ثم لا ترى فيهم إذ ذاك ما يحتاج معه الإنسان إلى
كلفة وعناء، بل لا ترى إلا أعمالاً جارية على منهج السهولة منهج التمرن والاعتياد،
اهـ من الجزء الثاني من تاريخ الأستاذ الإمام.