(٦) ] وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون [[*] (الركن الثالث من أركان هذه الحياة الرحمة) تقدم أن الطور الأول من أطوار هذه الحياة خاص بالزوجين، وهو سكون نفس كل منهما إلى الآخر ذلك السكون الذي لا نظير له بين سائر المتحابين لغير اتحاد الزوجية، وهو وجدان من وجدانات النفس لا يعرف كنهه إلا الزوجان اللذان أحسنا الاختيار فتعارف الروحان، وتمازج النفسان، فكانا حقيقة واحدة لها صورتان، وأن الطور الثاني يشاركهما فيه غيرهما، وهو الود الذي تحدثه المصاهرة بين عشيرتي الزوجين الوديدين، ونبين في هذه المقالة أن الطور الثالث مشترك بين الزوجين وما يرزقان من الولد. الرحمة ضرب من ضروب وجدان النفس، له مثار في النفس غير مثار السكون إلى المحبوب والأنس به، وغير مثار مودة المشارك في المعيشة، والمشابك في المصلحة، ذلك الذي يثير وجدان الرحمة، ويهز عاطفة الرأفة والشفقة، هو ما ترى في غيرك من ضعف أو سقم، أو حاجة يصحبها ألم، وهذا هو ملاك الحياة الزوجية عند حدوث الأمراض والأدواء، وعندما تذوي غصن الشبيبة هاتيك الأهواء، ولو لم يودع الله تعالى الفطرة إلا سكون الزوج لملامسة الزوج، ومودة كل منهما للآخر للتعاون على المصالح والمنافع التي هو قوام معيشتهما؛ لكانت الحياة الزوجية نعيمًا في الشباب بؤسًا في الشيخوخة، سعادة في السراء، شقاوة في الضراء، يتمتع كل من الزوجين بصحة الآخر ونشاطه، وبسطته واغتباطه، حتى إذا لسعت أحدها حمة الضر، أو عضته ناب الفقر، أو نالت السن من فتائه وجدته ما لم تنل الناب من ثرائه وجِدَته، استحال سكون الآخر إليه اضطرابًا منه، وانقلبت مودته إياه مقاطعة له، ويالذاك لو كان من نقص عظيم ينافي خلق الإنسان في أحسن تقويم. لا تحسبن هؤلاء الذين يملون أزواجهم عند السقم أو الهرم فلا يرحمون لهن ضعفًا، واللواتي يمللن أزواجهن في الكبر أو الفقر فلا يحفظن لهم عهدًا - قد سلمت لهم فطرة هذا النوع الكريم الذي خلقه الله في أحسن تقويم، كلا، بل أفسدت الشهوات فطرتهم، ونكست الأهواء خلقتهم، فلهم من الإنسان صورته وشكله، لا روحه ولا عقله، ولا كرمه ولا فضله، بل صاروا أعدى للإنسان من الشيطان وأضرى بمضرته من سباع الحيوان، وأيّ خير يرجوه الإنسان من نوعه، أو الأمة في خاصتها، ممن لا خير فيه لمن انفصل لأجله عن أمه وأبيه، وأخته وأخيه وعشيرته التي تؤويه، واتصل به على عهد الله وميثاقه في الفطرة البشرية، والشريعة السماوية، فكان معه روحًا حلت في جسمين، وهيولي تجلت في صورتين، ثم لم يلبث بعد فراغ حظه منه، أن انفصل عنه، لا يرحم له ضعفه، ولا يعطف عليه عطفه، أليس المشارك له في النوع والصنف، أولى بهذه القسوة وهذا العنف؟ بلى، إن هؤلاء الذين استعبدتهم الأثرة، واسترقتهم (الأنانية) أعداء الأهل والأقربين بل أعداء البشر كلهم أجمعين. هذا الضرب من فساد الفطرة هو في الرجال أكثر منه في النساء والعدوى فيه تفعل فعلها في البيوت تسير سير البريد من بيت إلى آخر ولا آسٍ يأسو هذا المرض الذي كاد يكون وباء، وأنى يوجد الأساة أو تنتفع الأمة بمن عساه يوجد منهم وطب القلوب مهجور، وأهله كأهل طب الأبدان، منهم العالم العامل، ومنهم الدجال المحتال، وقد مضت سنة الكون بأن الأمة في طور ضعفها وضعتها تدين للدجالين المحتالين، وتنفر من العارفين الناصحين، لذا ترى مدعي طب الأرواح عندنا من أكبر الأعوان على تخريب البيوت فمنهم الذين جعلوا طب القلوب الظاهر وسيلة لإعانة كل زوج على قهر الآخر بالتقاضي كبعض القضاة والمحامين، ومنهم الذين جعلوا طبها الباطن ذريعة إلى استحلال المحرمات بالفعل اعتمادًا على شفاعة الشافعين، والانتساب بالقول إلى المشايخ الميتين. فطر الله - تعالى- قلوب البشر على الرحمة ليتراحموا فلا يهلك فيهم العاجز والضعيف، وكل أحد عرضة لاستحقاق الرحمة في يوم من الأيام، وجعل سبحانه حظ الوالدين والزوجين من الرحمة أرجح ليعنى بكل فرد من الناس أقرب الناس منه عند شدة الحاجة إلى العناية والكفالة؛ فالزوج لزوجه عند الضعف في المرض أو الكبر، كالوالدين لولدهما عند ضعفه في الصغر، بل تجد المرأة أرحم ببعلها في مرضه أو كبره من أمه لو وجدت، وتجد الرجل أرحم بسكنه في مرضها أو كبرها من أبيها لو وجد إذا كانت الفطرة سليمة، فإن لم يكن كل من الزوجين أرحم بالآخر في كبره من والديه فإنه يقوم مقامهما إذ لا يضعف كل من الزوجين ويحتاج إلى الرحمة إلا بعد موت الوالدين في الغالب، فإن مرض وهما في صحتهما فإنهما يكونان بعيدين عنه لا يسهل عليهما ترك بيتهما ومن عساه يكون فيه من محتاج إلى رحمتهما؛ لأجل لزام ولدهما الكبير المتزوج. فظهر أن كلاًّ من الزوجين في حاجة إلى رحمة الآخر به عند ضعفه لا يقوم بها سواه من الأقربين أو المستأجرين مقامه فيها. ليست الأريحية في سكون الزوج إلى زوجه عند داعية المسيس، ولا أريحية مودته ومودة أههله في المعاشرة والمعاملة بأكبر من الأريحية التي يجدها لرحمته به وحنوه عليه في حال الضعف، فإن الإنسان يشعر بالارتياح من عناية غيره به عند الحاجة ما لا يشعر بها عند الاستغناء، فالضعفاء والمرضى والمملقون يكبرون من أمر الوفاء والاعتناء، ما لا يكاد يشعر به الأقوياء والأصحاء والأغنياء {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: ٦-٧) وإن من طغيانه أن يعتقد أن كل من يحفل به ويعني بشأنه فإنما يفعل ذلك لأجل نفسه، لا لأجله هو؛ لأن الناس في حاجة إليه، وهو ليس في حاجة إليهم، وقد يبلغ به الطغيان إلى إدخال زوجه وولده في هذا الحكم، فإذا تحول مدّ طغيانه إلى جزر بالمرض أو الحاجة؛ رق قلبه ولطف شعوره، وكان أعدل في الحكم وأقرب إلى عرفان قدر النعمة والشكر عليها. يسمون مسألة الزواج مسألة (مستقبل الإنسان) وإن كنت تجد في الأَغْرَار من لا يفكر عند إرادة التزوج بمستقبله مع من يختاره زوجًا له؛ فإنك لا تكاد تجد من لا يعبأ بهذا المستقبل إذا ذكر به فأعمل فكره فيه إلا ما يكون من بعض المترفين إذا فتن أحدهم بجمال امرأة يود أن يقضي منها وطرًا، ثم لا يبالي ما يكون بعد ذلك، ومثل هذا إذا ملّ طلق، ولا تكاد تجد امرأة ترضى بالتزوج بمثله على أن هذا النوع من الازدواج هو أشبه بالاستئجار أو البغاء منه بالزواج، وإنما الزواج الشرعي الطبيعي ما كان عن إرادة الاشتراك في الحياة مدة الحياة، وإلا كان متعة بالغش والمخادعة، ولا أرى الشيعة يدينون بجواز هذا الضرب من المتعة؛ لأن الغش محرم بالإجماع لا خلاف في ذلك بين سني وشيعي. وإذا كانت مسألة الزواج هي أعظم مسائل مستقبل الإنسان الخاصة أفلا يكون من أعظم الشقاء أن يبدأ أمر الزوجين بالسكون والود في السراء، وينتهي بالاضطراب والتخاذل في الضراء؟ يشكر أحد الزوجين للآخر عند إمكان استبداله أو الاستغناء عنه ويكفره أحوج ما كان إليه، أي عاقل يرضى بهذه الخاتمة السؤى إذا علم بها أو ظن أن ستكون؟ لا شيء يخفف أثقال الفقر وأوزاره عن كاهل الرجل يتحمله مثل المرأة التي ترحمه في فقره فتظهر له الرضا والقناعة ولا تكلفه ما تعلم أن يده لا تنبسط له، فما بالك إذا كانت ذات فضل تواسيه به، ولا شيء يعزي الإنسان عن مصابه في نفسه وغيره مثل المرأة للرجل والرجل للمرأة إذا ظهرت عاطفة الرحمة في أكمل مظاهرها فشعر المصاب بأن له نفسًا أخرى تمده في القوة على مدافعة هذه العوارض التي لا يسلم منها البشر، واعكس الحكم في القضيتين، يتجلَّى لك وجه الصواب في الصورتين. إذا كان لركن الزوجية الأول وهو السكون المعهود تأثير في الثاني، وهو المودة فلا ريب أن الركن الثالث، وهو الرحمة يكون أثرًا للركنين قبله أو فرعًا لهما فعلى قدر السكون والمودة بين الزوجين في النعماء، تكون الرحمة بينهما في البلاء؛ لأن مصاب الوديد المحبوب يعيد للنفس ذكرى جميع حسناته، وطيب أيامه وأوقاته، ويمثلها في أبهى حللها، ويعرضها على النفس في أجمل معارضها (المعرض هو الثوب الذي تجلى فيه العروس) يخيل إلى المحب أن تلك الحسنات واللذات قد اجتمعت، وأن المصاب يحاول أن يشتت شملها ويقطع حبلها، فهو يواثب لذاته المجتمعة في شخص محبوبه، ويحاول سلب منافعه باغتيال نفس وديده، فمن أراد أن يحسن مستقبله في هذه الحياة فليجتهد أولاً في حسن اختيار الزوج، ثم ليخلص له المودة ثانيًا ليتمتع بوفائه أولاً وآخرًا وباطنًا وظاهرًا. ما أجهل الرجل يسيء معاشرة امرأته، وما أحمق المرأة تسيء معاشرة بعلها يسيء أحدهما إلى نفسه من حيث يسيء إلى الآخر فهو مغبون غالبًا ومغلوبًا، وما رأيت ذنبًا عقوبته فيه كذنب إساءة الزوج إلى الزوج بل أرى العذاب يضاعف في الدنيا على ذنب الزوجية فيكون زوجًا لا فردًا وكل ذنب له عقوبة في النفس أو فيما يتعلق بالنفس تكون أثرًا طبيعيًّا له إلا ذنب أحد الزوجين في مغاضبة الآخر فإنه هو نفسه عقوبة لنفس مقترفه يؤلمها ويمضها ثم إنه يلد لها عقوبة أو عقوبات أخرى تكون أثرًا له كسائر الذنوب. ولكن أثر ذنب الزوجية ليس كآثار غيره؛ لأنه هو ليس كغيره فكبر الآثار وصغرها تابع لحال المؤثرات. أنهاك أيها المعزابة أن تسارع إلى الزواج مهما تمادت بك العزوبة إلا بعد حسن الاختيار، وأنهاك أيتها الأيم وأولياءك أن تجيبوا خاطبًا إلا بعد التروي في الاختيار، وأعظكما إذا أنتما تزوجتما فلم تجدا ذلك السكون النفسي كاملاً، وذلك الودّ الطبيعي مواصلاً، أن يتحبب كل منكما ويتودد إلى الآخر ما استطاع ويجعل أكبر همه في هبته واستيهابه قلبه لتحسن الحال، ويرجى حسن العاقبة في المآل، فإن عجزا عن ذلك بعد الإخلاص في طلبه والجد في إدراكه، فليتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته، وكان الله عليمًا حكيمًا. إذا رزق الله الزوجين الولد تنمو به بينهما المودة والرحمة، ويكون هو منبعًا لرحمتها فاشتراكهما في هذه الرحمة الوالدية التي لها مصدر واحد ومورد واحد يؤكد الصلة بينهما فبينا هما معتصمان بحبل الزوجية الذي هو من أقوى الروابط الحيوية إذا هما معتصمان بحبل الوالدية الذي هو أقواها على الإطلاق، وكيف لا يكون كذلك ورابطة الزوجية هي طاقة من طاقات حبل الوالدية إذ الوالدان هما الزوجان قد أنتجا فكملت حيويتهما وجاءت بثمرتها. كل واحد من الوالدين يشعر من حيث هو والد بما يشعر به الآخر ويملكه الوجدان الذي يملك الآخر وتتولد فيه الآمال التي تتولد في الآخر، ويكون جده وسعيه لمثل ما يجد ويسعى له الآخر ويرى سعادته عين سعادة الآخر، أرأيت هذا الاتحاد في هذه الشؤون كلها إذا صافح اتحاد الزوجية وعانقه كيف يكون حال المتحدين في تراحمهما وتعاطفهما؟ بل في تمازجهما وفناء كل منهما في الآخر؟ لو كانت المسألة نظرية محضة لحكم الناظر فيها مع سلامة الفطرة بأن الحياة الوالدية هي كمال الحياة الزوجية وأن هذا الكمال هو الذي ليس بعده كمال، فالوالدان هما أسعد الناس بنفسهما وولدهما لا يتصور أن يقوى الزمان على شت شملها، أو نكث فتلهما، وإن اتحادهما هذا لأكبر عون لهما على أحداث الزمان، وأفعال الطبيعة في الإنسان. ما كان لسليم الفطرة الذي يعيش بمعزل عن فاسدي الأخلاق معتلِّي الطباع أن يتخيل وقوع نزاع يتمادى بين الزوجين الوالدين، بله المغاضبة التي تفضي إلى المباغضة، والمناصبة، والمناهضة، على نحو ما يكون بين أصحاب التراث الموروثة، والأضغان المخبوءة، كما يقع الآن على مرأى منا ومسمع وألمعنا إليه من قبل. لكن الفساد قد بلغ من هذه الأمة مبلغًا لا يصدقه عاقل، ولا يتخيله فاضل إلا أن يرى بعينه، ويسمع بأذنه، وقد أحصى الأستاذ الإمام عليه الرحمة قضايا سنة في إحدى المحاكم الأهلية فبان له أن ٧٥ قضية منها كانت بين الأقربين فما بالك بقضايا المحاكم الشرعية، ولعل ٩٩ منها في المئة بين الأزواج والوالدين. سبق القول بأن الحياة الزوجية هي أصل الحياة الوطنية والحياة الملية؛ فإذا كانت الأولى سعيدة كان ذلك أصلاً في سعادة الأمة، وإذا كانت شقية كان ذلك علة لشقاء الأمة؛ لأن الأمة مؤلفة من هذه البيوت، فمن لا خير فيه لأهله لا خير فيه لأمته، كما علمت من حديث (خيركم خيركم لأهله) فما دامت حياتنا الزوجية مختلفة معتلة فلا يرجى لنا أن نحيا حياة ملية طيبة. وإن هذا الشقاء في الأمة والبيوت هو في المسلمين أثر من آثار ترك عقائدهم وآدابهم الدينية، وتقطيع روابط الملية، فخسارتهم لسعادة الدنيا دليل على أنهم إن لم يعودوا ويتوبوا سيخسرون سعادة الآخرة وذلك هو الخسران المبين. نقف عند هذا الحد في بيان أركان الزوجية الثلاثة التي نطقت بها الآية الكريمة في السورة التي ورد فيها أن الدين القيم هو فطرة الله التي فطر الناس عليها فقد شرحناها بما أملته علينا الفطرة، وهدتنا إليه الفكرة، إذ هي التي أرشدتنا إلى ذلك بخاتمها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} (الروم: ٢١) .