يجب على مَن يتكلم في الإصلاح أن يكون على علم بوجوه الإفساد ومثاراتها في الأمة التي يبحث في إصلاحها، وإلا خبط خبط عشواء، فإن اتفقت له الإصابة في بعض كلامه فرمية من غير رامٍ، وإن أخطأ فهو ما ينتظر منه. وقد قلنا في مقالة سابقة: إنه يحرم على من يجهل تاريخ أمة أن يقول: هذا شيء يضرها، وهذا ينفعها. وها نحن أولاء نأتي بمجمل من خبر الخلل الذي طرأ على الدولة العلية قبل الكلام على الإصلاح الواجب، نستقي ذلك من تاريخ جودت باشا الذي يعتبر تاريخًا رسميًّا للدولة العلية، كما علمت من العدد الماضي، ولذلك نعتقد أن الدولة العلية لا تستاء من بحثنا هذا؛ لأن التاريخ المذكور منتشر في جميع البلاد العثمانية، وهو من جملة الكتب التي أهداها مولانا السلطان الأعظم عبد الحميد خان أيده الله تعالى لمكتبة المدرسة الحميدية في عكار، وفي ذلك دليل على أنه يرضى بأن يدرس لطلاب العلم. وهذا يدحض ما يزعمه بعض الكتاب وأصحاب الجرائد من كراهة مولانا السلطان دراسة أحوال الدولة العلية ومعرفة الخلل الذي طرأ عليها [**] . فصل جودت باشا - رحمه الله تعالى - في الفصل الخامس من الجزء الأول من تاريخه أخبار الخلل الذي طرأ على قوانين الدولة العلية، فرماها بالضعف الذي هي عليه، وبين أسباب ذلك وعلله، فنقتطف من ذلك ما ترى ملخصًا: لما بلغت الدولة على عهد السلطان سليمان القانوني (رحمه الله تعالى) درجة الكمال في القوة البرية والبحرية وفي الإدارة، احتجب السلطان وترك حضور الديوان والسفر إلى الحرب، فضعف اهتمامه بالأمور وقلَّ اطلاعه على الحقائق، وبعد ما رتب قوانين الدولة أحسن ترتيب كان هو أول من خالف النظام وتلاعب بالأحكام، فكانت سنة سيئة فيمن جاء من بعده وهاك أنموذجًا من ذلك: المناصب الملكية والعسكرية: كان منصب الصدارة العظمى لا يناط إلا بأهله الذين تنقلوا في مراتب الأعمال تدريجًا من الألوية إلى الولايات الأناضولية، ثم الروملية، ومن ذلك إلى رتبة الوزارة مع العفة والاستقامة، فخالف السلطان سليمان نفسه هذا النظام، فجعل إبراهيم أغا (خاص أو طه جي) صدرًا أعظم، وهو ممن تربى في القصر السلطاني لا في مناصب الدولة، فطفق خلفاء السلطان سليمان يلقون مقاليد الوزارة لمن أحبوا من الشبان الأغرار الجهلاء فاقدي التربية، ولاغترار هؤلاء بإقبال السلاطين عليهم كانوا يعرضون عن الاستشارة ويستنكفون أن يستفيدوا من العارفين وما كانوا يراعون القوانين، بل يسيرون بحسب أهوائهم (قال جودت) : وذلك مخالف للقاعدة الكلية المبنية على منطوق آية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: ٥٨) فصارت الأمور تجري على الرغائب، واختل بذلك نظام الدولة وتبدلت قوتها ضعفًا، وكذلك الشأن في أمراء الألوية وأمراء الإمارات (الذين يسمون اليوم متصرفين وولاة) ولم يكن يعزل أحد من غير ذنب، ولذلك كانت تنحصر قواهم في أعمالهم فيتقنونها. كان أصحاب التيمار والزعامة (الأول من يبلغ راتبه من ثلاثة آلاف درهم إلى عشرين ألفاً، والثاني من كان راتبه فوق ذلك) من ذوى الوجاهة والمستحقين الذين يقومون بحماية الأمة والدولة، ويأخذون المال المرتب لهم بحق، ولما ولَّى السلطان سليمان القانوني خسرو باشا منصب إمارة الأمراء من غير استحقاق ولا أهلية؛ لأنه لم يكن له عمل قبل ذلك إلا ذوق طعام السلطان قبل إحضاره له، ابتدع هذا الباشا الذواق بدعة توجيه التيمار بالرشوة، وناهيك بمضرتها، وكان أمراء الأمراء من قبله يوجهون التيمار المحلول إلى مستحقيه، وتصدر الإرادة السنية بتنفيذ ذلك، ولا يوجه التيمار أو زيادته من دار السعادة ابتداء، بل بمقتضى توقيع أمير الأمراء. كان السلطان ووزراؤه يتذاكرون في شؤون الدولة وينفذون الأعمال من غير دخول أحد بينهم، فصار ندماء السلطان - مراد الثالث والمقربون إليه - يتعرضون لمصالح الدولة ويكلفون الصدر الأعظم بأمور غير معقولة، فإذا لم يجب طلبهم يكيدون له عند السلطان بالمحْل والسعاية، وكانوا يتوصلون بذلك إلى قتل الصدور ونفيهم، وكان أولئك المقربون لا يبالون بما يفعلون، فاضطر الصدور لاتباعهم ومجاراتهم على أهوائهم فتمادوا في طغيانهم. كان الوزراء ينشأون في تعلم الفنون الحربية والتمرن عليها من الصغر، ويحضرون الحرب بأنفسهم، فارتقى بذلك قوادهم (كالسردارية والسرعسكرية) إلى أعلى الدرجات من المهارة، ثم جعل السلطان هذه المناصب في جماعة من رجال حاشيته الجهلاء، فاختل بذلك نظام التمرن الحربي، وسرى الفساد في جسم القوة العسكرية. كان قانون الإنكشارية (الذين كانت الدولة ترعب بهم دول الأرض) قاضيًا بأن جنودهم لا تنتظم إلا من الأولاد المقيمين في الثكنات المخصوصة المختارين لذلك، وفي سنة ٩٠٠ حشر الناس من البلاد لحضور الاحتفال بختان نجل السلطان محمد، ورغب جماعة من الأجلاف الانتظام في سلك الإنكشارية لزيادة الفرح فصدرت الإرادة بذلك، وانتدب أوهاد آغا رئيس الإنكشارية لتنفيذها، فشاور في ذلك رؤساء قومه، فقالوا: إن هذا مخالف للقانون ومضر بالدولة العلية، واتفقوا على عدم قبولهم، فألح بعض الندماء والمقربين الذين لم يتأملوا عواقب الأمور بتنفيذ ذلك، فصدرت به الإرادة السنية ثانيًا، ففضل فرهاد آغا الاستقالة على هذه الرئاسة الخائنة (هكذا هكذا تكون الفضلاء والأمناء) وتولى مكانه يوسف آغا فأدخلهم، فدخل بذلك الخلل في هذا السلك، فقطع عروته ونثر منظومه، حيث صار يدخل فيه من لا يعرف له أصل ولا وصف، وصارت علوفتهم وأرزاقهم تجري على خدم المقربين والوزراء، وصار معاش التقاعد الذي كان يعطى للشيوخ والعاجزين يعطى للشبان والأقوياء، وكثر عديد الإنكشارية بهذا الخلل، حتى عجزت الدولة عن كفايتهم، ولما كان هؤلاء الخدم والأتباع الذين يأخذون الأموال والمعاشات التقاعدية لا يحضرون الحرب ولا يقومون بالخفارة، اضطرت الدولة إلى استئجار خفراء، ففقدت رجال الحرب الذين كانت الدول تضرب بهم هذا المثل: (يجب على من يكافح العثمانيين أن تكون رجلاه من رصاص ويداه من حديد) . كان نظام أصحاب الزعامة والتيمار ونسق الفرسان (النسق - محركة - ما كان على نظام واحد من كل شيء ويسمى نسق العسكر بالتركية: وجاق) محفوظًا من الدخيل والأجنبي عنها إلى سنة ٩٩٢ تولى عثمان باشا سردار إيران ابن أوزدمير، فأدخل في ذلك جماعة أراد نفعهم لاستحقاقهم، فسن بذلك سنة عادت بالخلل على النظام، وصارت مرتبات هؤلاء كمرتبات الانكشارية عرضة للنهب والسلب، وزاد عدد العساكر الذين يأخذون المرتبات وسائر الطوائف من أصحاب العلوفة فاضطرت الدولة إلى زيادة الإتاوات والرسوم الأميرية، فكان ذلك مدعاة الظلم والاعتداء وانتهى بفقر الأهالي وخراب البلاد. كان من مقتضى القانون أن يكون أرباب التيمار والزعامة من أهل البلاد في الألوية، فلما منحهما السلطان مراد الثالث لخدمة الوزراء ساءت الحال وجرت الأرزاق على المجهولين ممن لا عمل له، ولم يجد أرباب الاستحقاق سبيلاً للشكوى في دار السعادة لأن العلة من هناك، وطغى المقربون من هذا السلطان وندماؤه، فاغتصبوا بعض القرى والمزارع التي كانت خاصة بالغزاة والمجاهدين وتسمى (أربه لق) ولما فاض ينبوع ثروتهم أفاضوا منه على أتباعهم وحواشيهم، وتأسى بهم وكلاء الدولة، فصار الفريقان يوجهون التيمار والزعامة المحلولة إلى من ذكرنا وبعضها ألحق بالأملاك الهمايونية (الأراضي السلطانية) وبعضها خصص لتقاعد أناس صحيحي الأبدان، وقسم اغتصبه أرباب الوجاهة فضموه إلى أملاكهم وسموه بغير اسمه، وصار يناله كل أحد، حتى أهل الدعابة (المساخر والمهرجون) وبعضها قيد بأسماء خدمهم ومماليكهم ببراءات سلطانية، وبعضها جعله الندماء والمقربون وسائر الحاشية وقفًا لجهات مختلفة (قال جودت) : مع أن وقف هذه الأراضي لا يجوز مطلقًا؛ لأنها من حقوق المجاهدين والغزاة، وبدعة وقف الأراضي السلطانية قد ظهرت في أيام السلطان سليمان؛ فإنه عندما جعل صهره رستم باشا صدرًا أعظم ملكه بعض القرى التي فتحها أجداده، فجعلها هذا الباشا وقفًا على جهات مختلفة. وأطال في ذلك بما بين به أن ذلك كان وسيلة لإضاعة حقوق بيت المال (وكم جعل الوقف ذريعة لأكل حقوق بيت المال وحقوق الناس في غير الدولة العثمانية أيضًا) حيث اقتدى برستم باشا في ذلك من جاء بعده وأضاعوا حقوق المجاهدين، وانقرض بذلك أصحاب التيمار والزعامة انقراضًا، واضمحلت القوة العسكرية العظيمة، وكان من أثر ذلك زوال اعتبار الفرمانات السلطانية من النفوس بعد ما كانت تحترم احترامًا عظيمًا. ولما نقص ريع بيت المال لما ذكرنا أحدث رستم باشا السابق ذكره بدعة التزام الأموال الأميرية لأجل زيادتها، فأعرض أرباب العفة والأمانة المتمسكين بالدين عن الالتزام، وتهافت عليه الأسافل الفاسدو الأخلاق، فكان ذلك سببًا آخر لخراب الأقطاع والأملاك الهمايونية، فعم الاعتداء وخربت المدن وافتقر الزراع الذين هم خزانة الدولة الحقيقية. ولم تكتب حاشية السلطان بقطع رواتب الغزاة، بل فتحوا باب الرشوة على الشفاعة بتوجيه إمارة الولايات والألوية وسائر المناصب إلى من يبذل لهم، وما كانت شفاعتهم عند الصدر الأعظم إلا أمرًا مطاعًا، كما علمت، فتقدم الأشرار وتأخر الأخيار، ولم يبق للرتب قدر ولا اعتبار، وكثرت أصحاب المناصب والرتب من كل فسل ذميم ونذل لئيم، وكثر الجور والتعدي بكثرتهم، حتى انتهى بما تعلم. فتبين مما شرحناه أن أسباب الخلل والفساد ترجع كلها إلى أصل واحد، وهو حاشية السلطان وخاصته. أما أمر الإسراف والتبذير والانغماس في النعيم، المتولدة جراثيمه في عهد السلطان سليمان (رحمه الله تعالى) ثم سرت في جميع طبقات الأمة، فمما لا يتعلق بغرضنا شرحه الآن. ومن المسلمات أن الترف هو الذي أباد الأمم السالفة، وأنه لا نجاة للأمم منه إلا بتعميم التربية والتعليم اللذين اهتدى إليهما الغربيون في هذا الزمن، وإذا انضم إلى ذلك الاعتصام بعروة الدين الحق والتأدب بآدابه الصحيحة، فهنالك الكمال والأمان من الزوال ما دامت الأمة متمسكة بعروة الحق وقائمه بالشكر {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: ١١) {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: ٧) . الرتب والمناصب العلمية: كان السلاطين العثمانيون يبذلون العناية في ترويج العلوم والمعارف، ولما فتح السلطان محمد القسطنطينية جعلها موئل العلماء والأدباء بما سهل من سبل العلم وما عمل لترقيته، ثم لما جاء السلطان سليمان خدم العلم ووسع دائرته بزيادة نشر الفنون الرياضية والطبية، فهو الذي أنشأ مدرسة مخصوصة للطب وأنشأ بجوارها مستشفى (اسبتالية) ولم تكن أوروبا لذلك العهد تعرف هذا. وكانت رتب المدرسين ١٢ رتبة لا يرقى أحد إلى رتبة منها إلا بعد تمكنه من التي دونها، وبذلك كانت المناصب العلمية في أهلها، وكانت حرمة العلماء محفوظة، حتى إذا قال أحدهم: هذا حكم الله، خضعت له الرقاب، وقال جميع الناس: سمعنا وأطعنا. وكان القضاة عدولاً تذعن لحكمهم النفوس في السر والجهر. طرأ الخلل على النظام العلمي في أوائل القرن الحادي عشر للهجرة، فبدأ بالتسامح والتساهل في رعاية قوانينه، وانتهى إلى الإفضاء بالرتب والمناصب العلمية لغير أهلها ومستحقيها، فتولد من ذلك فتن كثيرة، أشدها ضررًا: الظلم في القضاء، وزوال حرمة العلم والدين من نفوس الناس. وإننا نذكر مجملاً من خبر ذلك الخلل تبصرة وذكرى: صار قضاة العسكر (قضاء العسكر أعلى الرتب العلمية في الدولة، وقاضي العسكر هو ما كانت تسميه دول العرب: قاضي القضاة) يُعزلون من المرجع الأعلى بعد مدة قليلة من توليتهم بغير ذنب، فكان أصحاب الطمع والشره منهم يغنمون الفرصة للاكتساب من المنصب قبل العزل، فيوجهون المناصب والرتب العلمية إلى غير أهلها. وصار الموالي (رتبة الموالي دون رتبة قضاء العسكر، ومن أهلها يكون القضاة، ولها مراتب متعددة، وللأولى مرتبتان فقط) يبيعون أوراق الملازمة المؤدية إلى رتبة التدريس (وهي دون رتبة المولوية المذكورة آنفا) ويعطونها لأي إنسان من غير مراعاة شروطها. فانحدر الخلل من قضاة العسكر إلى الموالي، ومن هؤلاء إلى العلماء والمدرسين، وهرع أمراء المقاطعات والضباط بل والعوام إلى ابتياع أوراق الملازمة التي تجعلهم علماء ومدرسين، ثم موالي وقضاة، فامتلأت معاهد العلم بالجهلة، حتى لم يكد يتميز العالم من الجاهل. ثم صار منصب التدريس الفعلي منصبًا اسميًّا، والمدرسون لا يذهبون لمدارسهم، بل لا يعرفون مواقعها، ولا يسألهم أحد عنها، ثم احترقت المدارس وخربت، وبقي التدريس يوجه إلى مدارس خيالية، وكثر عدد الذين يسمون مدرسين، وتُنُوسي التدريس فعلاً بالكلية. صار أبناء الصدور والقضاة ينالون وظيفة التدريس وهم أحداث وأطفال، ويترقون لذلك في الوظائف، حتى أن الواحد منهم لتأتيه نوبته في المولوية وما طر شاربه ولا اخضر عذاره. وكان ينال التدريس أيضًا كل ذي وجاهة واعتبار، حتى صارت المراتب والمناصب العلمية تؤخذ بالإرث، فسهل على الوزراء ورجال الدولة تقليدها لأبنائهم وغيرهم، فازدحم عليها الغوغاء، وصار الجهال يموج بعضهم في بعض، والتبس الأمر وفسد أي فساد. وكذلك صار منصب المولوية العملي اسميًّا كالتدريس، وكان يتولى إدارة أعمال المولوية عن القاضي نائبه، وصارت مدة الولاية للقاضي سنة واحدة. بعد غض النظر عن بناء التقدم والامتياز على أسس العلم والفضيلة والاستحقاق والأهلية جروا على قاعدة الأقدمية، أي تقديم الأقدم فالأقدم إلا ما استُثني من أصحاب الوجاهة والشرف والمنتمين إلى الشفعاء المجبرين الذين لا يتقيدون بقانون ولا يحكم عليهم نظام. وهذه القاعدة الاستئنائية كانت تسمى في اصطلاح المدرسين: (الطفرة) وكانت متبعة أيضًا في رتب الموالي والصدور، فكثر عدد الجميع جدًّا. وكان الذين ينالون هذه الرتب بغير استحقاق يحتقرون ما دون رتبة قضاء العسكر التي يسمى أربابها: (الصدور) . وكان هؤلاء الصدور يتغطرسون ويتبجحون ويصرفون أوقاتهم في ذكر مساوي بعضهم، فكانوا كلاًّ على عاتق الدولة. عينت الدولة لكل واحد من المدرسين والموالي والصدور قضاء يتولى إدارته نائب له، فيتناول النائب حصته المعينة ويأخذ الباقي صاحب المنصب باسم (معيشة) للمدرسين و (اربه لق) للصدور والموالي. ولما كان هؤلاء النواب ليسوا من أهل القضاء اضطروا إلى الاستعانة بنواب عنهم يتولون الأحكام اقتداء برؤسائهم فأصبحت النيابة تدير الأعمال في جميع الأقضية، ورتبة القضاء نهبة للصدور والموالي والمدرسين، وتبعهم في ذلك الجوخدارية وصارت الطريقة العملية التي وضعت لنشر العلوم والمعارف وإحقاق الحقوق وسيلة للتعيش، فكان ذلك فساداً كبيرًا وخللاً في الملك والملة. ولما زاد عدد المدرسين أصبح أكثرهم في حالة تشبه حالة المتسولين، وتبدل عز العلم وشرف التدريس بالذل، وكان النواب الذين ذكرناهم من أهل الجهل والمكر والسفه يشتركون مع الظلمة في ظلم العباد وخراب البلاد، وكان سائر من يأخذون أوراق الملازمة بالرشوة أو الشفاعة أوغادًا جهالاً، لا يحسنون قراءة أسمائهم ولا أداء الشهادة الشرعية على شيء، فطفقوا يبيعون الوظائف لأمثالهم، فاضطر العلماء والصلحاء الذين لم يبق لهم قيمة إلى مداراة الظلمة، فضاع الشرف الصحيح، وعزت الأمانة الدينية، وراجت البطالة والجهالة. وكانت تلك العصور التي دبت فيها هذه المفاسد في الأمة والدولة قد تنبهت فيها الأمم الأوروبية للعلوم والمعارف والصنائع، فتقدموا وتأخرنا، ولولا ما جاء به السلاطين المتأخرون من الإصلاح لهلكنا. كادت الدولة العلية أن تسقط على عهد السلطان محمود - رحمه الله تعالى - فأزال ما طرأ من الفساد على الإنكشارية باصطلامهم واستئصالهم، وأسس عسكرًا جديدًا، وجاء بعده السلطان عبد المجيد - رحمه الله تعالى - فاجتهد في الإصلاح بما تعلم، وحسنت الحال في عهده وفي عهد السلطان عبد العزيز- عليه الرحمة - بعض الحسن، ثم جاء في آثارهم سيدنا ومولانا الخليفة المعظم والسلطان الأعظم عبد الحميد الثاني، أيده الله بروحه وأمده بنصره، فهب للنهوض بالأمة نهضة واحدة، فأسس مجلس الأمة - المبعوثان - ووضع القانون الأساسي [***] ، واجتهد في إحياء معنى الخلافة الذي أهمله سلفه بعد السلطان سليم ياوز، فطرأت الحرب الروسية والدولة على غير استعداد، وتقدمها فتن أضعفتها، وانتهت الحرب بما تعلم وتلتها الحروب السياسية بين أوروبا والدولة العلية، فشغلت مولانا عن صرف قواه للإصلاح الداخلي؛ لأنه تحمل أثقال هذه الحروب بنفسه لضعف ثقته بالوزراء بسبب فتنة السلطان عبد العزيز وما كان من الخيانة في الحرب مع الروسية، ومع ذلك عمل أعمالاً داخلية يشرحها المنار دائمًا، كما أشرنا إلى ذلك في العدد الماضي، وحيث قد لهجت الجرائد بمسألة الإصلاح الداخلي، وقال بعضها: إمبراطور ألمانيا نصح لصديقه السلطان الأعظم بالعناية الكبرى به، وأنبأ البرق بأن بعض الوزراء يذاكر جلالته في ذلك، رأينا أن نعرض ما نراه واجبًا الآن مع علمنا بأن مولانا أيده الله أوسع علمًا بما يجب من ذلك. ولكن روينا في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الدين النصيحة، لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) فاهتداء بالحديث الشريف نقول بناء على المعلومات السابقة: أركان الإصلاح: الإصلاح الذي لا بد منه يتوقف على أمور: (١) منع الشفاعة والتوصية من كل أحد في كل ما يتعلق بمصالح الدولة من توجيه المناصب والوظائف، ومنح الرتب والوسامات، أو العفو عن العقوبات وغير ذلك؛ لأن الشفاعات في هذه الأمور هي أصل الفساد السابق وينبوعه كما مر. (٢) تأديب من يتعرض لهذه الشفاعات أيًّا كان إذا ثبت عنه ذلك. (٣) انتقاء الوزراء والولاة والحكام وسائر رجال الحكومة من خيرة الرعية بدون تزييل بين تركي وعربي، أو مسلم وذمي في ضمن نصوص الشريعة إذ الحاكم الشرعي لا يصح أن يكون نصرانيًّا مثلاً، وأما أمور الجباية والكتابة فلا فرق فيها بين مسلم وغيره، فقد كانت الجباة والكتاب على عهد خلافة الراشدين وغيرهم من غير المسلمين في بلاد الشام وغيرها، وقانون الدولة ناطق بذلك. (٤) حصر القضاء الشرعي في أجلة كالمتخرجين في مكتب النواب أو الجامع الأزهر المشهود لهم بالعلم والعدالة ممن نشأوا بينهم. (٥) إعطاء الحرية لكل حاكم قضائي أو سياسي بأن يعمل بما يراه في ضمن دائرة الشريعة المكلف بالعمل بها. (٦) إلقاء التبعة على من ذكر فيما يتعلق بوظائفهم وأعمالهم إذا هم انحرفوا عن جادة العدالة. (٧) عدم عزل أحد بغير ذنب ثابت. (٨) معاقبة من يعزل بذنب وحرمانه من مناصب الدولة ووظائفها حرمانًا قطعيًّا. (٩) زيادة مرتبات صغار المأمورين ومعاشاتهم؛ لأن قلتها تضطرهم إلى الرشوة التي تذهب بالعدل الذي هو أساس العمران. (١٠) إعطاء الحرية للرعية بالشكوى من أي حاكم تعدى حدود وظيفته وتأمين من يرفع الشكوى من تعدي الحاكم المتظلم منه، ولو لم تثبت دعواه. (١١) إيصاء الولاة والمتصرفين بالاجتهاد في التأليف بين أهل الملل المختلفة والطوائف المتعددة، وترغيبهم في إنشاء المدارس الوطنية والشركات المالية التي توحد المصالح وتجمع القلوب على العمل لترقية الوطن وتكافئ الدولة كل من أحسن في ذلك عملاً. (١٢) إعطاء الحرية المعتدلة للمطبوعات في دائرة القانون. (١٣) منع الجرائد من إطراء الولاة والحكام وسائر المأمورين بالأماديح الشعرية التي تغرهم وتخدعهم وتحملهم على الاسترسال في ظلمهم وتجرأهم على التمادي في الباطل، فإن جرائد النفاق والدهان من أقوى عوامل الإفساد والخراب. (١٤) عدم إعطاء رتبة شرف أو وسام إلا لمستحقه، فإذا جرَّح طالبَ العلم الذي يرغب في رتبة التدريس بعض العلماء وعدَّله الآخرون فينبغي أن يُقدم الجرح على التعديل، كما عليه المحدثون، وهكذا يكون الشأن في الباقي، بل ينبغي التحقيق على من أخذوا الرتب والوسامات بغير حق ونزعها منهم إن أمكن، وربما نشرح بعض هذه الأمور في فرصة أخرى. هذا ما عنّ لنا في الإصلاح الواجب مراعاته الآن في السلطنة، وسنشرح رأينا في الإصلاح الديني، أي المؤدي إلى المحافظة على الدين والعمل به، وجمع كلمة المسلمين، ونرفعه إلى مقام الخلافة في عدد تالٍ إن شاء الله تعالى.