للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


دين المستقبل
وهل يكفر من له رأي فيه

(س٢) من بغداد لصاحب التوقيع الذي عهد إلينا بكتمان اسمه.
حضرة سيدي المحترم محمد رشيد رضا أفندي، أدام الله مجده:
أما بعد فقد جئت طالبًا من فضلكم نشر سؤالي هذا على صفحات (المنار)
الأغر، وسرد جوابه بما يتراءى لكم؛ لأن الأمر أشكل في بغداد، والأقوال
تضاربت، فجئت طالبًا فتواكم ولكم الأجر.
إن أحد الكتاب نشر مقالة في جريدة بغداد في عددها الأول، ونقل فيها: أن
حضرة السيد البكري نقيب أشراف مصر قال: سألت الشيخ جمال الدين الأفغاني
عن دين البشر في المستقبل فأجابني بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ
رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: ٦٢) [١] فقام بعض المدعين
للعلم وقال: إن هذا الناقل الذي نشر المقالة قد كفر، وخرج من دين الإسلام،
وطلب من الحكومة مجازاته، وهو القتل كفرًا لا حدًّا والعياذ بالله، ثم وكل الأمر
إلى أربعة من المدرسين وهذا المكفر معهم خامس، فأما أحدهم فقال: إن الرجل
ناقل وليس عليه شيء، من دون أن يعمق البحث في أصل الموضوع، فرفضوا
قوله، واجتمع الأربعة على أنه يجب تعزير هذا الناقل تعزيرًا شديدًا، وقدموا
قرارهم هذا للعدلية، ولا ندري ما سيكون منه، فنرجوكم تدقيق هذا البحث بأطرافه
بحق قائله وناقله، والحاكمين فيه؛ ليتضح الحال خدمة للوطن والدين والأمة دامت
أفضالكم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء
... ... ... ... ... ... ... ... ... غيور اغتار للدين
(ج) لا وجه للقول بكفر هذا الناقل، ولا ذلك القائل، ولا بتعزير من يرى
ذلك الرأي، سواء كان خطأ أم صوابًا، والظاهر أن أولئك العلماء لم يفهموا معنى
سؤال البكري ولا جواب الأفغاني؛ لأنهم لم يفكروا في مثل هذا البحث، ولا في
سببه، لا لبلادة في أذهانهم، ولا لجهلهم باللغة التي عبر بها القائل والناقل. نعم،
إن المشتغلين منا بالفقهيات، الجامدين على التقليد والعادات، كثيرًا ما يتجرأون
على التكفير بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وأظن أن من ذكرتم من علماء
بغداد، لو فهموا معنى السؤال والجواب، لما خطر في بالهم أن يعدوا القول به ذنبًا
فضلا عن أن يعدوه كفرًا.
يقول كثير من علماء الاجتماع: إن البشر في مجموعهم يسيرون إلى الكفر
والإلحاد عامًا بعد عام، وإن هذا السير ينتهي بترك الأمم كلها للتدين بعد قرون
كثيرة أو قليلة، ومن هؤلاء القائلين بهذا الرأي من هو متدين بالإسلام، ومنهم من
هو متدين بغيره، ومنهم من هو ملحد لا يدين بدين.
ويقول آخرون: إن البشر لا يمكن أن يستغنوا عن الدين، ولا عبرة بما نراه
في هذا الوقت من كثرة الكافرين، فلا بد أن يبقى الناس متدينين، وأن يبقوا
مختلفين في الدين، ويذهب آخرون إلى أنه لا بد أن يسود في المستقبل دين يكون
عليه أكثر البشر، وهل يكون ذلك دينًا جديدًا أم أحد الأديان الحاضرة بعد تنقيحه
وتطبيقه على حال الناس في المدنية المستقبلة؟ إنهم مختلفون في هذا، وسمعت
الأستاذ الإمام يقول أكثر من مرة: إنني أعتقد منذ عشرين سنة أن دين المستقبل هو
الإسلام، ولي على ذلك أدلة اجتماعية، وأدلة نقلية: كالوعود الإلهية بإظهاره على
الدين كله، وهو عندي في مرتبة اليقين. ولا يخفى أن أصول الدين الإلهي الحق
التي دعا إليها جميع رسل الله هي: الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح،
والكتاب والسنة تفصيل لهذه الأصول. وعبارة السيد جمال الدين مجملة، فلا يدرى
أرأيه كرأي تلميذه الأستاذ الإمام، ويريد بالأصول المجملة في الآية ما هو مفصل
في غيرها من الآيات، أم يريد أن البشر لا يتفقون على تفصيل الإسلام ولا غيره،
وإنما يستقر رأيهم على تلك الأصول المتفق عليها، ويتركون لكل فرد رأيه واجتهاده
في تفصيلها؟ الله أعلم بتفصيل رأيه. ولكن الذي يجب الجزم به أنه لا يجوز أن
نكفره، ولا أن نفسقه برأيه؛ لأنه لا علاقة بين مثل هذا الرأي، وبين قوة الإيمان
وصحة الإسلام، بل لا يجوز أن نقول بكفر من يرى أن البشر يتركون كل دين،
ولا بتعزيره أو لومه على ذلك. فليتق الله علماؤنا في المسلمين، وليعلموا أن عاقبة
هذا التشديد والجراءة منفرة عن الإسلام، وأنها يوشك أن تفضي إلى ما لا يحبون
لأنفسهم ولا لدينهم.
أما العدلية فلا أدري ما هي علاقتها بآراء الناس وأفكارهم، فإذا كان رجال
العدلية في بغداد كمن ذكرتم من العلماء فهمًا لهذه المسألة، وكان رأيهم في العقوبات
القانونية كرأي أولئك الفقهاء في العقوبات الشرعية، فياحسرة على بغداد، فإنها لا
تزال ترسف في قيود الجهل والاستبداد.