(١) مقدمة: كادت أوربة تسود العالم الأرضي، وتستعبد جميع شعوب البشر، وتسخرها لخدمتها، ولولا أن تفلَّت جل العالم الجديد في غربي الكرة (أميركة) من قبضة يدها، وتلاه الشعب الياباني في شرقيها، فساوى الشعوب الأوروبية في العلم، والصناعة، والنظام، وإتقان فنون الحرب وآلات القتال، ووسائل الثروة وتدبير المال، وأما سائر بلاد المشرق من آسيوية وإفريقية، فكانت خاضعة خانعة لدول الاستعمار الأوروبية على تفاوت بينها في هذا الخضوع، فمنها ما يعد مُلكًا خالصًا لهن، ومنها ما يسمى التصرف فيه حمايةً أو احتلالاً، ومنها ما يسمى مناطق نفوذٍ سياسية أو اقتصادية أو امتيازات دولية، دَعْ النفوذ العلمي الذي سيطروا فيه على الأفكار بتأثير مدارسهم، وانتشار لغاتهم، وبثّ مطبوعاتهم، والنفوذ الديني الذي سيطروا فيه على القلوب، والأرواح ببعثاتهم الدينية، وما أُنشِئ لها من المدارس، والمستشفيات، والأندية، وما يطبع لها من الكتب، والصحف المنشرة، ولا تنس في هذا المقام تأثير تجارهم وسيَّاحهم، ولا تأثير عاداتهم وأزيائهم، ولا أتحامى ذكر تأثير بغاياهم، وفواجرهم في إفساد الأخلاق، وحاناتهم ومقامرهم، واستنزاف الأموال. فبهذه المزايا، والصفات، والمظاهر، والأفعال (حسنها وقبيحها) - تنجذب قلوب الناس إلى رؤية بلاد هؤلاء الناس على اختلاف المقاصد، والنيات؛ فهي كعبة طلاب العلوم والفنون والصناعات، كما أنها هيكل عُباد الشهوات، والتمتع باللذات، فترى الناس يرحلون إليها من جميع أقطار الأرض، أفرادًا وثُبَاتٍ وأكثرهم يبتغون بالرحلة إليها التمتع بمشاهد عمرانها، واحتساء كؤوس لذاتها، ومنهم من يؤمها للاستشفاء بهوائها ومياهها المعدنية، أو لِعرْضِ نفسه على أطبائها أُولِي الأخصاء في فروع الطب والجراحة، ومنهم مَن يلمّ بها لاستبضاع عروض التجارة أو غير ذلك من الأعمال المالية، ومنهم من يهاجر إليها لطلب العلوم الكونية والقانونية، والفنون والصناعات المختلفة، ومنهم من يتسلل إليها للقيام بأعمال سياسيةٍ. ولعل أقل زائريها مَن ينوي تكميل عقله، وتجارِبه بالاختبار، والاعتبار بما يرى، ويسمع، وأرجو أن أكون من هذا القليل، وإن كان المحرك لهذه الرحلة والداعي إلى جعْلها في الزمن الذي وقعت فيه، وإلى المكان الذي كان جلها فيه - ليس إلا الخدمة السياسية لوطن المولد والتربية. ذلك بأن حزب الاتحاد السوري - وهو أحد الأحزاب السياسية التي كنت من مؤسسيها والعاملين فيها - قد قرر برأيي وموافقتي أن يدعو الأحزاب السورية الاستقلالية إلى عقد مؤتمر سوري في مدينة (جنيف) من بلاد (سويسرة) ؛ حيث تجتمع جمعية الأمم لأجل المطالبة بحق سورية في الحرية، والاستقلال الصحيح المطلق من كل قيدٍ ينافيه؛ ولأجل جمع كلمة هذه الأحزاب، وتعاونها على العمل دائمًا، وبناءً على هذا القرار نشر الحزب المنشور الآتي: *** دعوة الحزب إلى عقد مؤتمر سوري: (إن لجنة حزب الاتحاد السوري المركزية بمصر واثقة أنكم كنتم وما زلتم مواظبين على مبادئكم القويمة الوطنية، ومساعيكم الشريفة إلى أن تكلل بالنجاح، ويتحرر الوطن المحبوب، ويصبح كما يريد أبناؤه الأحرار العاملون وطنًا حرًّا مستقلاً، زاهرًا برجاله، ناهضًا بهممهم، سائرًا كل يوم إلى الأمام، بفضل ما يبذله الأحرار العاملون في سبيله مِن التضحيات العديدة، والمساعي الجليلة. وبعد: فقد رأت لجنة حزب الاتحاد السوري التي كانت - وما زالت - تجاهد بجميع الطرق المشروعة للحصول على استقلال البلاد التام الذي هو أمنية كل سوري أَبِيّ النفس - أن تتآزر جميع الأحزاب والجمعيات السورية التي تعمل لغاية الاستقلال التام، ووحدة البلاد سواء في سورية نفسها، أو في المهاجر البعيدة المتفرقة، وتتفاهم فيما بينها على أسس المبادئ والمساعي معًا، وترفع صوتها في وقت واحدٍ للعالم المتمدن بأسره بجميع الطرق المشروعة، طالبة الحصول على حقها الوطني الطبيعي المؤيد بكثير من العهود والوعود من أقطاب السياسة في العالم المتمدن كله. ولما كان مجلس عصبة الأمم سيجتمع قريبًا، وينظر في شروط الوصاية المفروضة على سورية، وغيرها من البلاد المنفصلة عن تركيا - فقد قررت لجنة حزب الاتحاد السوري أن تدعو الجمعيات، والأحزاب السورية إلى عقد مؤتمر سوري عام في (جنيف) - مركز عصبة الأمم - في ١٠ حزيران (يونيو) المقبل؛ لتبرهن بكل ما لديها من الوثائق، والحجج، والأدلة على ما لسورية من الحق بالحرية، والاستقلال، وتتوصل بالوسائل المشروعة لدى مجلس عصبة الأمم - لسماع رأي البلاد قبل إبرام الحكم عليها، فلجنة حزب الاتحاد السوري تدعوكم، وتدعو سائر الجمعيات السورية للاشتراك في هذا المؤتمر، وترجو منكم إشعارها بأسماء مندوبيكم، وبميعاد سفرهم، وبما ترغبون الاشتراك فيه مِن نفقات المؤتمر العامة، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام، والسلام) . نائب الرئيس ... ... ... ... ... ... رئيس حزب الاتحاد السوري محمد رشيد رضا ... ... ... ... ... ... ... ميشيل لطف الله *** المانع والمقتضي والتعارف والترجيح: اتفق في أثناء نشرنا لهذه الدعوة أن مرض أولادي، واحد بعد آخر، ثم توفي صغيرهم، وكنا أرجأنا السفر انتظارًا للعلم بموعد اجتماع عصبة الأمم الرسمي الذي كان عُيِّنَ، ثم أُرجِئ، ثم قرر أن يكون في أواخر شهر أغسطس؛ فتقرر أن يسافر وفد حزبنا من الإسكندرية في ١٢ أغسطس، ثم اتفق أن أصيب ولدي محمد شفيع في أول أغسطس بحمى معدية، يحتاج علاجها إلى دقةٍ وعلمٍ؛ فكنت أتولى معالجته، وتغذيته بنفسي، على أن والدته كانت نُفَسَاء، وقرب الموعد، ولما ينقه من مرضه، فترددت في السفر، ثم رجحت أن أتربص ريثما يَنقَه الغلام، وأسافر، فلما حل الموعد رأيت أن مصلحة خدمة الوطن ينبغي ترجيحها على الأهل والولد، فعزمت، وتوكلت، وأزمعت الرحيل، تاركًا الأسرة تستقبل عيد الأضحى في حزنٍ، ونفاسٍ، وتمريضٍ، كما تركت أعمال المطبعة التي هي مادة المعيشة، وغادرت القاهرة في اليوم الثامن من ذي الحجة (الموافق لليوم الثاني عشر من أغسطس) ، وهو يوم التروية، ويليه يوم عرفة، فعيد الأضحى، فشق عليَّ، وعلى الأهل، والعيال، ولكن سفري لم يكن منه بدٌّ باتفاق الإخوان من أعضاء الحزب وغيرهم، وقد زارني قبله بيومين رئيس الحزب، وبالغ في وصف ما يراه من ضرورة سفري، وما في تأخيره عن هذا الوقت من الضرر. سافرت في قطار الضحى السريع من القاهرة، فألفيت في المركبة - التي ركبتها من الدرجة الأولى - ثلاثةً مِن أصحابي علماء الشرع الأذكياء المشهورين، وهم الشيخ محمد حسنين العدوي مِن هيئة كبار العلماء بالأزهر، والشيخ محمد المراغي مِن قضاة المحكمة الشرعية العليا، والشيخ محمد الضواهري شيخ الجامع الأحمدي بطنطا، فجلست إليهم، وقطعنا المسافة في البحث، والمذاكرة في المسائل العلمية، والاجتماعية، ولا سيما مسألة ضعف المسلمين، وأسبابه، ووسائل معالجته، وأهمها الإصلاح الديني. *** سفر البحر من الإسكندرية: ولما بلغت الإسكندرية ذهبت إلى أحد فنادقها المجاورة للبحر؛ فتغديت فيه، ثم سألت بالمسرّة (التليفون) عن الأمير ميشيل بك لطف الله [١] ، فعلمت أنه قد ذهب إلى الباخرة التي اتفقنا على السفر فيها، وأنها تسافر من المرفأ عند انتهاء الساعة الثالثة بعد الظهر، فيمَّمتها، فألفيته هو ورفيقنا جورج أفندي يوسف سالم ينتظران، وكانا قد أرسلا رسولاً للبحث عني، فصادفني بالقرب من الميناء، فساعدني على إنهاء العمل المعتاد في الجمرك، كالنظر في جواز السفر، ورؤية الطبيب، وما دون ذلك. ثم ركبت الباخرة. الباخرة طليانية اسمها (كليوبطرة) ، وهي من البواخر المتوسطة في الكبر والإتقان، فهي أكبر مِن بواخر الشركة الخديوية، ودون الباخرة (عثمانية) منها إتقانًا، ولكنها دون أكثر البواخر التي تنقل الركاب بين مصر وأوربة. وكانت لدولة النمسة فأُخذت منها، فيما أخذته دول الأحلاف من غنائم الحرب، وكان مجراها مِن مرساها في الموعد المضروب لها (الساعة ٣ بعد الظهر) . كان الرفيقان في شكٍّ من سفري معهما؛ لما علما مِن الموانع التي أهمها تمريض ولدي، ولكنهما استأجرا مخدعين في الدرجة الأولى، في أحدهما سريران لي، وليوسف سالم إن حضرْتُ، وإلا كان له وحده، وهو واسع يمكن أن ينام فيه آخرون، وهذه الشركة في المخدع خيرٌ لي مِن الانفراد الذي كنت أفضِّله لو كنت أعرف لغة أصحاب الباخرة؛ فرفيقي يتكلم بلغتهم كما يتكلم بالفرنسية، والإنجليزية وإتقانه للأخيرة أتم. كان الهواء عند سفرنا لطيفًا، لا يشكو منه الجالس على ظهرها، ولكنه لا أثر له في مخادع النوم منها، فلم أطق النوم في سرير مخدعنا لشدة الحر، فنمت على ظهر الباخرة، وفي مساء اليوم الثاني (السبت) برد الهواء قليلاً، وطفقت أحشاء البحر تضطرب على ما كان من خفة الهواء، وضعف حركته، فارتأى بعض الناس أن هذا أثر نوءٍ سابقٍ، وبعضهم أنه مبدأ نَوءٍ جديدٍ، وهو الصواب؛ فقد اشتدت الريح في ناشئة الليل، وكانت باردةً، وأنشأ البحر يعبث بالسفينة، فلما شعرت بالنودان لزمت كرسي الاستلقاء على ظهرها، ولم أستطع العشاء مع الركاب على المائدة، بل أكلت، وأنا مستلقٍ على الكرسي خشية الدوار الذي أدركتني بوادره، ولكنها وقفت عند حدها ولله الحمد. على أن الريح اشتدت في اليوم الثالث، وزاد بردها؛ فلزمت المُستلقَى عامة نهاره، وقد تكلفت طعام الغداء والعشاء، وأنا عليه تكلفًا، وصليت الظهر والعصر قاعدًا، ولم أذهل من كونه يوم العيد، فكبرت الله تعالى في أوقات متقطعةٍ، وتضرعت إليه داعيًا إياه أن يشفي ولدي، ويخلفني في أهلي، ويلطف بنا، وبمَن معنا، وقيل لنا إن اضطراب البحر في هذا المكان المحاذي لقندية (كريد) معتاد. وفي اليوم الرابع (الإثنين) هدأت شدة الريح؛ فصارت أقرب إلى اللطف منها إلى العنف، وزالت مقدمات الدوار، ولله الحمد، وجملة القول أن السفينة لم تضطرب من هذه الريح؛ لأنها شماليةٌ غربيةٌ، تناطح رأسها مناطحةً، ولو صدمتها مِن أحد جانبيها لكان النودان شديدًا، والدوار عتيدًا. كنت شرعت في كتابة بعض المقالات للمنار، وكتاب مطوَّل لأهل البيت، فلما اضطرب البحر، وكان مِن تأثيره ما ذكرت تركت الكتابة، ثم أتممت ذلك كله في يوم الثلاثاء؛ إذ كان لطيف الحركة، معتدلاً بين البرد والحرارة، حتى كنا كأننا في جزيرةٍ لا في سفينةٍ، فطاب لنا الطعام والكلام. لم يكن معنا مِن وجهاء المصريين في الباخرة غير أمين باشا يحيى أحد وجهاء الإسكندرية وهو أشد أنصار عدلي باشا ووفده الرسمي في الإسكندرية، وكان قد اشتد سخطه على سعد باشا زغلول، وكثر تحامله عليه، فخالف في ذلك والده أحمد يحيى باشا الذي ما زال أقوى أنصار سعد باشا في الإسكندرية، ومعه السواد الأعظم من جميع الطبقات، وبيني وبين كل من أحمد باشا، وأمين باشا مودة قديمة، فكنت أكلم أمين باشا في المسألة المصرية بلسان الصديق له المعتدل في المسائل العامة، لا يطلب إلا الحق، وذكرت له أنني قد حررت القول في المسألة المصرية تحرير مَن يرجح الحق والمصلحة العامة على كل شيءٍ كما يعهد، وأنني وصفت كُلاًّ من سعد باشا، وعدلي باشا وصفًا لم أبخس فيه أحدًا منهما شيئًا من حقه، وذكرت له بعض ما قلته فأَحَبَّ أن يرى جزء المنار الذي نُشر فيه ذلك قبل عودته مِن أوربة إلى مصر، وقد اتفقنا على أن شدة التطاعن والتشاحن بين الأحزاب والزعماء مما يزيد في الشقاق، وهو أفتك أسلحة الخصم، ويَذْهَبُ بالوفاق، وهو أمنع معاقل الأمة. وأما طعام الباخرة فقد كانت أنواعه كثيرةً، أجودها السمك الطري، والدجاج وأردَؤُها وأقلها الخضر، وقد كان جورج يوسف سالم يقرأ لي جريدة الطعام عند الجلوس على المائدة، ويبين لي ما يخالطه منها لحم الخِنزير لأَختار بدلاً منه؛ ليطلبه لي، فكان هذا خير ما أشكره له من آداب الصحبة والمساعدة على أعباء السفر، وهو من أخبر الناس بها على ما أُوتي من النشاط والهمة والمروءة في خدمة أصحابه. قطعت باخرتنا المسافة بين الإسكندرية وتريسته في خمسة أيامٍ بلياليها إلا ثلاث ساعات، ويقطعها غيرها من البواخر الجيدة في ثلاثة أيام وثلاث ساعات، فقد كانت بطيئة السير، والبحر رهوٌ، فلما اضطرب زاد بطؤها، حتى لم تكن تقطع في الساعة إلا زهاء ١٢ ميلاً. قلما يحتاج المسافر إلى أوربة في هذه البواخر إلى بذل شيءٍ من الجهد في معرفة القبلة؛ فإن عامة سيرها إلى جهة الغرب الشمالي، فتكون مستدبرة للقبلة، فالذاهب إلى أوربة يتجه إلى مؤخر السفينة، والعائد من أوربة إلى مصر يتجه إلى مقدمتها، وقلما يتغير هذا الوضع. *** تريسته وجمركها وفي ضحوة يوم الأربعاء (١٣ ذي الحجة - ١٧ أغسطس) قابلنا ميناء (تريسته، ثم أرست السفينة في مرساها مِن المرفأ في وقت الظهر، وكانوا قد هَيَّئُُوا طعام الغداء للركاب قبل موعده، فتغدينا قبيل الظهر؛ لنتمكن من النزول عند الوصول. فلم نلبث أن نزلنا، فدخلنا إدارة الجمرك، ففتح عماله بعض صناديقنا وأسفاطنا دون بعض، وقد فُتح لي اثنان من خمسٍ، ولم يُفَتش منهما شيءٌ، ولأولئك العمال فراسة في الناس، وفي متاعهم، وأهم ما يبحثون عنه - فيمَن يجيء من مصر - (سجاير الدخان) ، وكان الأمير ميشيل حمل معه صندوقًا كبيرًا فيه ألوفٌ من هذه السجاير المصرية، ربما يبلغ مكسها ألوفًا من الليرات الطليانية لو كانت محمولة لتُستهلك في إيطالية، وإنما هي محمولة إلى سويسرة، وما يمر من بلاد إلى أخرى يعطى المكس عنه في البلد المحمول إليه دون البلاد التي يمر منها، وقد مكثنا في إدارة الجمرك زمنًا طويلاً لحل الرفيقين هذه المشكلة كما وقفونا لأجلها عندما بلغنا نهاية حدود إيطالية، وأول حدود سويسرة، فقبَّح الله هذا الدخان، ما أعظم ضرره، وأكثر غوائله. (تريسته) حاضرة من أعظم حواضر البحر في سواحل أوربة، على شاطئ الشمال الشرقي مِن بحر الأدرياتيك، مرفأ واسعٌ، وثغرٌ باسمٌ، في سَفْح جبلٍ شامخٍ، فهي كبيروت أو جونية مِن سفح لبنان، وأين مرفأ بيروت الصغير من مرفئها الكبير ذي الأرصفة الكثيرة، وكانت لدولة النمسة، فلما مزقتها الحرب الأخيرة آلت فيما آل إلى إيطالية مع بواخرها، وهي - في الأصل - من حواضر بلادها. كان أول عملٍ عملناه بعد الخروج من المكس أن أودعنا متاعنا في فندق سافواي من فنادقها الكبرى، وبادرنا إلى إرسال البرقيات إلى أهلينا بمصر للإعلام بوصولنا سالمين، وقد طلبت في برقيتي أن يخبروني بحالة محمد شفيع ببرقية يرسلونها إلى جنيف، وأودعنا في البريد ما كتبنا إليهم من تفصيل أخبار سفرنا، وما كتبته من المقالات للمنار، ثم طوّفنا في البلد ساعةً مِن الزمان وعدنا إلى الفندق، وقد عهدنا إلى يوسف بك سالم بأن يأخذ لنا تذاكر السفر في صبيحة اليوم التالي في السكة الحديدية؛ لما له مِن الخبرة ومعرفة اللغة، ففعل. وأقول في هذا المقام: إن الإنسان لا يعرف قدر معرفة اللغات الأجنبية كما يجب إلا إذا سافر إلى بلاد يعرف لغات أهلها؛ فإن معرفته بذلك في بلاده بين قومه لا تعدو النظريات الفكرية، وشهوة التكمل والتوسع في العلم، فإذا سافر وصار بين قوم لا يعرف لغتهم شعر بنقص الجهل بتلك اللغة، ورأى أن ما كان يعده كماليًّا فقد صار من الحاجيات أو الضروريات: من الحاجيات إذا كان معه من الرفاق مَن يقضي له حاجة تارة، ويترجم له كلام القوم أخرى، ومن الضروريات إذا فقد مثل هذا الرفيق، وإذا كفاه المترجم ما لا بد منه في شؤون طعامه وشرابه، وتنقله من مكان إلى آخر في البر والبحر، فهو لا يكفيه كل ما يحتاج إليه من إفادة واستفادة، وقلما يوجد مترجم بين متحاورين يستطيع أن يوصل إلى كل منهما ما في نفس الآخر من علمٍ ورأيٍ وحجةٍ وشعورٍ، بل كان الأستاذ الإمام يخبرهم بأن المرء قلما يستطيع أن يوصل إلى نفس غيره بالخطاب أكثر من ٨٠ في المئة، وبالكتاب تنعكس النسبة، فإذا كان تبليغ المترجم عنه وسطًا بين تعبيره عن نفسه بالخطاب وتعبيره بالكتاب - فقد يؤدي النصف أو أقل من النصف من نظريات السياسة والاجتماع، والفلسفة، والدين، وإنما يؤدي المراد كله في الأمور القطعية التي لا تختلف فيها الأفكار كأثمان السلع وجهات الطرق ومواعيد السفر وما أشبه ذلك. ((يتبع بمقال تالٍ))