للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الكاتب: مهاتما غاندي


الصحة
تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي
ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي

بحث في الأغذية والأشربة
ينبغي لنا قبل الخوض في هذه المسألة أن نعرف الأغذية التي تضر بصحتنا
فيجب علينا اجتنابها، نحن نطلق كلمة (الغذاء) على كل ما يدخل الجسم من
طريق الفم، حتى الخمر والحشيش والأفيون والتبغ والشاي والقهوة والكاكاو
والبهارات واللعوقات. إني موقن بأن جميع هذه الأشياء مضرة بالصحة ويجب
تركها بتاتًا وقد علمت ذلك بتجربتي الشخصية وبتجارب الآخرين.
إن الخمر والحشيش والأفيون قد قبحتها جميع الأديان بلسان واحد، ولكن مع
ذلك نرى عدد المجتنبين لها قليلاً بالنسبة إلى المتهافتين عليها، إن الخمر قد أهلكت
بيوتًا وأسرًا بأهلها، والسكير ينال جزاءه في صحته، وهو يعرف بنفسه أنه ينسى
في سكره الفرق حتى بين أمه وزوجته وابنته! إن حياته تصبح ثقلاً محضًا عليه،
والسكارى كثيرًا ما يوجدون ملقين في المراحيض ومجاري المياه الوسخة، وإن
الناس الصحاح الحواس أيضًا يصبحون آلات صماء عاجزة عند ما يتعودون
الشرب، بل إن قواهم العقلية تضعف فلا تؤدي وظيفتها حتى في حالة الصحو.
يقول بعض الناس: إن الخمر غير مضرة إذا استعملت كالدواء، ولكن
حتى الأطباء الأوربيين قد أخذوا الآن يتحولون عن هذا الرأي في أكثر الأحوال،
يقول بعض حماة الخمر بأنه إذا كان يجوز استعمالها كالدواء بلا مضرة، فكذلك
يجوز استعمالها كالسكر أيضًا، ولكنهم ينسون أن كثيرًا من السموم كذلك تستعمل
كالدواء، فهل نتصور أن نستعملها كالغذاء؟ قد تنفع الخمر بعض النفع في بعض
الأمراض، ولكن مع ذلك لا ينبغي لإنسان مفكر عاقل أن يرضى باستعمالها حتى
كالدواء في حال من الأحوال، وإن كان لا بد له من ذلك فالأجدر به أن يفدي بجسمه
الفاني على أن يرضى باستعمال شيء قد جلب الخراب والهلاك على الملايين من
البشر، إن من حسن الحظ أنه لا يزال يوجد في الهند إلى هذا الزمن ألوف مؤلفة من
الرجال والنساء لم يتناولوا ولا قطرة واحدة من الخمر قط، إن هؤلاء الناس
يفضلون الموت على أن يأكلوا أو يشربوا ما يحترزون منه، مهما أمرتهم الأطباء
بذلك.
أما الأفيون فليس أقل ضررًا من الخمر ويجب اجتنابه كما يجب اجتناب
الخمر، ألا نعتبر بأمة عظيمة قوية كأمة الصين قد أصبحت عاجزة عن حفظ
استقلالها بسبب افتتانها بفتنة الأفيون المميتة؟ أولا نرى الأغنياء وأصحاب الأملاك
في بلادنا نفسها قد ضيعوا أملاكهم مفتونين بهذه الفتنة العمياء؟
إن فتنة الدخان كذلك قد نسجت ثوبها السميك على عقول البشر نسجًا محكمًا،
حتى إنه يحتاج لخرقة إلى سعي جيل أو أكثر. فالشباب والشيوخ قد وقعوا في هذه
الفتنة العمياء على سواء، حتى إن أفاضل الناس لا يترددون في استعمال التبغ،
والتدخين يكاد أن يصير طبعًا ثانيًا لنا، ويزداد كل يوم انتشارًا ورواجًا. قليل من
الناس يعلمون الدسائس المتنوعة التي يستعملها صناع السجاير لإيقاعنا في شراك
الدخان أكثر فأكثر، فهم يرشون التبغ بحامض الأفيون وغيره من الحوامض
المعطرة لكي نعاني أشد المصاعب في تحرير نفوسنا من قبضته إذا أردنا ذلك،
وهم كذلك ينفقون الألوف من الجنيهات في الإعلانات، وقد أسس كثير من
الشركات الأوربية للسجائر المطابع، وأعدت لها الصور المتحركة واليانصيب،
وأخذت في تفريق الجوائز، كل ذلك للترغيب فيه. والحاصل أنها تصب المال صبًا
كالماء لنشر دعوتها ونيل بغيتها، بل النساء أيضًا قد أخذن الآن في التدخين، وقد
نظمت القصائد في مدح التبغ، ومجدته الشعراء، ورفعت شأنه، ووصفته
(بالصديق الحميم للفقراء!) .
إن مضار التدخين كثيرة جدًّا لا يتيسر عدها للبيان، والمدخن يصبح عبدًا
خاضعًا للتبغ إلى درجة يفقد فيها كل شعور للحياء والخجل، فهو لا يزال ينفخ
الدخان العفن حتى في بيوت الأجانب! لقد أثبتت التجارب العامة بأن المدخنين
كثيرًا ما يقدمون على ارتكاب الجنايات على اختلاف أنواعها للحصول على الدخان.
فالصبيان يسرقون الدراهم من أكياس والديهم، والمسجونون في السجون يدبرون
الحيل لاستراق السجائر، ويبدون مهارة في إخفائها. إن المدخن يستطيع البقاء
بدون أكل حينًا من الزمن، ولكنه يرى نفسه عاجزًا عن الصبر بدون دخانه! لقد
وجدت الجنود في ميادين الحروب تفقد كل مقدرة على الحرب في أحرج الأوقات
إذا حرمت من السجائر التي قد اعتادتها! .
إن المرحوم الكونت (ليون تولوستوي) الروسي قصّ علينا الحكاية الآتية:
رجل أراد لسبب ما قتل زوجته فاستل مديته وهمَّ بالجناية، ولكن أحس حالاً
بالندامة والأسف فأعرض عنها وجلس للتدخين، فلم يلبث أن غشي مشاعره تأثير
التبغ فقام من فوره مرة أخرى ومضى في جريمته! فاستدل الحكيم بهذه الحكاية
على أن الدخان أشد تأثيرًا على المخ من الخمر، وأكبر خطرًا منها.
ثم إن المَبالغ التي تنفق على السجائر والسيجار كبيرة جدًّا وقد أعرف بنفسي
أناسًا ينفقون على السيجار ٧٥ روبية في كل شهر!
إن التدخين يوجب انحطاطًا كبيرًا في قوة الهضم، فالمدخن لا يشعر بالميل
إلى الغذاء، ولأجل أن يجعله مرغوبًا فيه نوعًا ما يستعمل فيه البهارات ويستعمل معه
المربيات واللعوقات بكثرة، ثم إن نفسه يتعفن ويظهر في بعض الحالات على
وجهة البثور والنفطات، وتسود الأسنان واللثة، بل يقع كثير منهم بسبب هذه العادة
الخبيثة في أمراض خطرة. إن دخان التبغ يعفن الهواء ويفسده فتتضرر بسببه
الصحة العامة ضررًا كبيرًا، وإني لا أستطيع أن أفهم كيف يتجرأ أولئك الذين
يقبحون الخمر على حماية الدخان، وإني لا أتردد في القول بأن الذي لا يجتنب
التبغ في جميع أشكاله لا يمكن أن يكون صحيحًا كامل الصحة.
إن استعمال المسكرات مثل الخمر وغيرها لا يؤدي إلى انحطاط القوى
الجسمية والعقلية وخسارة المال فحسب، بل كذلك يضعف الأخلاق ويقضي على
كل قوة ضابطة للنفس.
نحن نقدم الشاي أو القهوة حتى لأولئك الذين يزورونا بغتة، وإن الدعوات
للشاي أصبحت الآن يومية. قد زاد رواج الشاي في الهند من عهد اللورد كرزون
ازديادًا عظيمًا، وكذلك زاد بترغيبه نتاجه بسرعة حتى أصبح استعماله الآن عامًّا
في كل بيت تقريبًا. لقد عمت هذه الأشياء إلى درجة كبيرة، حتى أصبح المرضى
كذلك يشربون الشاي والكاكاو ويعدونهما من الغذاء المقوي.
إني أؤكد بكل قوة أن الشاي والكاكاو والقهوة كل هذه المنبهات مضرة مفسدة
للصحة على سواء؛ لأنها تحتوي على نوع من السم، مع علمي بأنه لا يوافقني في
ذلك إلا القليل من الناس، أما الشاي والقهوة فإن لم يُخلط معهما اللبن والسكر فليس
فيهما أية مادة مغذية. ولقد ثبت بالتجارب المتوالية الكثيرة أنه لا يوجد في شئ من
هذه الأشياء ما من شأنه إصلاح الدم ألبتة، وقد كنا إلى قبل سنوات نشرب الشاي
والقهوة في مواضع خاصة ولكن قد أصبحت الآن هذه العادة عامة لازمة.
إن من حسن الحظ أن الكاكاو، وإن كان يستعمل في بيوت الأغنياء بكل حرية
إلا أن غلاءه قد حال دون انتشاره يبن العامة كانتشار الشاي والقهوة.
إن الشاي والكاكاو القهوة كلها رديئة لكونها تحتوي على مواد مضعفة لقوى
الهضم، وإن أردت أن تختبر ذلك بنفسك فيمكنك أن تعلمه من هذا الأمر الواقع،
وهو أن الذين تعودوها مرة [١] يصعب عليهم أن يعيشوا بعد ذلك بدونها. لقد
جربت ذلك بنفسي في أيامي الماضية، أيام كنت أستعمل الشاي، فكنت إن لم
أشربه في ساعته المعينة أحس بالكسل والارتخاء في الأعضاء.
قد اجتمعت مرة ٤٠٠ امرأة وصبي في حفلة، وكان قد قرر القائمون بها أن
لا يقدموا الشاي للمدعوين، فماذا كانت حالة هذه النسوة اللائي كن متعودات على
الشاي في الساعة الرابعة مساءً؟ إنهن بادرن حالاً إلى إعلام أصحاب الحفلة بأننا
إن لم نتناول شاينا المعتاد نمرض ونعجز عن الحركة! فاضطروا هم إلى نسخ
عزمهم، وأمروا بتحضير الشاي، وكان التأخير القليل الذي حصل أثناء التحضير
قد أحدث صخبًا كبيرًا وفتورًا عامًّا في النسوة، ولم يعدن إلى رشدهن إلا بعد
أن شربن الشاي! .
ليست هذه الحكاية وضعية فكاهية، بل واقعة قد وقعت وأنا أشهد بصحتها،
وكذلك رأيت حادثة أخرى مثلها وهي: أن إحدى النساء فقدت جميع قواها
الهاضمة بسبب الشاي وأصبحت فريسة لصداع شديد مزمن، ولكنها منذ الساعة
التي تابت فيها عن استعمال الشاي، أخذت صحتها تتحسن شيئًا فشيئًا. إن طبيبًا
من أطباء بلدية Battersea في إنجلترا قد صرح بعد تحقيق دقيق
بأن فساد القوى العقلية لألوف من نساء تلك الجهة إنما هو نتيجة لانتشار الشاي فيها
انتشارًا عظيمًا. وقد شاهدت أناسًا كثيرين قد فقدوا صحتهم بسبب الشاي.
وقد قال شاعر هندي في وصف القهوة (إنها تزيل البلغم والنفاخ، ولكنها مع
ذلك تضعف الرجولية، وترقق المني، وترقق الدم، ففيها (نفعان وثلاث مضرات) .
ليظهر أن الشاعر قد صدق، فإن للقهوة بعض التأثير في البلغم والنفاخ،
ولكنها في الوقت نفسه تضعف الجسم بالقضاء على المادة المنوية الضرورية،
وترقق الدم فتجعله كالمصل. ونحن نقترح على الذين يدافعون عن القهوة
بنفعها في البلغم استعمال سائل الزنجبيل الذي هو أنفع لهم منها لهذا الغرض،
ومن جهة أخرى لا ينبغي أن ننسى أن إثم القهوة أكبر من نفعها، فإذا كان شيء
يفسد المادة المنوية ويسمم الدم أفلا يجب اجتنابه البتة؟
أما الكاكاو فهو كذلك مضر كالقهوة بل كالشاي، لأنه يحتوي على سم
يضعف إحساس الجلد.
إن الذين يسلمون بقوة الملاحظات الأخلاقية في هذه الأشياء يجب أن يتذكروا
دائمًا أن الشاي والقهوة والكاكاو كلها إنما ينتجها في الأكثر تعب العمال تحت شروط
(التعهد) الذي ليس هو إلا اسم حسن للعبودية، إننا لو نري بأعيننا تلك المعاملة
القاسية التي يعامل بها العمال في بساتين الكاكاو لا نعود إلى استعماله أبدًا، وكذلك
لو كنا نحقق الطرق التي تعالج بها جميع أطعمتنا بالتدقيق لكنا نترك ٩٠ في المائة
منها لا ريب.
إنه يمكن تحضير بدل غير مضر بل صحي للقهوة (والشاي والكاكاو) أيضًا
بكل سهولة، ولا يستطيع حتى الذين ألفوا شرب القهوة كثيرًا أن يجدوا فيه ما
يفرقون به بين طعم القهوة وبينه، يوضع قمح جيد منتقى في مرجل فوق النار
فيقلى حتى يحمر احمرارًا ويضرب إلى السواد، فينزل عند ذلك ويسحق كالبن ثم
إذا أردت أن تشربه فخذ من المسحوق ملعقة وضعها في الفنجان وصب من فوقه
ماءً فاترًا وإن وضعته على النار مدة دقيقة أحسن، وتزيد فيه اللبن والسكر إن
شئت، فإذا شربته تجد شرابًا لذيذًا أرخص وأصح من القهوة.
وأما الذين لا يريدون أن يتعبوا أنفسهم في إعداد هذا المسحوق فلهم أن
يطلبوه [٢] من: Ahmedab Ashram Satiagraha
***
الغذاء
يمكن تقسيم النوع البشري من جهة الغذاء ثلاثة أقسام كبيرة:
(فالقسم الأول) وهو أعظمها الذين يقتاتون بالنباتات وحدها، لرغبتهم فيها
وتفضيلها أو لعجزهم عن الحصول على غيرها. ويدخل في هذا القسم معظم الهند
وكثير من أهل أوربة والصين واليابان، ويجتنب اللحم عدد قليل من هذا القسم
لأسباب دينية، والباقي يرحب به إن وجده، ويدخل في هذا القسم المضطر الطليان
والأيرلنديون وأكثر الاسكوش، وفلاحو الروس المساكين، وجميع أهالي الصين
واليابان تقريبًا، فقوام غذاء الطليان المكرونا، وأهل إيرلندا البطاطس، وأهل
أسكاتليند دقيق الذرة، وأهل الصين واليابان الرز.
(والقسم الثاني) الذين يعيشون بالأغذية المخلوطة، ويدخل فيه أكثر أهالي
إنكلترا والطبقة الغنية من الصين واليابان ومسلمو الهند، وكذلك الأغنياء من
الهندوس الذين لا يرون بأسًا دينيًّا بأكل اللحم. وهذا القسم كذلك كبير وإن كان أقل
من القسم الأول.
(القسم الثالث) سكان المناطق الباردة غير المتمدينين الذين يعيشون على
اللحم وحده. وعددهم ليس بكثير، بل هم أيضًا يضيفون إلى غذائهم النباتات كلما
ازدادوا اتصالاً بالأمم الأوربية المتمدينة، فعلم من ذلك أن الإنسان يعيش على ثلاثة
أقسام من الغذاء. ومن الواجب علينا أن نبحث في الغذاء الأصلح لنا.
إن التحقيق الدقيق في الجسم الإنساني ينتهي بنا إلى الجزم بأن الفطرة
البشرية تقتضي أن يعيش الإنسان على غذاء الثمار وحده. لأن هنالك علاقة قريبة
جدًّا بين أعضاء الجسم الإنساني وأعضاء الحيوانات التي تعيش على الثمار [٣] .
فالقرد مثلاً وهو أشبه بالإنسان في شكله وتركيب بنيته، ولا سيما أسنانه
ومعدته يقتات بالثمار وحدها. على حين نرى الحيوانات التي تأكل اللحم كالأسد
والنمر مثلاً تختلف هيئة أعضائها عن الإنسان كل الاختلاف. كذلك يوجد بعض
الاشتراك بين أعضاء الإنسان وبين الحيوانات التي تأكل النباتات كالبقرة ولكن
أمعاءها أكبر من أمعائه، ومخالفته لها في التركيب.
فمن هذا استنتج كثير من العلماء أن الإنسان لم يخلق ليعيش على اللحم ولا
على النباتات، بل على الجذور والثمار.
وقد وجد العلماء بالتجارب أن الثمار تحتوي على جميع تلك المواد التي يحتاج
إليها الإنسان في غذائه، فالموز والبرتقال والتمر والعنب والتفاح واللوز والجوز
والفول السوداني، والجوز الهندي كل هذه الفواكه تحتوي على مقدار كبير من
المواد الغذائية. وقد قال كثير من العلماء بأن الإنسان لا يحتاج بطبعه إلى معالجة
الطعام بالطبخ. وحجتهم في ذلك أنه مثل سائر الحيوانات يستطيع أن يعيش بكل
سهولة على الغذاء الذي تنضجه حرارة الشمس. ثم هم يقولون: إن أكثر المواد
الغذائية تهلك أثناء الطبخ، وأن الأشياء التي لا تؤكل نيئة لا يمكن أن تكون قد
خلقت لغذائنا.
فإن كان هذا الرأي حقًّا فإنا عبثًا نضيع كثيرًا من وقتنا الثمين في طبخ طعامنا
إن كنا نستطيع أن نقتصر على الغذاء المطبوخ فنقتصد وقتًا كثيرًا وقوة كثيرة،
ومالاً كثيرًا، وننفقها جميعًا في الأمور النافعة.
لا ريب أن أكثر الناس يضحكون من ذلك ويسخرون من كل من يظن أن
الإنسان سوف يتعود الطعام غير المطبوخ؛ لأنهم لا يتصورونه يقبل هذا أبدًا. ولكننا
لا نبحث الآن فيما يقبله الإنسان وما لا يقبلونه، نبحث فيما يجب أن يفعلوه. فإننا إذا
علمنا أحسن أنواع الطعام استطعنا بعد ذلك أن نقرب عملنا للمثل الأعلى شيئًا فشيئًا.
نقول: إن الثمار والفواكه أحسن الأغذية ولا نؤمل أن جميع الناس يأخذون
قولنا قضية مسلمة ويقبلون على أكلها وحدها. بل إنما نقصد بذلك أنهم (إن) تعودوا
هذا الغذاء فإنه يكون أحسن لهم وأنفع.
يوجد في إنكلترا كثير من الناس قد اقتصروا على الثمار وحدها ودونوا نتائج
تجاربهم. إن هؤلاء الناس ما اتخذوا هذا الغذاء لأسباب دينية بل من الوجهة الصحية
فقط.
وقد ألف دكتور ألماني كتابًا ضخمًا في الموضوع، أثبت فيه قيمة غذاء الثمار
بكثير من الدلائل والشهادات. وكذلك قد عالج كثيرًا من الأمراض، بوصف هذا
الغذاء مصحوبًا بالمعيشة في الهواء الطلق، وقد توسع في كلامه حتى قال: إن أهالي
كل قطر يمكنهم أن يجدوا جميع المواد المغذية لهم في ثمار قطرهم نفسه.
أستسمح القراء في أن أثبت هنا تجربتي الشخصية في المسألة: إني أعيش
منذ ستة أشهر على الثمار وحدها تاركًا حتى الحليب واللبن الحامض. إن طعامي
الآن يحتوي على الموز والفول السوداني والتمر وزيت الزيتون مصحوبًا ببعض
الفواكه الحامضة كالليمون. وليس في وسعي أن أقول تجربتي قد نجحت تمامًا.
لأن مدة ستة أشهر أقل بكثير من أن تصلح للحكم النهائي في مثل هذه المسألة
المهمة، مسألة تغير الغذاء الإنساني. وكل ما يمكنني أن أقول هو أني قدرت أن
أبقى صحيحًا بينما أصيب الآخرون بأمراض، وأن قواي الجسمية العقلية لأقوى
الآن من ذي قبل، فأستطيع الاشتغال بالشغل العقلي أكثر من قبل مع ثبات وعزم
أكثر. وقد جربت غذاء الثمار في كثير من المرضى مع نجاح كبير مطرد متشابه.
وسأذكر بعض هذه التجارب في فصل الأمراض.
وهنا أقتصر في الكلام على القول بأن تجربتي الشخصية وكذلك مطالعتي في
الموضوع قد زادتني رسوخًا في اعتقادي بأن غذاء الثمار أحسن غذاء للإنسان.
وإني كما اعترفت آنفًا لا أتصور لحظة بأن الناس بمجرد قراءتهم هذا الكتيب
يكبون على هذا الغذاء بل لا أستبعد أن كل ما أكتبه لا يؤثر أدنى تأثير حتى على
واحد من القراء. ولكني أعتقد بأنه مفروض عليَّ أن أقدم إلى الناس كل ما أعتقده
حقًّا حسب علمي ومعرفتي.
وعلى كل حال فمن أراد أن يجرب هذا الغذاء يجب عليه أن يتدرج فيه بكل
انتباه وتحذر لينال أحسن النتائج. يجب عليه أن يطالع قبل البدء في العمل جميع
فصول هذا الكتاب بإمعان ويذعن لقواعد الأصول الأساسية التي بينت فيه.
ورجائي من القراء أن لا يستعجلوا في حكمهم النهائي حتى يفرغوا من سماع كل ما
أريد أن أقوله لهم.
إن الغذاء النباتي أحسن غذاء بعد غذاء الثمار، نحن نطلق كلمة النبات على
جميع أنواع الخضراوات والحبوب وكذلك على اللبن. إن النباتات ليست مغذية
كالثمار؛ لأنها تفقد جزءًا من قوتها أثناء الطبخ ولا بد من طبخها؛ لأنه يتعذر أكلها
نية. لنرى الآن أحسن النباتات وأجودها وأصلحها للغذاء.
إن القمح أحسن أنواع الحبوب. فالإنسان يقدر أن يعيش عليه وحده دون
غيره؛ لأنه يحتوي على القدر المناسب من جميع المواد المغذية. وكذلك يمكن
تحضير كثير من المأكولات منه وكلها يمكن هضمها بسهولة. إن الأغذية المحضرة
التي تباع عند الكيماويين للأطفال يصنع معظمها من القمح. ومثله الدخن والذرة
ويمكن صنع الكعك والخبز منهما أيضًا ولكنهما أقل درجة من القمح في قيمتهما
الغذائية. لنرى الآن أحسن شكل لاستعمال القمح. إن الدقيق الأبيض المطحون في
الطاحونات الذي يباع في أسواقنا غير نافع لخلوه من كل مادة مغذية. وقد قال
دكتور إنكليزي إن كلبًا كان يطعم من هذا الدقيق وحده فمات بعد زمن بينما الكلاب
الأخرى التي كانت تأكل من دقيق أحسن منه قد عاشت صحيحة صحة تامة. إن
إقبال الناس عامة بهذه الرغبة الشديدة على خبز هذا الدقيق ليس إلا لأنهم يأكلون
للاستمتاع ولا يبالون بالصحة مطلقًا. إن هذا النوع من الخبز لا يكون فيه أي طعام
ولا تبقى فيه أي مادة من المواد الغذائية. ثم فوق هذا لا تكون خبزته لينة بل كثيرًا
ما تتطلب التنظيف في الرحى ذات الأسنان في البيت. فيستعمل بدون التصفية
المزيدة. ويكون خبزه حلوًا جدًّا ولينًا للغاية. وهو يبقى أكثر مما يبقى دقيق
الطاحونة؛ لأنه يحتوي على المواد الغذائية أكثر منه ويمكن استعماله في كمية أقل
منه.
إن الأرغفة التي تباع في الأسواق لا فائدة منها أصلاً فهي قد تكون بيضاء
جميلة. لكنها دائماً مغشوش ما فيها. وأقبح ما فيها أنها تصنع من العجين المخمر
الذي قال عنه كثير من الناس بعد التجربة أنه مضر بالصحة. ثم إنها فوق هذا
تصنع في الأفران المطلية بالشحم، وهذا هو مما لا يوافق عواطف الهندوس
والمسلمين على السواء. إن شحن البطن بهذه الأرغفة من السوق عوضًا من خبز
الخبز الجيد في البيت لدليل كبير على الكسل.
ولاستعمال القمح طريقة سهلة غير هذه الطريقة، وهي أن يجرش القمح ثم
يطبخ ويخلط عليه اللبن والسكر. إن هذا يهيئ طعامًا لذيذًا صحيحًا.
إن الرز غذاء غير نافع بالمرة. ومما يرتاب فيه هو هل يمكن للإنسان أن
يعيش بالرز وحده بدون أن يزيد معه الأشياء المغذية كالعدس واللبن، خلافًا للقمح
الذي يمكن الاقتصار عليه وحده حين يغليه في الماء.
نحن نأكل البقول لطعمها فقط، وبما أنها تحتوي على المواد الملينة المسهلة
فهي تساعد في تنظيف الدم إلى حد ما. ولكنها مع ذلك ليست إلا الحشيش في شكل
آخر وعسرة جدًّا في الهضم. أما الذين يكثرون استعمالها فتضعف أبدانهم ويشكون
في أكثر الأحيان سوء الهضم. ويبحثون دائمًا عن العقاقير والمسحوقات الهاضمة.
فعلى هذا إن كان لا بد من استعمالها فيجب الاعتدال فيه.
إن أنواع العدس كلها عسرة الهضم وكل ما فيها من الجودة هو أن الذين
يأكلونها لا يجوعون وقتًا طويلاً ولكنهم في الأكثر يصابون بسوء الهضم. نعم ربما
يستطيع هضمها الذين يشتغلون بالأشغال المتعبة، بل ربما يستفيدون منها بعض
الفائدة، ولكن نحن الذين نعيش عيشة الجلوس والكسل يجب أن نحترس كثيرًا في
أكله.
إن الكاتب الإنكليزي الشهير الدكتور هيج hig يقول لنا على أساس التجارب
المتوالية بأن أنواع العدس كلها مضرة بالصحة؛ لأنها تولد في الجسم الأيسيد aced
الذي يسبب أمراضًا مختلفة ويجلب الشيخوخة قبل أوانها. ولا حاجة إلى سوق
دلائله هنا، فإني متأكد بصحة تجربتي الشخصية، وعلى كل حال فالذين لا
يستطيعون، أو لا يريدون الاجتناب التام عن العدس يجب عليهم أن يأكلوه
باحتراس كبير.
إن البهارات والتوابل شائعة في الهند شيوعًا عظيمًا، خلافًا لسائر العالم،
حتى إن السود من أفريقيا ينفرون من توابلنا، ويرفضون أن يأكلوا طعامنا المخلوط
بالبهارات والبيض لأنهم إذا أكلوا التوابل تفسد معدهم، وتظهر البثور على وجوههم،
كما أني وجدت ذلك بتجربتي الشخصية. والحقيقة أن التوابل ليست لذيذة في
ذاتها في حال من الأحوال، ولكنا قد ألفناها من زمن طويل فيروق لنا طعمها
ورائحتها. وهي مهما تكن لذيذة فإن من الخطأ الفاحش كما قد قررنا آنفًا، أن
نرغب بكل شيء لمجرد طعمه ولذته.
لماذا انتشرت هذه البهارات والتوابل بيننا هذا الانتشار الكبير؟ لا شك أن
السبب الوحيد هو الاستعانة بها على هضم الطعام لنستطيع الإكثار من الأكل، إن
في الفلفل والكزبرة والكمون وغيرها من التوابل قوة كاذبة للإعانة على الهضم
وإيجاد نوع من الجوع الكاذب. ولكن من الخطأ أن يظن المرء من هذا بأن الطعام
كله قد انهضم وتحلل في الجسم. إن الذين يكثرون أكل التوابل يصابون أحيانًا بفقر
الدم وكذلك بالإسهال. إني أعرف رجلاً قد مات في عنفوان شبابه لإكثاره من أكل
الفلفل الأحمر كثرة زائدة. ولذلك يتحتم اجتناب جميع أنواع التوابل بلا استثناء.
كل ما قيل في البهارات يقال في الملح! قد يغضب كثير من الناس لهذا القول.
ولكنه حقيقة قد ثبتت بالتجربة. إن هناك في إنكلترا مذهبًا يجزم بأن الملح أضر
بالصحة من أكثر البهارات. ثم إننا في الحقيقة لا نحتاج إلى الملح الخارجي؛ لأنه
يوجد منه قدر كاف في تركيب النباتات التي نأكلها. إن أمّنا الطبيعة قد أودعت فيها
من الملح القدر الكافي الضروري لبقاء صحتنا. أما الملح الزائد الذي نستعمله فوق
ذلك فلا فائدة فيه أصلاً. بل يخرج كله من الجسم في صورة العرق أو بأشكال
أخرى. وليس جزء من أجزائه يعمل عملاً نافعًا في الجسم على ما يظهره، حتى إنه
قال أحد الكتاب بأن الملح يسمم الدم، وإن الذي لا يأكل الملح مطلقًا يظل دمه
نظيفًا إلى حد أنه لا يؤثر عليه سم الثعبان إذا لدغه. لا نعرف هل هذا حقيقة أم لا؟
ولكننا تيقنا بالتجربة بأن المصابين بالبواسير وضيق النفس إذا تركوا الملح بتاتًا
يستفيدون فائدة ظاهرة. ثم إني ما رأيت ولا واحدًا من الناس تضرر بسبب تركه
الملح، وقد تركته بنفسي من سنين فلم أتضرر بذلك، بل قد استفدت من بعض
الجهات فأنا لا أشرب الآن الماء بكثرة مثل ما كنت أفعل أولاً، وأراني أنشط
وأقوى من ذي قبل. إن سبب هجراني الملح كان عجيبًا جدًّا، وكان ذلك لمرض
شخص [٤] قد أمره الطبيب بترك الملح فتركه مكرهًا فخف مرضه، ولكنه لم يزل
تمامًا لأنه عاد إلى الملح مع أنه لو هجره بتاتًا لشفي على ما أعتقد.
إن الذين يتركون الملح، يتركون معه النباتات والعدس أيضًا، نعم هذا أمر
صعب جدًّا كما قد علمت بالتجارب الكثيرة، وإني متأكد بأن الخضراوات والعدس
لا يمكن هضمها تمامًا بدون الملح، وليس معناه أن الملح يصلح قوة الهضم في نفس
الأمر، بل إنما يبدأ بفعل ذلك كما يبدأ الفلفل، وهو مع ذلك يجر إلى النتائج السيئة
في الآخر، لا شك أن الذي يترك الملح بتاتاً يشعر بفتور واسترخاء بضعة أيام،
ولكنه إن ظل ثابتًا في إرادته يستفيد فائدة كبيرة جدًا.
وها أنا ذا أتجرأ الآن على عدّ اللبن أيضا من الأشياء التي يجب تركها! أقول
ذلك عن تجربتي الشخصية التي لا احتياج إلى سردها هنا بتفاصيلها. إن الفكرة
العامة بين الهندوس عن قيمة اللبن فكرة دينية [٥] باطلة، ولكنها قد رسخت
أصولها في النفوس حتى إنه ربما كان عبثًا أن نتفكر في قلعها، ولكني كما قد
صرحت أكثر من مرة بأني لا أنتظر من قرائي أنهم يقبلون جميع أفكاري بل لا
أعتقد أن جميع الذين يوافقونني فيها عقليًّا يعملون بها عمليًّا. ولكن مع ذلك أرى أنه
واجب عليّ أن أقول ما أعتقده حقًّا تاركًا لقرائي الحكم. قال كثير من الأطباء أن
اللبن يسبب نوعًا من الحمى، وقد ألفت كتب كثيرة في تأييد هذا الرأي. إن جراثيم
الأمراض التي تعيش في الهواء تمتزج بسرعة وسهولة في اللبن فتدخله وتسممه.
وكذلك تصعب جدًّا المحافظة على اللبن طاهرًا نظيفًا.
وقد وضعت في أفريقيا الجنوبية قوانين متقنة في شأن الملابن مبينة طرق غلي
اللبن والمحافظة عليه، وكيفية تنظيف الأواني وغير ذلك. فما دام اللبن يتطلب هذا
التعب الكبير والاحتياط الشديد، فلا ريب أنه يجب التفكر مليًّا في مسألة استعماله
كمادة من المواد الغذائية.
((يتبع بمقال تالٍ))