عن جزيرة العرب - أو - الحجاز واليمن في جمعية الرابطة الشرقية (٢)
(مدينة سواكن) زرت بعض المواني الواقعة على الشاطئ الغربي من البحر الأحمر , وكان القصد من هذه الزيارة مشاهدة مدينة (سواكن) القديمة التي اعتاد الحجاج أن يأتوا إليها من قبل إفريقية؛ ليبحروا منها إلى مكة وكانت قديمًا بلدة تجارية عظيمة , ولكنها اليوم خالية خاوية. ولا تمر بعض السنين عليها حتى تنعق فيها البوم والغربان، وذلك بسبب مزاحمة بور سودان ومصوع لها، ويوجد في ضاحيتها قريتان من القش , وأصل سكانهما من الحجاج الذين انقطعوا في الطريق , ولم يصلوا لا إلى مكة ولا إلى بلادهم، وكانت علامات الفقر الشديد بادية عليهم , فلا زراعة , ولا صناعة لهم , ولا هم يتقنون كأهل الساحل صيد الأسماك. *** (الكلام على اليمن) (من الحديدة إلى صنعاء) ذهبت من مصوع إلى الحديدة ميناء صنعاء , وقد أعد لي الإمام جميع أسباب الراحة , واستقبلني حاكم الحديدة أحسن استقبال. وهذه البلاد اليمانية الإسلامية العجيبة منزوية عن العالم أكثر من القطب الشمالي , ولا يزال طراز الحياة فيها كما كان عليه قبل مئات السنين , ولكنه يختلف كثيرًا عنه في نجد لوجود جبال عالية بين صنعاء والحديدة. ركبنا في رحلتنا البغال؛ لأن البغال تسلك حيث لا تسلك الخيل ولا الجمال , وبعد ما انقضى على سفرنا من الحديدة يومان ابتدأنا نشاهد هندسة البناء في اليمن تختلف اختلافًا كليًّا عن هندسة البناء في الحجاز , وقد شاهدنا في طريقنا حقول شجر البن في بطون الجبال والوديان. إن هندسة البناء في جدة , ومكة متقنة , وجميلة، وتدل نوافذها الكثيرة الواسعة , وأبوابها الكبيرة التي تفتح , وتغلق بسهولة على حب القوم للضيافة، وعلى عراقتهم في المدنية , وميلهم إلى ضبط الأمن، بعكس اليمن التي تدل عزلة قراها , وانفرادها في الأماكن العالية الوعرة التي لا يصل الإنسان إليها إلا بصعوبة على خوف اليمانيين من غزو بعضهم بعضًا , وعلى عدم استتباب الأمن [١] وتشبه أبنية هذه القرى القلاع الحصينة , والدور الأول منها يخصص للحيوانات , والدور الثاني للحبوب والذخيرة , ولا يوجد في هذين الدورين منافذ للنور ولا الهواء , وأما الأدوار الباقية , وهي عادة اثنان فما فوق؛ فتخصص للسكن , ونوافذها صغيرة جدًّا لا يكاد يدخل منها الهواء , ولا النور , وجميع هذه الأعمال تدل أن تلك الأبنية على هذا الشكل؛ قصد الدفاع عن النفس. ومن المعلوم أن القطرين اليمن والحجاز يختلف بعضهما عن بعض اختلافًا عظيمًا , ففي الحجاز سهول واسعة , وصحار مقفرة , وأما اليمن , ففيه الجبال المرتفعة , والوديان المنخفضة [٢] , وتختلف الحياة الاجتماعية فيهما اختلافًا عظيمًا , فالحجاز المقدس بنظر المسلمين تأتيه الحجاج من جميع أطراف المعمورة سنويًّا؛ لقضاء مناسك الحج , ولذلك ترى أهل الحجاز مضطرين بحكم الضرورة إلى ضمان راحة سكان الأرض , وقلما يأتيها الزوار , أو السياح , وأهلها يخشى بعضهم من بعض , ويخشون الدسائس التي يدسها لهم جيرانهم؛ فلذلك تراهم معتادين شظف العيش , ومعتصمين بالقلاع في رؤوس الجبال. على أن الإمام أعد لي جميع وسائل السفر , وكنت أينما حللت بالمساء؛ أجد غرفة معدة لنزولي بها , ولكنني اضطررت أحيانًا إلى النزول في بعض الخانات القديمة الواقعة على طريق القوافل بين عدن والقدس. ولهذه الخانات أبواب , ولكن لا نوافذ لها , وفيها ممر طويل , وغرفة واسعة خصص قسم منها بالحيوانات , والقسم الآخر بالعائلة صاحبة الخان , وبديهي أن كثيرًا من الأولاد يولدن في هذه الخانات , وقد خطر لي عند ما رأيتها أن المسيح ولد في مزود خان كهذه الخانات. إن المناظر الطبيعية بين الحديدة وصنعاء جميلة للغاية , وقد مررنا بطرقات تعلو تسعة آلاف قدم عن سطح البحر , ونزلنا في وديان عميقة حارة , وقد وصلنا إلى صنعاء في الليل على حين غرة , ولما كانت الشوارع لا تضاء بالأنوار؛ وصلنا إلى الدار المعدة لسكنانا بصعوبة شديدة على ما كان من معونة أنوار الجند لنا. وأما الدار التي نزلنا بها , فهي مؤلفة من دورين مبنيين بناءً حديثًا جيدًا , وفيها حديقة تبلغ مساحتها أكثر من فدان أرض , وقيل لنا: إن هذه الدار بيعت منذ بضعة أشهر بمبلغ (١٥٠) ريال أميركي أي: ثلاثين جنيهًا مصريًّا. وقد أخبرنا بعض الجنود الذين رافقونا في الطريق أن الجندي منهم يتناول راتبًا يبلغ ريالين ونصف أميركيين في الشهر , ويتناول ثلاثة أرغفة من الخبز لا يبلغ وزنها تسعمائة غرام , ولا يأكل الجند تقريبًا غير الخبز , ولكن بعضهم يشتركون مع بعض أحيانًا , ويبتاعون شيئًا من اللحم , ويطبخونه لأنفسهم مرة أو مرتين في الأسبوع , ومن العجب العجاب أن يرى الإنسان هذه الجنود رغم تناولها المقادير القليلة من الغذاء تحمل البنادق الثقيلة , وتتمنطق بالعتاد الكثير , وتركض على أرجلها مسافات شاسعة غير مبالية بالتعب , أو شاعرة بالجوع. زارنا ذات يوم أحد أمناء سر الإمام المدعو محمد راغب بك , وهو تركي الأصل , ولد في القسطنطينية , وترعرع في ضواحي البوسفور قرب المدارس الأميركية التي لي بها علاقات منذ زمن بعيد , وقد حدثني عنها حديثًا طويلاً , ومما قاله: إن بعض أقربائه درسوا فيها , وهذا كان لحسن حظي؛ إذ أدخلني إلى حالة الوئام مع حضرة الإمام , وكان باستطاعته أن يتوسط بيننا بطريق حكيمة. وفي اليوم الثاني قابلنا الإمام على انفراد في غاية الحفاوة والإكرام , فقال لي أنه يأذن لي أن أذهب حيث شئت بتمام الحرية , وأن آخذ رسم ما أريد أيًّا كان ما عدا رسم شخصه , وأنه لم يسمح لأحد غيري قدر ما سمح لي من الحرية في صنعاء. إن الإمام في أوائل العقد الخامس من عمره قوي البنية نشيط الحركة , ولما كانت ولاية حكمه ضيقة الرقعة؛ كان شديد الرغبة في أن يتولى إدارة شؤونها كلها بيده من جليلها إلى حقيرها. فهو يجلس كل صباح في مجلس يقصده فيه من يشاء؛ ليسأل ما يشاء , ويعرض ما لديه من أنواع الشكاوى والدعاوى , وعلاوة على ذلك , فإنه يذهب يوميًّا إلى أحد الأماكن العامة دون حارس , ولا تابع من الجند , فيصرف فيه نحو ساعة , وقد يكون منفردًا تحت أشعة الشمس , ولا يرافقه إلا رجل بمظلة الشمسية حيث يستمع الدعاوى , وينظر في المعروضات المرفوعة إليه , فهو بذلك جامع في شخصه بين مقامي السلطان , والخليفة معًا مستمدًّا قوة نفوذه من أنه سلالة الإمام علي الصحيح الخلافة. وأما ساعة ذهابه إلى المسجد يوم الجمعة , فتلك ساعة خطيرة الشأن جلالاً وبهاءً يشترك في إقامة معالمها الناس أجمعون؛ لأنه يوم المهرجان كل أسبوع , وعندما يمر راكبًا في العربة عائدًا من الصلاة , فلأقل إشارة يبديها أحد الشعب يقف المركبة؛ ليتقبل أي معروض , أو يعنى بأي أمر يرى الناس فيه على أتم استعداد لقبوله , والخضوع له. وفي المملكة اليمانية جيش نظامي , وجند من المتطوعة , وكثيرًا ما يشتركان بالإنشاد العسكري يضجان فيه بأصوات خشنة , وهو يتضمن أبياتًا يرنمون بها بما أعطوا من قوة وحماسة , ويقال: إنها أنشودة قديمة العهد. ثم إن الإمام - وإن أبدى لي حين مقابلته مزيد المجاملة , وأباح لي الحديث على غاية الإخلاص - لم ير من الحكمة أن يظهر فرط العناية بي أمام الجمهور؛ إذ كان من الضروري له أن يحتفظ بمقام الاستقلال العظيم , بل بشيء من الاستخفاف بالأجانب مراعاة القبائل الحربية المتعصبين في الحدود الشرقية من البلاد. فإن سلطانه , وأحكامه نافذة في مملكته نظير ابن السعود؛ لمجيئها عن طريق الدين , وعليها مسحة من الشدة فيه كأنه يتخذ في السلطة نوع الحكم المتحد المزدوج؛ لأنه مع كونه زيدي المذهب شخصيًّا , ومدار أحكامه على هذه القاعدة، فإن ثلث شعبه [٣] على جانب البحر الأحمر من أهل السنة , ومنهم عدد معين يشغل بعض المقامات الصغرى في حكومته. *** (الضرائب) أهل اليمن من ذوي الفقر والبؤس الشديد، ولكنهم لانزوائهم في بقعتهم , وانحباسهم عن العالم الخارجي لا يشعرون بهذه الحال. وإن المرء ليأخذه العجب: كيف يستطاع في هذه الفاقة أن تفرض الضرائب على اليمنيين , وتجبى إلى الحد المؤذن بإقامة حكومة , ولا سيما في تجهيز جيش في تلك المملكة كبير؟ ذلك لا ريب عائد إلى حذق من الإمام فريد , والظاهر أن معظم واردات الحكومة هو من ضريبة العشر المفروضة على الحاصلات في عامة أنواعها، على أن الناس باحوا لي أن العشر قد يترقى - بعسرهم والتضييق عليهم - إلى الربع! وإنهم لذلك متألمون ناقمون. *** (المباني) قل أن ترى في مباني اليمن ما يقل عن ست من الطباق (أو الأدوار) , وأما البناء فعلى درجة عظيمة من مخالفات الجمال , ولم أر إلا القليل مما يدل على حسن الذوق سواء أكان في هيئة البناء , أو مواده , أم في ملابس الناس وغنائهم , وإنما يستثنى من ذلك بناء الجوامع , فإن منها عددًا يبدو فيه شيء من الجمال النسبي على ما فيه من بساطة الهندسة , والرسم خلافًا لبناء المنازل. وبعض تلك الجوامع يرجع تاريخ تشييدها إلى عدة قرون , وقد ظننت لأول الأمر أن البنائين أتوا من القسطنطينية لهندستها , وبنائها، ولكنهم أكدوا لي أن كلا الأمرين من صنع أهل البلاد أنفسهم. *** (تعرفي إلى الناس) لم يكد يستقر بي المقام في صنعاء حتى بادر إلى زيارتي الجم الغفير من أهلها، وكلما أردت أن أدرس وجهًا من وجوه حياة اليمن كان أمري ينتشر بين الطبقات , فكان يوافيني واحد , أو جماعة من أهل ذلك الشأن , فقابلت الرؤساء , والبنائين , والتجار , ورجال العسكرية , ولا سيما العلماء , وفيهم القاضي الكبير الذي يحمل سمة المسلم التاريخي القديم , وبلغ بيننا التعرف مبلغه حتى أقبل لزيارتي المرار العديدة. ولقب (القاضي) في اليمن له معنى خاص؛ فإنه يطلق عادة على طائفة ممتازة من جميع طلاب العلم , كما أن كلمة (شيخ) تستعمل كذلك في الشمال. *** (سبأ وسد مأرب) كنت شديد الرغبة في الرحلة إلى سبأ , وعلى الخصوص لمشاهدة السد القديم الذي كان مصدر خصبها , وزهوها. إن مؤسس هذه المدينة هو (عبد شمس) الذي ابتدع عبادة البعل , أو الشمس , ثم أضاف إليها القمر , وخمسة كواكب سيارة أخرى , فتم بذلك عددها؛ أي: السيارات السبع , فكان هذا العدد أصل تلك المدينة (سبأ) , وقد بنى أيضًا سدًّا عظيمًا بين جبلين بحيث ينشأ به خزان من الماء يحيي المدينة , وما حولها من الأرجاء , ويهب لها الخصب والنماء. ثم بعد ١٥٠٠ عام تصدعت جوانب السد؛ فطغى الماء على المدينة , وما جاورها من البلاد , ودمر كثيرًا من القرى , ولعل هذه الكارثة كانت أصل الحديث (الطوفان) . وأما الإمام , فمع أنه شديد الحرص على إعطائي كل ما أطلب إلا أنه قال لي في شأن هذه الأمنية: إن هذه الرحلة من المستحيلات , ومع أن سبأ لا تبعد عن صنعاء أكثر من ٧٥ ميلاً , فهو لم يتمكن من الذهاب إليها إلا بعد أن اتخذ أشد الاحتياط لما أن قبائل تلك الناحية على أعظم جانب من التعصب (الذميم) يعدون ذواتهم حراس الكنز العظيم المقدس الباقي من آثار تلك العاصمة القديمة , فلا يأذنون لأجنبي أن تطأها قدمه , أو يقترب منها , ومما قال لي الإمام: إن بعثة ألمانية ذهبت للبحث في تلك الناحية قبل الحرب العالمية , فلم يبق البدو على أحد من رجالها. *** (حفلة استقبال لرجوع ابن الإمام من سفره) لم ينقض على نزولي صنعاء عدة أيام حتى ورد نبأ بمجيء ابن الإمام ولي عهد إمامته بعد يوم واحد , وكان غائبًا عنها ثلاث سنين على رأس فرقة من الجند في القسم الشمالي من البلاد - أي (صعدة) - حيث يتشعب الطريق شعبتين: إحداهما تتجه إلى مكة , والأخرى إلى نجد، فكانت عودته بالطبع حادثة ذات شأن , فخرجت إلى بعد خمسة أميال من المدينة مع أكثر الأهالي , ولا سيما الجيش , وقفتا لاستقبال القادم الكريم على أحسن ما يقال في الإجلال , والاحتفال مما يدل على سمو مكانة ذلك الشاب عند عامة الشعب , ذلك أن الإمام إنما يرتقي سدة الإمامة والحكم بانتخاب العظماء من شيوخ البلاد في اجتماع خاص. ولما كان ولي عهده في الحكم أحد بنيه الأحياء حق له هذا الاحتفاء والإكرام. وبعد قدوم ذلك الأمير الخطير بأيام زرته , فتوسمت فيه مخايل الحزم , والعزم , ودلائل الجد في الأعمال على شخصية جذابة , ولكنها على صورة أضعف من شخصية والده العظيم. (للكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))