للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


السيد أحمد الشريف السنوسي

في العشر الأخير من الشهر الماضي (ذي القعدة) نعت أنباء المدينة المنورة
إلى العالم الإسلامي السيد الكبير، والعلم الشهير، والمجاهد العظيم، السيد أحمد
الشريف السنوسي كبير السادة السنوسية وزعيمهم، وإمامهم ومرشدهم، وقائدهم
في معارك القتال، ومعامع الأبطال:
قام النعيُّ فأسمعا ... ونَعَى الكريم الأروعا
نعم قام نعيه في مدينة الرسول الأعظم، فأسمع كل مؤمن بجده محمد صلى
الله عليه وآله وسلم، فوجلت له قلوب وزرفت عيون، وفاضت شئون، بكته
الحجاز واليمن والسودان، وطرابلس وبرقة ومصر والعراق والشام، وسائر بلاد
الإسلام، فماذا يقول القائلون، وماذا يكتب الكاتبون، إنا لله وإنا إليه راجعون.
إن السيد أحمد الشريف السنوسي من أشهر رجال الإسلام في هذا العصر
اشتهر بالصلاح والتقوى، واشتهر بالكرم والمروءة، واشتهر بالزعامة والإمامة،
ثم اشتهر بالجهاد بالمال والنفس في الدفاع عن قومه ووطنه، ثم اشتهر بعلو المقام
عند الدولة العلية العثمانية؛ إذ كان هو الذي قلد السلطان محمد السادس السيف في
حفلة مبايعته خلافًا للتقاليد المتبعة في الدولة، وأنعم عليه برتبة الوزارة الاسمية
والنشان المرصع، ثم كان له عند المجاهدين من الترك في الأناضول مقام عال،
واشتهر أنهم عرضوا عليه منصب الخلافة الروحية التي قلدوها السلطان عبد المجيد
بعد إخراج السلطان محمد السادس من الآستانة فأبى، ثم إنهم قطعوا راتبه بعد تمام
الظفر، والشروع في الانقلاب الإلحادي المنتظر، واضطروه إلى الخروج من
بلادهم فخرج إلى سورية فلم تأذن له فرنسة بالإقامة فيها، وأحب أن يأوي إلى
مصر فعلم أنه لا سبيل له إلى الوصول إليها، فلجأ إلى الحجاز، فتلقاه ملك العربية
السعودية بالقبول والإعزاز، وأجرى عليه من الرزق ما يليق به، إلى أن توفاه الله
بجوار رسوله صلى الله عليه وسلم في رحابه، ودفن في البقيع مع آل بيته
وأصحابه.
ولكن كل هذه المظاهر العالية للشهرة ملائمها ومؤلمها قاصرة عن معرفة كنه
هذا السيد الأروع والهمام السميدع، وإنما العلم التام بها يتوقف على الوقوف على
تاريخ السادة السنوسية التي هي أسرته وعشيرته، والطريقة السنوسية التي أسسها
هو وأبوه وجده، وماذا فعلت من إصلاح ديني وعمراني، وما كان لها في أنفس
الإفرنج عامة والفرنسيس خاصة من الشأن السياسي، وكيف استطاعت دولة فرنسة
فساد بأس جميع طرائق المتصوفة في إفريقية واستمالة شيوخها بالرشوة إلا الطريقة
السنوسية.
كان الجهل والفساد فاشيين في بلاد برقة وما يليها إلى أحشاء السودان فجاءها
السيد محمد علي السنوسي الكبير فنشر فيها العلم والدين والعمران، وأسس الزوايا
الكثيرة بنظام عمراني بديع، فكانت مدارس علم، ومساجد عبادة، ومعاقل أمن
وحماية، ومنازل ضيافة، ومحطات تجارة، وثكنات مرابطة، عمرت بها البلاد
وأمن العباد، وكثر العُبَّاد، وحسب لها الطامعون كل حساب، ولولا السنوسية لما
ذاقت إيطالية من جهاد العرب في برقة وطرابلس ما أفقدها مئات الألوف من
الأموال. وللسنوسية زوايا كثيرة في الحجاز أيضًا.
ولا يجد طالب تاريخ السنوسية طلبته دانية الجني إلا في ذيول كتاب حاضر
العالم الإسلامي بقلم أمير البيان، خاتمة مؤرخي الإسلام، الأمير شكيب أرسلان.
وإنني أنبه أذهان قراء المنار في تأبين هذا السيد الزعيم المجاهد لما لعلهم لا
يجدونه في غير المنار من الصحف، وهو:
لقد كان هذا السيد الزعيم الكريم أول مصداق ظاهر للأحاديث الصحيحة
الواردة في أُرُوزِ الإسلام إلى الحجاز، واعتصامه فيه من الأعداء، كما تعتصم
الوعول في شناخيب الجبال.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى
جحرها) رواه الشيخان من حديث أبي هريرة، وقال: (إن الدين ليأرز إلى
الحجاز كما تأرز الحية إلى جُحْرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من
رأس الجبل) إلخ [١] رواه الترمذي من حديث عمرو بن عوف المزني، وقال صلى
الله عليه وسلم: (إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ وهو يأرز بين
المسجدين كما تأرز الحية في جحرها) رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر.
ولهذا المعنى أوصى النبي مرارًا - آخرها قبيل وفاته - بإخراج اليهود والنصارى
من جزيرة العرب وألا يبقى فيها دينان، وهو من آيات النبوة التي لا يتمارى فيها
عاقلان.
وفحوى هذه الأحاديث أن دين الإسلام الذي خرج من مهده الحجاز وانبسط
في الأرض فاتحًا مُصْلِحًا سوف يُغْلَبُ على أمره ويضطهد أهله بتداعي الأمم عليهم،
حتى يضطر إلى الانقباض والأُرُوز إلى وطنه الأصلي الخاص به وهو الحجاز،
فيعتصم فيه ويكون له معقلاً وملجأً، وهذا النبأ النبوي الذي يعد من أظهر أنباء
الغيب يصدق بدين الإسلام نفسه وبرجاله وأنصاره، والسيد السنوسي من أظهرهم،
وقد ضاقت عليه مملكة الجمهورية التركية اللادينية فأخرجته بعد ما كان من مقامه
الكريم فيها، ولم يجد له ملجأً في سورية ولا في مصر فضلا عن وطنه ووطن
عشيرته وطائفته الخاص، فأرز إلى وطن دينه ومعقله من الحجاز حتى توفي في
المدينة المنورة على مُنَوِّرِهَا ومُشَرِّفِهَا وآله أفضل الصلاة والسلام.
فيجب على المسلمين كافة أن يعنوا بتقوية هذا المأرز والمركز لدينهم،
وحفظه من الأجانب الطامعين، وعدم تمكينهم مما يكيدونه له؛ لوضعه تحت
سيطرتهم البرية والبحرية من ناحية العقبة ومعان وشرق الأردن وغيرها، فوفاة
السيد السنوسي في المدينة بعد تعذر إقامته في غير الحجاز من بلاد الإسلام أكبر
عبرة للمعتبرين، تغمده الله تعالى بواسع رحمته، وجعله مع النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين في دار كرامته، ووفق الأمة للانتفاع بسيرته في حياته
وموتته.
* * *
صلاة الغائب
(على السيد السنوسي، وفوائدها الدينية والسياسية)
بعد صلاة الجمعة الأولى من شهر المحرم فاتحة سنة ١٣٥٢ تقام صلاة
الغائب على الزعيم الإسلامي والمجاهد العظيم والمرشد الشهير السيد أحمد الشريف
السنوسي (قدس الله روحه) في جميع المساجد الجامعة في القطر المصري وسائر
الأقطار التي بلغتها الدعوة إلى هذه الصلاة من مكتب المؤتمر الإسلامي العام في
القدس الشريف.
ستكون هذه الصلاة ممتازة بمعنى لم يسبق له نظير في مثيلاتها من صلاة
الغائب التي يقيمها المسلمون في بعض الأقطار عندما يموت عظيم من عظماء
الإسلام في علمه الواسع وعمله النافع، لا باتصاف السيد السنوسي بشرف النسب
والحسب ولا باشتهاره بالصلاح والتقوى ولا بمكانته المعروفة في العلم والعمل
والإرشاد والإصلاح، والبر والإحسان، ولا بالجاه العريض الذي ناله بتقليده سيف
البيعة للسلطان محمد الخامس وإنعام السلطان عليه بلقب الوزارة والنشان المُرَصَّع،
فكان أول عالم مرشد مُعَمَّم تحلَّى بها كما تقدم آنفًا.
بل تمتاز هذه الصلاة على هذا الرجل العظيم بعمل له هو الذي تم به كماله،
وهو الجهاد بماله ونفسه في سبيل الله دفاعًا عن دينه وقومه ووطنه، وبما آل إليه
أمره من جرَّاء هذا الجهاد من هجرته الأولى إلى بلاد الترك، ثم من إخراجه منها
وتعذر رجوعه إلى وطنه، وتعذر إقامته في سورية ومصر، وفي كل قطر إسلامي
خاضع لنفوذ الدول الاستعمارية الثلاث المحاربة للإسلام المستذلة للمسلمين، وقد
قاتلها كلها في سبيل الله، حتى لجأ أخيرًا إلى مهد الإسلام من حرم الله وحرم
رسوله صلى الله عليه وسلم، ومات بجوار جده صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله،
فبهذا كله صار للصلاة عليه معنًى لم يسبق لغيره من عظماء الإسلام، أذكره
لأذكر به كل مسلم يصلي عليه صلاة الغائب عقب صلاة الجمعة في ذلك اليوم
المشهود.
أعني بهذا هو أن يقصد بالصلاة مع ثواب إقامة هذه السنة القاصر على من
أقامها إحياء الشعور الإسلامي بوجوب الدفاع عن الإسلام وتأييد المجاهدين في سبيل
الله، والتكافل بين المسلمين في وجوه أعدائهم في دينهم وأقوامهم وأوطانهم، السالبين
لاستقلال الملايين منهم، حتى صار يتعذر على مثل هذا الرجل العظيم بكل ما للعظمة
من المعاني الصورية والمعنوية، الدينية والدنيوية.
يجب أن يتذكر الذين يصلون على هذا الزعيم العظيم أن الإسلام مُهَدَّد في أكثر
البلاد التي تسمى إسلامية باضطهاد من يخدمونه ويقومون بحقوقه.
وإن الذين جرَّأَ أعداءه على هذا العدوان والاضطهاد هو غفلة المسلمين عن
أنفسهم، وجهل أكثرهم بما حَلَّ بهم، حتى طمع أعداؤهم بإخراج الملايين عن
دينهم نفسه فلم يكتفوا بسلب ملكهم.
وأذكر أئمة المساجد وخطباءها بأن يذكروا المصلين على المنابر بعد الفراغ
من الخطبة خبر هذه الصلاة ويطالبوهم بالبقاء بعد صلاة الجمعة؛ ليقيموا هذه السنة
وينالوا أجر الصلاة على هذا الزعيم المجاهد الكبير، بما يفتح الله تعالى على كل
خطيب منهم من عبارات التذكير، ثم يذكرهم المؤذن بعد الفراغ من صلاة الجمعة
بذلك لئلا ينصرفوا.
وعسى أن يكون لعلماء الأزهر الشريف أكبر مظهر في هذا يؤثر عنهم.