{أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} (النجم: ٥٧- ٥٨) والمسلمون لاهون غافلون، وأعداء الإسلام دائبون مسرعون، يسخِّرون خونة المسلمين في فتح دار الإسلام، والقضاء على ملك الإسلام، ويشغلون أذكياءهم بظواهر الأمور عن بواطنها، وبمحقراتها عن عظائمها، فالدولة البريطانية أقوى أعداء الإسلام، تريد تأسيس إمبراطورية عربية بريطانية جديدة تحل محل الإمبراطورية الهندية التي يعلمون قرب أجلها، تمتد من مصر إلى خليج فارس وتشمل جزيرة العرب كلها بشكل معين، وتقسيم مدبر، ينفذ في زمن مقدر، ومن مقاصده الأساسية القضاء على دين الإسلام نفسه من نواحيه السياسية والاجتماعية والعسكرية، بالسيطرة على الحجاز وقطع الطريق على منصب الخلافة الحق، ولو بالتوسل إليه بخلافة باطلة مدينة لها خاضعة لنفوذها. وقد بيَّنا من قبل أن أعظم تمهيد بدأت به هذه الدولة الجشعة للقضاء على استقلال الإسلام والعرب هو استخدام شريفين شهيرين من شرفاء الحجاز لتمليكها أعظم مواقع الحجاز البحرية والبرية (أحدهما) صاحب الجلالة الهاشمية (الملك علي) الذي نصبه الحزب الوطني الحجازي ملكًا على الحجاز عند إزماع والده صاحب الجلالة الهاشمية الملك حسين الرحيل من مكة إلى حيث تشاء الدولة الإنكليزية ليقينه باستيلاء ابن السعود على مكة (وثانيهما) صاحب السمو الهاشمي الأمير عبد الله بن الحسين الذي استقدمه بعض أعضاء حزب الاستقلال العربي من الحجاز إلى شرق الأردن عقب استيلاء الجنرال غورو الفرنسي على دمشق وإخراج جلالة الملك فيصل منها؛ لأجل أن ينظم لهم وسائل الدفاع في منطقة شرق الأردن العربية الحرة لأنها ليست من فلسطين التي قيَّدها الإنكليز بالوطن القومي لليهود، وليست من منطقة النفوذ الفرنسي، فحضر وكان من خدمته للعرب والعربية أن جعل شرق الأردن مقيدة بالانتداب البريطاني وخاضعة لنفوذ الإنكليز العسكري مباشرة، وتشريد الحزب الذي استقدمه. وأما الخدمة التي اشترك فيها هو وأخوه الملك علي في التمهيد لامتلاك الإنكليز للحجاز فهي اتفاقهما على جعل خليج العقبة الحجازي الذي هو من أعظم مواقع البحار الحربية في العالم، والأرض الممتدة منه إلى معان أهم محطات سكة الحديد الحجازية في أرض الحجاز تابعة لإمارة شرق الأردن، وخاضعة للانتداب البريطاني السياسي ونفوذ جلالة ملك الإنكليز العسكري. أصدر الملك علي الهاشمي وهو تحت حصر الجيش السعودي في جدة إرادته الهاشمية باقتطاع منطقة العقبة - معان - من مملكة الحجاز، وإلحاقها بإمارة شرق الأردن التي وضعها أخوه تحت السيطرة البريطانية، فعدها هذا فتحًا مبينًا له وأمر بإطلاق مائة مدفع ومدفع ابتهاجًا بهذا الفتح؛ لأن سيطرة الإنكليز على الحجاز بعضه أو كله أحظى عندهما من سيطرة عبد العزيز بن السعود، وإن كان دين الإسلام لا يبيح لأمثال الخلفاء الراشدين مثل هذا التصرف في أرض الحجاز ولا في غيرها من بلاد المسلمين، بل صرح الإمام الشافعي ولم يخالفه غيره بأنه لا يجوز لإمام المسلمين الأعظم أن يأذن لغير المسلمين بالإقامة في ثغور الحجاز ولا في جزيرة من جزائره، فكيف يبيح الإسلام لمثل علي بن الحسين الذي لم تكن له سلطة شرعية على الحجاز ولا نفوذ فعلي فيما عدا مدينة جدة مثل هذه الهبة؟ ومن عجائب افتتان هذه الشعوب الجاهلة بلقب ملك أن بعض السوريين يتمنون أن يكون الملك علي هذا ملكًا لسورية، وأن بعض كتابها يتشرف بسؤاله عن سياستها وينقل أقواله السخيفة في الجرائد فتتناقلها! ! إن هذه الهبة ليس لها قيمة شرعية ولا قانونية بيد أن قوة الدولة البريطانية - وقى الله الإسلام والعرب شرها، وأدال لمصر والسودان والهند منها - تكتفي بهذه الألفاظ لإنشاب براثنها في مقتل أي أمة ضعيفة إذا لم تجد مستندًا قانونيًّا أقوى منها، وقد حاولت هذا المستند فحِيلَ بينه وبينها. ذلك بأنه لما تم لابن السعود الاستيلاء على الحجاز أرادت الدولة الإنكليزية أن تحمله على إقرار إلحاق العقبة ومعان بشرق الأردن في المعاهدة التي عقدت في بحره لوضع الحدود بين مملكته وإمارة شرق الأردن فأبى إلا أن تكون منطقة العقبة ومعان تابعة للحجاز كما كانت، وقد طالت المشادة والمحادة بين المندوب البريطاني (الجنرال كليتون) وبينه في ذلك وكادت تفشل المعاهدة فاقترح المندوب البريطاني بعد استئذان حكومته تأجيل البت في ذلك إلى مفاوضة أخرى مدة سبع سنين لا يحدث أحد الفريقين في ذلك حدثًا جديدًا، فقبل الاقتراح. لماذا اقترح الإنكليز تأجيل هذه المسألة؟ الجواب عن هذا السؤال يؤخذ من كلمة اشتهرت عنهم وصارت هجيراهم وهي قولهم: (إن الوقت معنا، أو لنا) وذلك أنهم أصحاب رؤية وأناة، لا أصحاب بديهة وبادرة، وأصحاب حزم وثبات، لا أصحاب عجلة، وقد طفقوا يكيدون لابن السعود ويتخذون الوسائل لإخضاعه لهم بما فعلوا على حدود العراق، ثم على حدود شرق الأردن من المعاقل والقوى العسكرية، وبما كان لهم من الدسائس والفتن في الثورة النجدية (ثورة فيصل الدويش) وبدسائسهم الخفية المضعفة لثروة المملكة وملكها وغير ذلك مما ليس لنا أن نخوض فيه الآن، حتى إذا ما اعتقدوا أن العسرة قد اشتد خناقها بضعف موسم الحج في هذا العام، ظنوا أن إحداث فتنة جديدة في الحجاز أو ثورة في أطرافه لا تلبث أن يطير شررها إلى أعرابه فمدنه، وأن يمتد لهيبها إلى نجد، فتقضي على ملك هذا الزعيم العربي المسلم الشديد البأس قبل أن يوفق إلى تنظيم قوته وتوطيد استقلاله. ما كادت ترتفع حرارة الصيف من هذا العام إلا وقد ارتفعت حرارة الفتن والدسائس السياسية السرية، مقترنة بالحركات العسكرية العلنية، فالإنكليز يجمعون قواتهم الإمبراطورية والعربية الهاشمية في إمارة شرق الأردن على حدود الحجاز ونجد، والجيوش الإنكليزية تنقل بالطيارات من مصر إلى شرق الأردن، وبعض بوارج الأسطول البريطاني ترسو في خليج العقبة الحجازي الذي هو أهم وأمنع موقع بحري في بلاد العرب، وكذلك جلالة ملك الحجاز ونجد يجمع قواته أيضًا، ولماذا كل هذا وكل ذلك؟ قيل إن سبب هذا وذاك أن ابن رفادة أحد شيوخ الأعراب (البدو) الحجازيين الذي كان فر من الحجاز بعد استيلاء ابن السعود عليه ولجأ إلى مصر قد جمع شرذمة من البدو وزحف بها من شبه جزيرة سيناء لأجل مهاجمة الحجاز، وإخراج الدولة السعودية منها! ! وقد عنيت الأنباء البرقية من لندن ومن شرق الأردن بالطعن في الحكومة السعودية وإضعاف أمرها وادعاء كراهة أهل الحجاز، وكذا سائر المسلمين لها حتى أهل نجد.... وعظمت في مقابلة ذلك أمر ابن رفادة هذا وشأن قوته التي قيل إنها تبلغ أربعمائة نسمة، فارتقت بها بعض الأنباء إلى أن زادتها ألف رجل، أو أكثر (!!) ثم عظمت أنباء أنصاره وأعوانه الذين يمدونه بالمال والمؤن والذخائر ومنها أن هذا المدد كله من مصر تحمله إليه سفن مخصوصة، وقد صرح بهذا بعض رجال الإنكليز الرسميين، فانصرفت أذهان الناس إلى الدولة المصرية نفسها، إذ لا يوجد في مصر من يمكنه ذلك غيرها، إذا كانت متفقة مع رجال الإنكليز عليها. نعم إن في مصر جمعية حجازية تكره الحكومة السعودية؛ ولكنها جمعية فقيرة، وإن في مصر بعض الشرفاء الذين يودون الإدالة لأسرتهم من الملك عبد العزيز آل سعود؛ ولكنهم عاجزون عن مد هؤلاء الثائرين، فلا مال ولا رجال ولا وسائل لنقل المال والرجال من مصر إلى حدود الحجاز، ولو وجد كل ذلك لديهم لما أقدموا على هذا العمل إلا إذا كانت الدولتان البريطانية والمصرية إحداهما أو كلتاهما تسخرهم لتنفيذ مقاصدها بما يعتقدون به أن هذه الثورة الحقيرة ستكون تمهيدًا لقلب حكومة الحجاز ونزعها من يد ابن السعود. والمنقبون عن خفايا الدسائس في مصر يقولون إن بعض الشرفاء موعود بأن يجعل أميرًا على الحجاز بعد إلحاقه بمصر، وأن يجعل راتبه ثمانين ألف جنيه في السنة، وأن يجعل له حامية مصرية مؤلفة من ستة آلاف من الجيش المنظم. وجملة القول إن الإنكليز ظنوا أن الفرصة الآن سانحة لإيقاد نيران ثورة في الحجاز شر من ثورة نجد السابقة، إما أن تنتهي بإخراج ابن السعود من الحجاز أو باضطراره إلى الاعتراف لهم بإلحاق العقبة ومعان بشرق الأردن؛ لأن الأوان قد آن لإحداث ما يريدون فيها من الأعمال التجارية والعسكرية لقرب وصول أنابيب زيت البترول من العراق إلى البحر المتوسط؛ ولكن ابن السعود قد شعر بالمراد، وجمع من القوات النجدية والحجازية ما يفوق ما جمعه الإنكليز استعدادًا لدرء الفتنة. إن أقوال الجرائد الإنكليزية الكبرى كالتيمس والديلي تلغراف في تكبير حركة ابن رفادة الصغيرة، وفي أراجيفها الكثيرة فيما تحكيه عن أهل الحجاز وعن سائر المسلمين من تمنيهم لزوال سلطة الوهابيين عن الحجاز - يفسرها للمسلمين استعداد الإنكليز العسكري على حدود الحجاز ونجد من العقبة إلى آخر حدود شرق الأردن، وتفسره أقوال الأمير عبد الله الذي وضع هذه البلاد تحت سيطرتها العسكرية من تصريحه بعداوة ابن السعود وسعيه طول حياته لاستعادة ملك الحجاز إلى نفسه، وتفسره أقوال مستر كلوب (أبو حنيك) الإنكليزي وأعماله في تنظيم قوات شرق الأردن العربية والإنكليزية الذي يعيد فيها سيرته الأولى بين نجد والعراق التي أعقبت ثورة الدويش، وهذه الأقوال نشرتها الجرائد كلها فحسبُنا العبرة بها من ذكرها. وحاصل هذه الأقوال والأفعال أن الإنكليز يريدون نقض ما عاهدوا عليه ملك الحجاز ونجد من أنهم لا يحدثون حدثًا في منطقة العقبة ومعان مدة سبع سنين أو يحملوه على مطاردة ابن رفادة فيها إذا لجأ إليها فيتهموه بنقضها ويعلنوا احتلالها للضرورة؛ فإنهم يسخرون العرب للقضاء على ملك العرب، ويسخرون المسلمين لتمكينهم من هدم الإسلام وإذلاله بوضع الحرمين الشريفين تحت نفوذهم وسلطانهم كشرق الأردن ومصر؛ فإن خليج العقبة من الحجاز كزقاق البوسفور من مدينة الآستانة أو أعظم، وإن الطريق منها إلى العراق من جزيرة العرب وسورية والعراق كنياط القلب، وهو الشريان الأعظم في الجسم كما بيَّنا ذلك في المنار مرارًا. كذب الإنجليز في دعواهم أن المسلمين لا يسوءهم إخراج ابن السعود في الحجاز، فها هي ذي جميع الجرائد الإسلامية في مصر وغيرها تعلن سخطها على ابن رفادة الخائن، وتعد كل من يساعده خائنًا لأمته ودينه، وكل مسلمي مصر ساخطون على حكومتهم لعدم اعترافها بحكومة ابن السعود، ولعدم إرسالها إلى الحجاز حقوقه وحقوق أهله في أوقاف الحرمين في العهد السعودي مع اشتداد العسرة في هذا العام، كل هذا وأكثرهم لما يشعروا بمقاصد الإنكليز في العقبة ومعان وشرق الأردن والعراق، وأنهم يريدون تأليف إمبراطورية عربية لا تقوم معها للعرب ولا للإسلام قائمة، ولا تطمع بعدها مصر ولا جزيرة العرب باستقلال ديني ولا دنيوي. فيجب على الصحف الإسلامية في مصر والهند وغيرهما من الأقطار أن ينبهوا العالم الإسلامي لهذا الخطر الإنكليزي على حرم الله وحرم رسوله، وعلى الصحف العربية أن تذكر أمتها بأن كل جهادها في سبيل الاستقلال يكون عبثًا إذا تم للإنكليز ما يريدون من الحجاز، وقد صار من المعلوم بالضرورة أنه لا سبيل لحفظ الحرمين الشريفين من نفوذ الأجانب إلا الحكومة السعودية التي حفظت فيه الأمن على أهله وعلى الحاج كما كان في صدر الإسلام. إلا أن الأمة العربية لا تزال غافلة متخاذلة بفساد بعض أمرائها وكبرائها واستعباد الطامعين لهم؛ وإنما الرجاء الأكبر في إيقاظ مسلمي الهند لهذا الخطر، فيجب عليهم السعي لدرئه أو الاتحاد مع الهندوس للقضاء على هذه الدولة المتجبرة المتكبرة قبل أن تستولي على مهد دينهم، وسنفرد لهذا مقالاً خاصًّا نوجهه إليهم.