للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أوراق اليانصيب وسندات المصارف

(س١) من بورت سودان لصاحب التوقيع
حكيم الإسلام، وفيلسوف الأنام، مربي الأمة ومرشدها، وغرة عصرها
وعالمها، سيدي المرشد السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء، نفعني الله
بعلومه آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد جمعني وجماعة من نبغاء
بورت سودان وفضلائها مجلس انعقد بمنزل فضيلة قاضيها الشرعي؛ لسماع
درس التوحيد، وبعده أخذنا نتجاذب أطراف الحديث الذي وصل بنا إلى تحليل أو
تحريم أوراق اليانصيب، وطال الجدال في هذا الموضوع، وانقسمنا إلى قسمين:
قسم منا حرمها من أولها لآخرها، سواء في ذلك سندات سكة حديد
تركيا (الرومللي) والبنك العقاري، جديدها وقديمها.
والقسم الآخر فصَّل في الموضوع حيث حرَّم كل الأوراق ما عدا سندات البنك
العقاري وسكة حديد تركيا، فقال بالحِل فيهما إلا أنه لم يجزم بهذا القول، واشترط
في أوراق البنك العقاري عدم أخذ (الكبون) أي الربح السنوي.
وبالنسبة لكوننا لم نوفق للفصل في هذا الموضوع نهائيًّا، قَرَّ القرار على
الاستعلام من حضرتكم، وأخذ رأيكم في هذا الموضوع؛ للاهتداء بهداكم وكلفوني
أن أسألكم.
لذلك ولعلو مقامكم وكرم أخلاقكم، جئت إليكم بهذا راجيًا إرشادنا في هذا
الموضوع - أرشدكم الله - والفصل فيه ليحق الحق، ويبطل الباطل، إن الباطل
كان زهوقًا.
كما إني أرجوكم إن كان سبق لسيادتكم التكلم عنه في مجلدات غابرة؛ أن
تجيبوني عليه، وأكون ممنونًا لو تفضلتم بالإجابة في أول عدد لأهميته عندنا
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد كريم
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحد قراء المنار

(ج) أفتينا في المنار من قبل (ص٤٧م١٠) بأن اليانصيب من القمار
المحرم؛ لما فيه من الضرر الظاهر، فإن المقامر يضيع ماله لتوهم الربح، وقد
فصلنا القول في ضرر الميسر في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ} (البقرة: ٢١٩) فليراجع في (ص ٣٢٩ ج٢) من التفسير. وأما
مثل سندات البنك العقاري: فهي نفسها ليست من (اليانصيب) وإن كان يعمل لها
(يانصيب) ، بل هي ضرب من ضروب التجارة؛ لأن لها أثمانًا كأثمان سهام
الشركات المالية، تزيد وتنقص، وتشبه من جهة أخرى الدين بربح قليل؛ لأن
صاحب المال يأخذ عليه كل سنة ربحًا (كوبون Coupon) . ولكنها خالية من
ضرر القمار؛ لأنه ليس فيها إضاعة مال محقق لربح متوهم، ومن ضرر الربا،
المعبر عنه بقوله تعالى في خاتمة آيات الربا {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: ٢٧٩) وهي من ذلك مشكلة، والظاهر من أقوال الفقهاء وقواعدهم أنها
غير جائزة لذاتها , ولكن بعضهم يجيز ذلك في غير دار الإسلام أو مع الحربيين؛ لأن
التزام العقود الإسلامية إنما يجب في البلاد التي يحكم فيها الإسلام، ولهم
في ذلك تفصيلات كثيرة (راجع ص ٦٣٩ م٧ وص ٢٦٨ و ٢٩١و ٥٩٠م٨) .
ثم إن الفقهاء قد جعلوا الشرع العملي قسمين: عبادات ومعاملات،
فالمعاملات ليس فيها أمور تعبدية، بل كلها معقولة المعنى، منطبقة على مصالح
الناس ومنافعهم، ودفع المضار عنهم، فلا يحرم منها إلا ما هو ضار بفاعله أو
بغيره، وما يتراضى به الناس من المعاملات من غير غش، فلا يحرم عليهم إلا أنه
إذا كان من شأنه أن يضر، لا يلزمهم القاضي ما كانوا تراضوا به إذا هم اختلفوا
بعد ذلك، وتحاكموا إليه، ولا يفتيهم المفتي بوجوبه شرعًا، فقد جاء في الآثار
الصحيحة عن البخاري وغيره: أن المقترض إذا أعطى أفضل مما أخذ أي كيفًا أو
كمًّا، فلا بأس بذلك ما لم يشترط ذلك؛ أي يجعل حقًّا شرعيًّا. وهذا في الربا الذي
هو أغلظ المحرمات المتعلقة بالمعاملات المالية، فإذا أعطى صاحب سندات البنك
العقاري مالاً من البنك، قد ربح بالسحب برضى أصحاب البنك، فإنه لا يظهر لي
أن أخذه محرم عليه، ولا سيما إذا كان أصحاب البنك من الأجانب الذين لا يلتزمون
أحكام شريعتنا من أنفسهم، ولا توجد حكومة إسلامية تلزمهم العمل بها، ولا يظهر
لي أن هذا من القمار إلا بالنسبة لمن يشتري أوراق السحب التي تباع في الأسواق؛
لأن هؤلاء يضيعون أموالهم على التوهم، وأما أصحاب السندات فإن أموالهم
محفوظة لهم لا يضيع منها شيء، والله أعلم وأحكم.