(٢) الضربة الأولى التي ضُرب الإسلام بها كان الواجب أن نبدأ بالفصل الأول والثاني حسب ترتيب الكتاب الذي هو مأخذنا، ولكن بعض الأسباب دعتنا إلى تأخير ذَيْنِكَ الفصلين، وتقديم هذا الفصل: إن الضربة الأولى التي ضُرِبَ الإسلام بها كانت بيد رجلٍ اسمه (عبد الله بن سبأ) ، كان هذا الرجل يهوديًّا، ثم أسلم ظاهرًا، وأعماله تدل على أنه كان يحمل حقدًا شديدًا للمسلمين، وكان يرمي إلى غرضٍ واحدٍ هو تمزيق شمل (الوَحدةِ) الإسلامية، وسلاحه القاطع نشر الخرافات الملائمة لطبائع المسلمين من غير العرب. ذهب هذا الرجل إلى البصرة؛ إذ كان عبد الله بن عامر عاملاً (واليًا) عليها، وسمى نفسه باسم مستعار (ابن السوداء) ، وأخذ ينشر هناك آراءَ تلائم أهواء الذين دخلوا في الإسلام حديثًا. وعند ما بلغ خبره العامل (الوالي) استقدمه إليه، وسأله عن شخصه، وسبب مجيئه إلى البصرة فقال: (أنا رجل من أهل الكتاب أحببت السكنى في دار الإسلام تحت رعايتك) ! ، وإذ لم يقنع الوالي هذا الجوابُ طرده من البصرة. فتزيَّا بزي مسلمٍ مهتدٍ، وطَفِقَ يزرع بذور الفساد بين المسلمين الذين دخلوا في الإسلام حديثا، ولم ينسلخوا من تقاليدهم القديمة، ذهب أولاً إلى الكوفة ثم إلى مصر، وألف جمعيات سرية لأجل القيام على الخليفة بقصد إيقاع الشقاق، والتفريق بين المسلمين. لقيت البذور التي زرعها هذا اليهودي المُتزيِّي بزيِّ المسلمين تربةً خصبةً، وكانت إدارة عثمان بن عفان كمساعد لنموها؛ فتمكن الرجل من تفريق المسلمين في أمر الخليفة، وشق عصاهم، فإذا هم فريقان يختصمون. ولم يكتفِ بذلك، بل تمسك بحبل الاستفادة من شعور الحب والاحترام في القلوب لأهل البيت النبوي الشريف، واستفاد من استخدام هذا الشعور العالي لمقاصده، واتخذ الفجيعة بعلي المرتضى، وولديه سبطي الرسول (عليهم السلام) ذريعةً لدسِّ الدسائس، وتقسيم المسلمين إلى شِيَعٍ؛ لأنه كان يعلم أن العقائد الراسخة، والتقاليد الموروثة، والعادات لا تتبدل في الناس بسرعةٍ بمجرد دخولهم في دينٍ جديدٍ، مهما يكن واضحًا جليًّا ومنطقيًّا معقولاً، كما كان يعلم أن الدين إذا دخل محيطًا غير محيطه الأصلي لا بد أن يضم إليه أشياءَ كثيرةً، ويكتسب لونًا يوافق نظر أهل تلك البلاد؛ لذلك عزم على أن يستفيد من هذا الحال؛ ليضرب الدين ضربةً قاضيةً، فأخذ ينشر قواعد الدين الحنيف صابغًا إياها بصباغ عادات البلاد الموروثة، والناس كانت تستقبل ذلك بشوق وسرور. انتشر الإسلام في فارس، ومصر، وسورية، واستولى عليها، وكان لأهالي هذه البلاد عقائد وعادات قديمة راسخة في القلوب. ومع قبول هؤلاء الناس للدين الإسلامي كانت عاداتهم لا تزال ذات السلطان الغالب عليهم، فسذاجة الدين الإسلامي وبساطته لم تكن كافية لتسكين نيران شوق السكان الأصليين لحب الفخفخة والعنجهية التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم؛ ولذلك كانوا يتلقَّوْن أقاويل عبد الله بن سبأ كماءٍ زُلالٍ تسرَّب إلى قلوبهم المملوءة حرارةً وشوقًا إلى المظاهر الفارغة. وكانوا يحرصون على إلباس الدين الحنيف كساءً جديدًا منسوجًا من خيوط عاداتهم وأساطيرهم، وهذا الشوق من جملة أسباب دخول خرافات إيران، ومصر القديمة والهند في الدين الحنيف. أول مَن تصدى لهدم دين مجوس الفرس، وملكهم الكسروي أبو بكر الصديق الأعظم، وتلاه الفاروق الأعظم، فقضى على ذلك الاستقلال، وجعل تلك الأمة تابعة للعرب الذين كانت تحتقرهم، وتبع ذلك انتشار الإسلام فيهم، فساء هذا وذاك الذين ظلوا مستمسكين بدينهم، ولا سيما أصحاب السلطتين الدينية والدنيوية منهم، فكان منهم بالطبع مَن يندب استقلالهم، ويتربص الفرص لرفع السلطة العربية عنهم، وكانون يمقتون الفاروق مقتًا شديدًا؛ لأنه هو الذي فتح بلادهم، وذهب بعِزِّهم ومجدِهم. في ذلك الوقت استفاد عبد الله بن سبأ من مجرى الأحوال، كما استفاد في زمان ذي النورين، وظهر بمظهر المدافع عن حقوق آل البيت، فخدع بعض العرب، ومهَّد الطريق أمام سياسيي المجوس لأخذ الثأر، والانتقام من العرب، وإعادة الاستقلال السياسي لبلادهم؛ بحجة الانتصار لآل البيت. وأما مقصد عبد الله بن سبأ فلم يكن إلا تفريق المسلمين بجعْلهم شيعتين متعاديتين، تقاتل كل منهما الأخرى، مستفيدًا من شعور المسلمين معتمدًا على أهواء الفرس، فاستفاد من إحساس العرب ومن دهاء العجم. بث أولاً دعوة حصر الخلافة والإمامة في عليٍّ وأولاده - رضوان الله عليهم - ثم ادعى ألوهية عليٍّ، حتى قال له: (أنت الله) ! ، عندئذٍ نفاه - كرم الله وجهه - إلى المدائن ولكنه ظل مثابرًا على نشر دعوته. قلنا إن الذي بدأ بالمسألة الإيرانية أبو بكر الصديق، والذي ضرب الضربة القاضية عمر الفاروق، وفي زمان ذي النورين عام ٣١ هجرية قُتل آخر ملوك إيران (يزدجرد) ؛ فكان هذا من دواعي تشيع عبد الله بن سبأ لعلي - رضي الله عنه - لأجل أن يشق عصا المسلمين، ويفرق شمل العرب؛ فيجعلهم فريقين مُختصِمَين، ويوقع الشبهات في العقيدة الإسلامية الجامعة للكلمة، ويُجرِّئ المجوس من الفرس على أخذ ثأرهم، ومحاولة استعادة ملكهم. وبعد أن توفَّى الله أبا الحسنين طَفِقَ يقول: (لم يمُت عليٌّ وإن الذي قتله ابن ملجم شيطانٌ، تمثل بصورة عليٍّ؛ لأن صهر النبي صعد إلى السماء، والرعد صوته، والبرق لمعان سيفه، وسينزل يومًا إلى الأرض، ويَمْلَؤُها عدلاً) ! وقد صدَّقَ كثيرٌ من العوام الجاهلين أقوال هذا اليهوديِّ الماكر؛ لأن دأبهم تصديق كل قائلٍ، واتباع كل ناعقٍ، ولا سيما إذا كانت هذه الأقوال قريبةً من تقاليدهم، كما هو شأن أولئك الذين دخلوا الإسلام حديثًا من النصارى، واليهود، والمجوس، فالقول بألوهية عليٍّ، وربوبيته كالقول بربوبية عيسى وألوهيته، والقول بنزول عليٍّ إلى الأرض لأجل إصلاحها - يوافق اعتقاد النصارى (الذين ينتظرون نزول عيسى من الملكوت إلى الأرض) ، ولا يبعد عن اعتقاد اليهود ظهور مسيح آخر، وقد تلقاه الإيرانيون بأحسن قبولٍ؛ لأنه يشابه اعتقادهم أن (هرموز) بموجب دين (زرادشت) - صعد إلى السماء، وسينزل يومًا ما إلى الأرض؛ وبهذا الشكل جعل اليهود، والنصارى، والمجوس راضين مطمئنين؛ لأنه أتاهم بشيءٍ أَنِستْ به أرواحهم، ولَطَمَ الحنيفية لطمةً، لطَّخَ بها جسمها الناصع البياض لطخةً مُبايِنَةً للونه الجميل، فكانت هذه أوَّل خرافةٍ سرت إلى أهل هذا الدين الحنيف. العوام غريبو الطبع، يتَّبِعون كل ناعقٍ، ويركضون خلف كل صوتٍ بسهولةٍ؛ لذلك تمكن هذا اليهوديُّ (عبد الله بن سبأ) من تكوين حزبٍ دينيٍّ، وشِيعةٍ سُمِّيتْ (السبائية) . وإذ كان أفراد هذه الفرقة التي زالت، ولم تزل خرافاتها - يعتقدون أن الرعد صوت علي - عليه السلام - صار من شعائرها أن يقولوا كلما تألق البرق بالتقاء الكهربائية الإيجابية بالسلبية: (السلام عليك يا أمير المؤمنين) ! *** الأسباب التي مهدت لظهور هذه الفرقة ثلاثة: السبب الأول: سيرة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: في إرخاء العِنَان لمروان، وكثرة استعماله لأقاربه، ومحاباته لهم، خلافًا لما جرى عليه الخليفتان قبله؛ فبذلك كثر الناقمون الطالبون لتغيير الحال، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: ١٣) ، فلو اتُّبِعَتْ هذه الآية الكريمة لما وجد عبد الله بن سبأ محلاًّ خصبًّا لبذر بذوره. السبب الثاني: افتتح المسلمون بسيف الحق ومكارم الأخلاق بلاد الفرس والروم (مستعمرات الرومان) . وكانت هاتان الدولتان في ذلك الوقت على غايةٍ من الانحطاط، وفساد الأخلاق، وكان أبو بكر الصديق، والفاروق - رضي الله عنهما - يبذلان الجهد لحفظ كرامة الإسلام، ورفعته ونقائه، ويحذران عليه من سريان أمراض تَيْنك الأمتين الروحية والاجتماعية إلى العرب، وناهيك بعناية الفاروق، وحرصه على معالي الأخلاق والفضيلة والشرف، فمتانته في الدين، وصلابته في الحق، وعدالته التامة بين الخلق كانت تجذب إلى الإسلام فضلاءَ الأمتين (الفرس والروم) ، كما يجذب المغناطيس الحديد، ومن سوء حظ الأمم المنحطة أن يكون أبناؤها المتحلون بالفضائل خصومًا لها، كما وقع في هاتين الأمتين، وغيرهما من الأمم [١] . وأول ما كان الفاروق يعتني به هو منع الامتزاج بين العنصرين الغالب والمغلوب كما يفعل الإنكليز اليوم [٢] . ولكن عندما صار الأمر إلى عثمان ذي النورين، وحصل الشقاق بين بني هاشم، وبين الأمويين - تمكنت عادات الفرس والروم (إيران وبيزانس) من التسرب إلى المسلمين؛ وهذا مما جعل بذور عبد الله بن سبأ تنبت، ثم تثبت في هذه القلوب، فبرجوع مروان إلى المدينة - وهو المطرود منها بأمرٍ نبويٍّ - وجعْله على رأس رجال الحلِّ والعقد، وتعيين أكثر الأمويين ولاةً واشتداد الخصام بين الأمويين وبني هاشم - أُهملت أحكام الشرع الأنور. وكانت شكايات الناس، وتظلُّماتهم تصل إلى عثمان - رضي الله عنه - بصورةٍ مقلوبةٍ، لا يعرف بها حقيقتها، إلى أن اشتد البأس، ونفد الصبر؛ فَسُفِكَ الدَّمُ، أفكان صيِّبًا نافعًا يسقي بذور أعداء الإسلام؟ ! السبب الثالث: توسيد الأمور السياسية التامة إلى غير العرب من المسلمين: فلو حصرت الحقوق السياسية - أي حق التدخل بأمر الإدارة وتنفيذها - بالعرب لما حصل ما حصل؛ فإن بعض الذين أسلموا لم يكن إسلامهم حقيقيًّا، بل اتخذوا الإسلام سلاحًا لجرح الإسلام، ثم كانوا أمهر من العرب بالدسائس السياسية، فاستفادوا من صفاء قلوب العرب، وكَدَّروها كما شاؤوا بكل سهولةٍ. ألم تر إلى الدول التي تغلب الشعوب على أمرها في هذا العصر، لا تعطي مثل هذا الحق للمغلوبين ألبتة؟ ! أيتصور اليوم أن يدخل مجلس النواب الإنكليزي أعضاءٌ من فلسطين أو الهند، ويكون لهم رأيٌ في أمور الإدارة والسياسة؟ ! إن رجال دول الاستعمار في هذا العصر يبعدون المغلوبين عن الوظائف العالية، إداريةً كانت أو سياسيَّةً أو عسكريَّةً؛ لأنهم درسوا التاريخ، وعرفوا علَّة انحطاط مَن سبقهم مِن الأمم؛ فاعتبروا بخطيئات المتقدمين [٣] . ((يتبع بمقال تالٍ))