للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الإنصاف من مزايا الأشراف

عثرنا على مقالة في بعض جرائد سوريا المستعبدة - بإمضاء (الفقير السيد
محمد نوري الكيلاني) - ملخصها: أنه اطلع على النبذة التي نشرناها من مقدمة
كتابنا الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية في جريدتنا (المنار) ووصف
الكتاب رجمًا بالغيب (بأنه بذر بذور شقاق جديد بين الطائفتين، وافتتح باب فتنة
سده الله) وإننا إن زعمنا الحب لجده الكيلاني فعلينا أن نحترم الرفاعي وإن غير
ذلك من مزالق المهالك، ويجب على أتباع الشيخين أن يضرب به وجه صاحبه،
وختمها بالتهديد والوعيد على طريقة الذي حركه لهذه الكتابة، وتمثل ببيتين من
الشعر يومئ بهما إلى أنه متحد مع رئيس الرفاعية سماحتلو الشيخ أبي الهدى أفندي
وأنهما يمزقان بالسر خصمهما ويذيبانه ولو كان من حديد! وذكر أن هذا الخطاب
لعصبية الطائفتين.
وقد ذيل الرسالة صاحب الثمرات الفاضل بأنه يرجو إقفال هذا الباب، وأن
مقام القطبين محفوظ لا تؤثر فيه العوامل مهما تلونت صبغتها، ونحن نقول في
الجواب: إن ما وصف به الكتاب سعادة نوري إنما هو وصف غير صحيح،
والكتاب إنما ألف في وقت احتدام النزاع لأجل سد باب الفتنة، وبيان الحق في
مسائل الخلاف والنزاع، لكن لا ينخدع أحد بتلك الشعب التي ذهبت بحرمة الطريق
ورجاله ومست الدين نفسه ويستحيل على قارئها أن يعتقد بأحد القطبين، بل يخشى
عليه إن لم يكن راسخًا في العلم والدين أن يختل اعتقاده الأساسي، والكتاب يبرئ
الشيخين من كل غميزة غمزا بها، ويؤول ما انتقصتهما به تلك الكتب إن أمكن
تأويله، وإلا يرده ويثبت بطلانه، ويضع حدًّا للإطراء الذي غالى به جهال أتباعهما
فرفعوهما به إلى مقام الألوهية، فقول سعادة الباشا: إذا كان يحب فلانًا فليحب
فلانًا أيضًا، نجيب عنه بخصوصه بأننا نحب الاثنين محبة اقتداء بهديهما، ولا
نخرجهما عن كونهما عبدين لا يملكان لنا، بل ولا لنفسهما ضرًّا ولا نفعًا،
ونحترمهما الاحترام الشرعي، ولا نعترف بشيء يخالف الشرع؛ فهو الحق {فَمَاذَا
بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} (يونس: ٣٢) وإذا فهم هذا سعادة الباشا يعلم أن كتاب
الحكمة الشرعية لم يؤلف مرضاة لعصبيته؛ لأن فيهم أغنياء ومساكين، ولا لعصبية
الرفاعية؛ لأن لهم رئيسًا يهب الرتب والنياشين، وإنما مرضاة للحق الذي لا يعدم
نصيرًا وظهيرًا في كل حين، فسقط بهذا تهديده، سواء كان على ظاهره أم إشارة
التي تمكنه مع الآخر من الإيذاء، وعلى كل حال فتهديده وتهديد الآخر سواء.
ومن آية صدقنا قولنا: إننا لم نؤلف الكتاب إلا لسكب مياه النصح على نيران
الضغائن لتتلاقى القلوب على الصفاء والوداد، ما كتبناه في التنبيه السادس من
المناقشة العاشرة من الشعب الأول من المقصد الثاني من كتابنا (الحكمة الشرعية..)
المذكور، وتلك المناقشة هي في قول (لباب المعاني) في القادرية (يجازون على
الحسنة بالسيئة وعلى الحسن بالقبيح) الوارد في الشاهد التاسع والأربعين من
شواهد السفه والشتم والهجو الشعري في ذلك الكتاب، وإننا نورد هنا ملخص ذلك
التنبيه وهو:
تخصيصه - أي مؤلف لباب المعاني - صاحب القلادة (هو أبو الهدى أفندي)
بالإحسان للقادرية دون غيره مع قوله: إنهم يجازون على الإحسان بالإساءة - فيه
إيماء إلى أن من القادرية من أساء إلى مؤلف القلادة نفسه، وتخصيصه ذلك
بغالب القادرية يكاد يخرجه من الإيماء إلى الظهور ولم يصرح بتلك الإساءة اكتفاء
بوضوح الإشارة، وتحاشيًا من زيادة شيوعها وعلم من لم يعلم بها، وهي على ما
ظهر لنا إنكار غالب القادرية (الشرقيين) على كيلانية حماة الذين صاهروا الأفندي
المشار إليه ووقوع النفور بين بعض وجهائهم وبين من صاهره ومن رضي عنهم،
وشايعهم على ذلك الاعتقاد، أولئك المنكرين الناقمين أنه ليس كفؤًا لهم من حيث
شرف النسب، إذ يرون أنه ليس من ذرية أبي الخير أحمد الصياد - قدس سره -
وأن الصياد هذا ليس من الأشراف وإنما هو من عرب اليمن، والقائلون بشرفه
بانون على أنه عراقي، قلت: وممن صرح بأن الشيخ أحمد الصياد هذا يمني شيخ
الإسلام التاج السبكي في الطبقات الكبرى ... هذا ما بلغنا - والعهدة على الراوي -
وإذا صح فهو لا يقتضي القطع بإنكار النسب المذكور، لجواز أن يكو صحيحًا، ولم
يقفوا على صحته وسيأتي البحث في ذلك في محله.
ولعله صح عند سماحة أبي الهدى أفندي طعنهم في نسبه وقولهم: إنه تمكن
من إشاعة دعواه بواسطة الجاه الدنيوي حتى عرض بنسب جدهم الغوث الأعظم في
كتبه ورسائله المنشورة باسمه، وإنما لم يطعن بنسبتهم إلى حضرة الغوث قدس
سره؛ لأن طعنه بها لا يقدح في تواترها، ولا سيما بعد العلم بأن ثمة غرضًا باعثًا
عليه، واتصال نسب الغوث بالبضعة الطاهرة، وإن كان متفقًا عليه ومعلومًا
بالتواتر كما يستفاد من عبارة العلامة الآلوسي المارة - وتفصيله في المقصد الرابع-
فالطعن فيه ربما يوهم أن ثمة مطعنًا لأن قائله لم يقله من عند نفسه وإنما يسنده
إلى بعض المتقدمين الذين هم مظنة للصدق والخلو من الأغراض والمنافسات القائدة
إلى هذه المساوي، والقاذفة في هاته المهاوي.
فإن قيل: من البيّن أن مقصد هذه الشرذمة من الرفاعية إعلاء قدر الرفاعي
وتغليب صيته على كل أولياء الأمة وعلى الجيلي بوجه خاص، فلأي شيء صرح
الشيخ أبو الهدى أفندي وهو رئيسهم على ما صرح به البحريني في الصفحة ٧٩،
بأن الأقطاب الأربعة سواء في النسب والمرتبة والقدم والفيض، ألا يدل هذا
التصريح على أنه لا يرتضي بكلام تلك الجمعية من الرفاعية، ولا يذهب مذهبهم
في كتبهم الحديثة التي اختلقوها على بعض الغابرين فضلاً عن كونه رئيسًا لهم كما
يعلم من كتاب لباب المعاني؟ ... فالجواب: لا دلالة في عبارته على ما ذكر؛ فإنه
كتب تلك العبارة قبل التصدي للإنكار على القادرية، والشروع أو التمادي في الغلو
في شأن الرفاعي المقارن لغمط حقوق الجيلي، بل الذي يترجح لناظر نحو (هداية
الساعي) من كتبه الأولى: أن غاية قصده إشراب الأفكار مساواة الشيخين، وربما
لم يكن طامعًا بمساواتهما في الشهرة، على أن له في تلك الكتب عبائر تشعر
بتفضيل الرفاعي على غيره، إلا أنه اعتذر عنها قبل إيرادها بأن أتباع كل شيخ
يحق لهم تفضيله على غيره، لكونه وسيلتهم وواسطتهم ... إلخ. ويوشك أن يكون
كتاب هداية الساعي أول دفتر أنشأه في شأن الطريقة الرفاعية، كما يؤخذ من مقابلته
بغيره من كتبه في اللفظ والفحوى، سواء كانت المقابلة في النظم أم في النثر،
وسواء كان ذلك في مقوله أم منقوله (وربما ننشر في المنار شيئًا من هذه المقابلة)
ولقد طبع الكتاب المذكور في استانبول سنة ١٢٨٩، وكان مؤلفه يومئذ نقيبًا في
جسر الشغراي أوائل رقيه في مراقي الجاه الدنيوي، وكان من أخلاقه وعاده في تلك
الأيام التملق لأشراف البلاد ووجهائها وتمداحهم بالأشعار ككيلانية حماة وكيلانية
حلب، وخلق التملق هو الخلق الفرد الذي ينهض بذويه إلى الحصول على سعادة
الدنيا من المال والجاه، ولو توخينا الاستدلال على عدم صحة ما ينسب لذلك الرجل
في حق الجيلاني والجيلانية من الكتاب المذكور لكان لنا في غير تلك العبارة المشار
إليها في السؤال دليل واضح على احترامه للقادرية وتعظيم طريقهم، والثناء على
الإمام الجيلاني ثناء لا يحتف به تعريض بطعن، ولكن الاستدلال بما في ذلك
الكتاب المؤلف من نحو عشرين عامًا على أحوال مؤلفه وعلاقاته مع غيره الآن غير
معتبر إلا إذا أيده تكذيب ما نُشر بعده من الكتب المخالفة له، ومع ذلك فلا بأس بذكر
ما هو من شعائر الود والصفاء، وعلائم المحبة والوفاء، استمالة للقلوب، وتذكارًا
للعهود، وتزييلاً بين أيام المناصبة والمناواة، وأيام المصاحبة والموالاة، لعلهم
يرجعون.
ذلك أن سماحة الشيخ أبي الهدى أفندي قد نص في الكتاب المذكور على أنه قد
تشرف هو ووالده الشيخ حسن وادي بخدمة الطريقة القادرية على يد بعض أكابر
مشاهير شيوخها، وتفصيل ذلك في خاتمة الكتاب من الصفحة ١١١ - ١١٣،
ونص عبارتها بحروفها نشرناها برمتها في الكتاب، ونأتي بملخصها هنا على ما
شرطنا.
قال - بعد البسملة والحمدلة والتصلية -: وبعد فمِن مَنِّ ربّي علي لي شرف
ثانٍ بخدمة طريقة سلطان الأولياء الشيخ عبد القادر الجيلاني - قدس سره العالي -
وقد تشرفت بالانتساب لخدمة طريقته البهية وحضرته القادرية وأذنت بالخلافة
المباركة من حضرة والدي الأمجد السيد الشيخ حسن وادي بن علي بن خزام بن
علي بن الشيخ حسين البغدادي ابن الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمود الصوفي دفين
شط الموصل الحدبأ الصيادي الخالدي نسبًا الرفاعي طريقة ومشربًا، نفعني الله بهم
أجمعين، وسيدي الوالد تخلف ولبس الخرقة القادرية من يد حضرة شيخه زبدة
العلماء وكوكب الصلحاء شيخ السجادة القادرية في حماة، لا زال قطره عامرًا
بوجوده وحماه، القائم لله على قدم الوفا، الشارب من خمر الصفا، مفتي الإسلام،
بضعة الأولياء العظام، كعبة الطالبين، ومورد السالكين، مرشد هذه الطريقة بكل
المعاني، والبدل الحاضر عن حضرة جده الجيلاني، سيدنا الأمجد المحترم السيد
الشيخ محمد مكرم أفندي ابن المرحوم شيخنا الكبير، وإمامنا الشهير الشيخ محمد
أفندي الأزهري دفين بغداد بجوار جده الغوث الأعظم ابن حضرة المرحوم الشيخ
عمر بن شيخ مشايخ زمانه وأستاذ عصره وأوانه قرة العين الشيخ ياسين ابن قطب
الدائرة القادرية بالاتفاق دفين حماة الشام السيد الشيخ عبد الرازق - وساق النسب
إلى أن قال: ابن حضرة الغوث الأعظم سلاب الأحوال أستاذ الرجال الدرة البيضاء،
الجامع بين المعشوقين، الكبريت الأحمر، الهيكل الصمداني والقنديل النوراني،
سلطان الأولياء، باز الله شيخ مشايخ العرب والعجم، كنز المعارف، ومعدن
المعاني السيد الشيخ عبد القادر الحسني الحسيني الصديقي الفاروقي المعروف
بالجيلاني - رضي الله عنه - وساق نسبه بلقب السيد لكل فرد إلى الإمام الحسن
السبط - رضي الله عنه - ثم قال: هذا النسب الصلبي المتصل من مرشدنا
وشيخنا السيد الشيخ مكرم أفندي لجده الأعلى صلى الله عليه وسلم. ثم أثنى على
شيخه وشيخ والده المذكور كثيرًا، منه أنه تمت له الكلمات في الظاهر والباطن،
وختم ذلك بهذه الأبيات:
يا طالبًا مدد الجناب القادري ... مل للحما الحموي وقف بالحاضر
وانزل بباب الأزهري إمامنا ... شيخ الطريق بباطن وبظاهر
أسد غيور قادري هاشمي ... حصن من الزمن الخؤون الغادر
علم له النسب الرفيع وشأنه السا ... مي سما بحقائق ومآثر
مدد له المدد العظيم وسره ... سيف القضا المردي لكل مكابر
حبر عليّ مناقب أنواره ... كالشمس لامعة لعين الناظر
سر خفي ليس يدركه الفتى ... إلا بعين بصيرة وسرائر
بدل عن الجيلي حل بحينا ... فمقامنا عال بعبد القادر
قل للجهول عميت عن أحواله ... وله العناية كابرًا عن كابر
وعظ الغبي وقل تقدم والتمس ... مدد العلا من خير ركن عامر
فوحقه لا شك عندي أنه ... بدل وقد شهدت بذاك بصائري
وتحققت نفسي حقائق فضله ... يا عاذلي في حبه كن عاذري
أنا لا أمل ولا أميل وإن جفا ... أبدًا وإن قطعت لذاك مرائري
(قال) : (وهنا ذكرنا هذه النبذة الجزئية من أحوال السادة القادرية، وأرجو من كرم الله أن يمن علي بجمع رسالة في ذكر أحوالهم الكريمة لتحصل لي بسببها
بركات همهم العظيمة والسلام ختام) اهـ. ملخصًا بالحرف.
قلت: فالشيخ أبو الهدى أفندي ووالده الشيخ حسن وادي من تلامذة القادرية
وأتباعهم وأستاذهما ومرشدهما الذي تشرفا بالسلوك على يده في قيد الحياة حتى الآن
(أي وقت التأليف وقد مات) فيجب أن لا يصدهما زخرف الحياة الدنيا عن بره،
فبر الآباء في الطريق متأكد عند القوم تأكدًا عظيمًا، وقد أنذروا عاق والده الروحي،
أي أستاذه في الطريق بالحرمان من الفتوح وبالسلب والعياذ بالله تعالى،
ونصوصهم في هذا المعنى غزيرة شهيرة. ومن البر أن يعلن أبو الهدى أفندي
بتخطئة البحريني مؤلف (لباب المعاني) الطاعن بحضرة الغوث الأعظم وبجميع
القادرية على الإطلاق وبشيوخهم بوجه خاص، وبذلك يظهر أن ذمته بريئة من
تأليفه ومن الحمل عليه، فإنه متهم بذلك كما تقدم في المقصد الأول، وأن يصرح
بأن الطعن بالعلامة الشطنوفي وبالإمام الجيلي المفضل في كتب الرفاعية المنتشرة
في هاته الأوقات مختلق لا صحة لمضمونه ولا لنسبته لبعض الغابرين، وفقًا للحجج
التي ينصبها على ذلك كتابنا هذا، وبذلك تتبين نزاهته وبراءته مما يشير إليه كلام
البحريني من كونه رئيس لجنة الرفاعية كما هو الرأي للمتنبهين لحدوث نشأتها
وجدة صبغتها.
أما إن هذا لهو خير من التناكر والتنافر والتقاطع والتدابر، وإذاعة ذلك وسائل
ومقاصد بلسان المطبوعات وفيه جعل آل بيت نبينا مضغة في الأفواه ومشاهير
أسلافنا لماظة بين الشفاه وعسى أن لا يصد سماحة الأفندي المشار إليه عن إجابة
ملتمسنا ما ينقله إليه الهمازون اللمازون ويقته عنده المذاعون عن بعض القادرية مما
يحتمل أن يكون لا صحة لجميعه أو مجموعه عنهم، ولو فرض أنه صحيح فما
الكلام اللساني إلا عرض يتلاشى في الهواء، وهم لم يثبتوا في كتاب أو رسالة فيما
علمنا. وعلى كل حال فالحقائق لا تخفى سواء قال الناس أم لم يكونوا يقولون.
وسواء داجى المداجون وصانع المصانعون وأنكر المحادون وكابر الحاسدون.
أم لم يصانع مبتغي الصنيعة، ولم يكابر باغي القطيعة. وإن كان لابد من
المماثلة {فادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ *
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت: ٣٤-٣٥)