للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


اللورد فاروق هدلي وخوجه كمال الدين

ذكرنا في المجلد السادس عشر شيئًا من خبر اهتداء هذا اللورد الإنجليزي إلى
الإسلام، وما نشره في بعض الجرائد الإنجليزية عن إسلامه، وأما خوجه كمال
الدين فهو رئيس جمعية هندية تدعو إلى الإسلام في لندن ولها مجلة هنالك، ويقال:
إنه من المعتدلين من شيعة ميرزا غلام أحمد القادياني الذي ادَّعَى أنه المسيح
المنتظر، وأن الوحي ينزل عليه بذلك. وقد رددنا عليه في حياته ورد علينا في
بعض كتبه، وأتباعه الآن فريقان: غلاة ومعتدلون، وسنتكلم عنهم في جزء آخر.
ولجمعية خوجه كمال الدين أنصار في القطر المصري ينقلون أنه من مسيحية
القادياني وجرى لنا مع بعض أصدقائنا منهم حديث اتفقنا فيه على أن نسأل الأستاذ
كمال الدين نفسه عن ذلك، ونعتمد ما يقوله وننشره، ولم يتيسر لنا ذلك قبل سفره
إلى الحجاز. وهو قد كان كتب إليهم بأنه يريد الحج بصحبة اللورد هدلي ويمر
بمصر فدعوا الناس إلى الاحتفال باللورد وصاحبه، وألفت لذلك جمعية خاصة في
القاهرة وأخرى في الإسكندرية اشترك فيها كثيرون من جميع الطبقات العليا
والوسطى واستقبلوا الضيفين أحسن استقبال وأدبوا لهم المآدب اللائقة بكرامة
الضيف وكرم المضيف. وأحسن ما نشر في الجرائد بهذا الشأن وأقربه إلى الفائدة
ما كتبه أحد محرري جريدة السياسة وهذا نصه:
(حديث مع رحمة الله فاروق جناب اللورد هدلي)
لم تستقبل مصر رجلاً منذ رجوع سعد باشا زغلول كما استقبلت بالأمس حضرة
المستر (جورج رولان السن دن) المشهور المعروف باسم اللورد هدلي والمعتنق
للديانة الإسلامية تحت اسم رحمة الله فاروق.
لقد غصت المحطات بالمستقبلين، من بورسعيد إلى مصر، والشعب يهتف
مرحبًا مستقبلاً هذا الضيف الكريم. وهذا ما دعا كاتب هذه السطور لزيارة جناب
اللورد الكريم زيارة إفراديه خاصة في منشية البكري حيث حل ضيفًا عزيزًا مع
رفيقيه المحترمين خوجة كمال الدين مدير المجلة الإسلامية في لندن والمبشر
المشهور المقيم في بلاد الإنجليز يدعو الناس للدخول في دين الإسلام، وجناب عبد
المحيي مفتي الديار الإنجليزية وشيخ جامع وكنج في ضواحي لندن.
استقبلني جناب اللورد بلطفه وأدبه الكبيرين. على رأسه الطربوش المصري
الموضوع فوق شعره المكلل بالبياض فينعكس من احمراره لون وردي جميل على
وجهه الأبيض وعلى عينيه الزرقاوين المتحركتين كثيرًا ثم نزلنا إلى جنينة المنشية
الواسعة وجلسنا نتحادث.
كنت أصغي إلى حديثه وأنا أقول في نفسي: ما السبب الحقيقي الذي دعا هذا
الرجل الإنجليزي المنحدر بنسبه من (ملوك نورث وايلس) ما الذي دعا هذا الرجل
الذي وقف شارل الثاني سنة ١٦٦٠ يعلق على صدر أجداده شارات البارونية؟ ما
الذي دعا هذا اللورد لاعتناق دين الإسلام؟
لقد اجتهدت كثيرًا أن أتغلغل إلى داخلية نفسه لعلي أستكشف العاطفة النفسية
التي دفعته إلى الإسلام. لقد حادثته مليًّا ساعتين كاملتين فلم أشك بعدهما في أن هذا
الرجل اعتنق الإسلام نهائيًّا.
إن اللورد هدلي لم يكن في حياته مسيحيًّا قط كما قال لي هو بنفسه، وقد كان
على مذهب الموحدين الذين يؤمنون بإله واحد ويعتقدون أن المسيح نبي، وهؤلاء
شيعة كبيرة في إنجلترا وأمريكا وهم الموحدون المشهورون.
واللورد هدلي مهندس معروف، وقد قص عليَّ من حديثه ما يأتي، قال:
(أنا مسلم منذ خمسين سنة، ولكني لم أعتنق الإسلام رسميًّا إلا في ١٧
نوفمبر سنة ١٩١٣ وذلك لأسباب عائلية سنأتي على ذكرها. وقد كنت في صغري
أشك في أمور كثيرة في الدين المسيحي، وكنت لا أعرف كيف أستطيع أن أؤمن
بالمبدأ المسيحي القائل: إذا كنت لا تؤمن بألوهية المسيح فلا تنجو من عذاب جهنم
الأبدي، وإذا لم تأكل جسد المسيح وتشرب دمه فلن تنجو أيضًا. لذلك كنت في
دخيلة نفسي ثائرًا على الديانة المسيحية من السادسة عشره من العمر. وفي سنة
١٨٨٣ سافرت إلى الهند إلى مقاطعة كشمير لمشاريع هندسية وإنشاء طرق وتعمير
تلك الولايات على الطرق الحديثة الفنية. وهناك اجتمعت بصديقي الكولونيل..
(وطلب إليَّ أن لا أذكر اسمه) الذي أهداني نسخة من القرآن الكريم. وكنت أجد في
هذا الكتاب الشريف من بساطة الدين الإسلامي المبني على الفطرة الطبيعية الصادقة
التي تدفع الإنسان إلى الخير وتنهاه عن المنكر - ما يوافق طبيعة نفسي ويلائم
روحي، وكنت كلما قرأت في ذلك المصحف الكريم اكتشفت بنفسي أنني مسلم دون أن
يبشرني أحد بالإسلام، ودون أن يدعوني أحد إلى الإسلام. لذلك أحب أن يُترك
الإنسان في مسألة الأديان إلى نفسه ليختار الدين الذي يريده أو يوافقه، وأنا أعتقد أن
ثلاثة أرباع الناس في إنجلترا هم مسلمون دون أن يشعروا أو يعرفوا ذلك، وإذا سألت
أحدًا ما هو دينك؟ فيقول لك أنا مسيحي، وإذا قلت له كلا فأنت مسلم بحسب اعتقادك
يضحك منك قائلاً كلا فأنا على دين المسيح) .
(أنا أؤمن أن لا إله إلا الله وأؤمن أن محمدًا وموسى وعيسى أنبياء الله لا
نفرق بينهم بحسب تعاليم القرآن. وأجد الدين الإسلامي دينًا بسيطًا يفهمه قلبي
ويتفق معه عقلي؛ لأني لا أستطيع أن أؤمن بما لا يفهمه القلب ولا يتفق مع العقل
وقد خطر لي أن أعلن إسلامي منذ صغري لكني كنت مضطرًا إلى مراعاة عواطف
أنسبائي المتقدمين في العمر الذين كنت من غير شك سأجرح عواطفهم، وأكسر
قلوبهم إذا أعلنت أني خرجت عن دينهم الذي يعتقدونه ويعتقدون أن لا خلاص لمن
لا يؤمن به. لكن في السنوات الأخيرة قبل الحرب مات جميع المتقدمين في السن
من أقربائي. وفي ذلك الحين تعرفت بصديقي خوجه كمال الدين فكنا نتحادث
ونتباحث كثيرًا في أمور الدين الإسلامي. ولا أنكر أن له الفضل الأكبر في
مساعدتي وإرشادي لإعلاني الانضمام إلى حظيرة الدين الإسلامي. أما زوجتي فقد
توفيت منذ زمن طويل ولي أربعة أولاد لهم الخيار في اعتناق أي مذهب يشاءون.
وقد كنت أعجب دائمًا بما كنت أقرأه عن أبطال الإسلام، وعن أولئك الأفراد
الذين خرجوا من الصحراء حفاة الأقدام فاستطاعوا أن يكونوا أعظم قواد العالم
وأعدل قضاة الأرض وأشهر المتشرعين على الإطلاق) .
(وإني أفتخر بديني الجديد وأشكر الله عليه فهو دين بسيط جدًّا مفهوم تمامًا،
أعرفه كما هو وأعيش بموجبه مسترشدًا بما يوحيه إليَّ ضميري ووجداني.
وقد كنت عقدت النية على أداء فريضة الحج وزيارة قبر النبي المصطفى في
أوائل اعتناقي الإسلام لكن الحرب العالمية الكبرى جاءت فجأة فاضطررت إلى
تأجيل زيارتي هذه إلى هذه السنة) .
وقد ذكر لي أنه هو أول من اعتنق الإسلام بين الإنجليز وهو الآن رئيس
المجلس الإسلامي الأعلى في إنجلترا وأنه قد دخل إلى حظيرة الإسلام منذ دخوله
إليها نحو أربعمائة شخص من رجال ونساء من الإنجليز، أما هو نفسه فيعتقد
اعتقادًا ثابتًا راسخًا أن ثلاثة أرباع الناس في إنجلترا هم مسلمون بأفكارهم ومبادئهم
ولكنهم لا يدركون ذلك؛ ولأجل هذا هم لا يريدون أن يعترفوا به.
هذا هو خلاصة حديث اللورد هدلي.
وقد اجتمعت بحضرته مرة أخرى فوجدت أنه لا يستطيع أن يزيد شيئًا على ما
قال. فالرجل مفكر حر تعبت نفسه من تقاليد الديانة التي ربي فيها وتاقت نفسه إلى
مبدأ بسيط يوافق طبيعة روحه فوجد في بساطة الدين الإسلامي القائم على توحيد الله
ضالته المنشودة فاعتنق الإسلام وهو الآن سائر في طريقه إلى بيت الله الحرام.اهـ.
(المنار) لا يقرأ هذا الحديث أحد له قلب إلا ويشعر بأنه من إملاء الصدق
والإخلاص، ولم نر خطأ فيه إلا قوله أنه أول من أسلم في إنجلترا. وقد يشك
الملاحدة والنصارى الواثقون بدينهم في قول اللورد أنه يعتقد أن ثلاثة أرباع الشعب
الإنجليزي مسلمون بفطرتهم كما يشك بعض المسلمين في صحة إسلامه هو!
وعندنا أن هذا هو الحق اليقين من حيث إن الإسلام دين الفطرة وفي الحديث
الصحيح: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فأبواه يهودانه أو
ينصرانه أو يمجسانه) وإذا كانت التربية الإنجليزية مبنية على مراعاة الفطرة،
ومنها استقلال الفكر فلا غرو إذا كان ثلاثة أرباعهم لا يصدقون تقاليد الكنيسة
المبتدعة بعد المسيح عليه السلام بل يؤمنون بتوحيد الله وكون المسيح رسولاً كسائر
رسل الله كما قال عليه السلام: (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله
الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) وهذا عين إصلاح الإسلام للنصرانية،
ولو تولى الدعوة إلى الإسلام في إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية من يعرفون
الإسلام معرفة صحيحة برهانية عمرانية وأمكنهم بيانه وبيان غش رجال السياسة
والمبشرين المضلين الذين أوقعوا العداوة والبغضاء بين الإسلام وأوروبة - لدخل
هذان الشعبان في دين الله أفواجًا.
وكنا شرعنا في الاستعداد لذلك بمشروع الدعوة والإرشاد، والتزم العزيز
عباس حلمي أعقل أمراء المسلمين وأعلاهم همة مساعدتنا على عملنا من حيث قاومنا
بعض المسلمين الحاسدين ومقلدتهم، حتى إذا ما ذهب بنفوذه أقفلت مدرسة دار الدعوة
والإرشاد بدسائس الإنجليز وإغراء بعض البهائية والإنجليز.