للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد أبو الفضل


محاربة البدع

مشيخة الجامع الأزهر
أرسل إلينا الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر رسالة بهذا العنوان مع كتاب
خاص منه ذكر فيه أنه سئل عما يسميه بعض أهل الطرق (اسم الصدر) ، فأجاب
بكتابة هذه الرسالة أو الفتوى، وأرسلها إلينا لأجل نشرها تعميمًا للفائدة وإرشادًا
للأمة، وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، أما بعد، فإنكم تسألون عما يفعله الآن بعض أهل
الطرق من أبناء هذا العصر، من اجتماعهم صباح مساء، يرددون لفظ (أه، أه)
يعتقدونه اسمًا من أسماء الله، ويقولون: إنهم بذلك يذكرون الله سبحانه ويسمون
ذلك: (اسم الصدر) .
والجواب: أن هذا اللفظ المسئول عنه (أه) بفتح الهمزة وسكون الهاء ليس
من الكلمات العربية في شيء، بل هو لفظ مهمل لا معنى له مطلقًا، وإن كان بالمد
فهو إنما يدل في اللغة العربية على معنى التوجع، وليس من أسماء الذوات، فضلاً
عن أن يكون اسمًا من أسماء الله الحسنى التي أمرنا أن ندعوه بها، كما قال تعالى:
{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: ١٨٠) وقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ
أَياًّ مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الإسراء: ١١٠) .
وقد أجمع العلماء على أن أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية [١] ، ولا يجوز لنا
إطلاق اسم عليه تعالى أو صفة لم يكن ورد بها الشرع، كما أنهم أجمعوا على أنه
لا يجوز لنا التعبد بشيء لم يرد الشرع بجواز التعبد به.
ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج من هذه الدار حتى أكمل الله
لنا على يديه الدين، وأتم لنا النعمة، كما قال تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: ٣) وفي الصحيحين
عن عائشة، عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا
ما ليس منه فهو رد) وفي لفظ: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وفي
صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في
خطبته: (إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور
محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) [٢] ، ومن تأمل قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ
فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: ١٨٠) وتدبر هذا الوعيد
الشديد اقشعر جسمه أن يذكر الله أو أن يدعوه بعد ذلك بغير أسمائه التي سمى بها
نفسه، وأذن لنا في تسميته بها على يد رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والإلحاد
في الأسماء هنا على ثلاثة معان: الخروج بها عما وضعت له من المعنى الشرعي،
تحريفها عن لفظها الوارد شرعًا، إدخال ما ليس منها فيها كموضوع السؤال،
وكما نقل المفسرون هنا من علماء اللغة أن الملحد العادل عن الحق، والمدخل فيه
ما ليس منه.
فثبت بذلك بطلان عمل هؤلاء العوام الذين انتشروا في المدن والقرى يجمعون
الناس، ويعقدون المجالس على ذلك ويتخذون ذلك وِردًا موقوتًا زاعمين أنهم
يتقربون بذلك إلى الله، وفي ذلك إضلال للعامة ونشر لسنة سيئة فيهم؛ لأنه تعبد
بما لم يتعبدنا الله به، وتسمية لله بغير أسمائه، نعوذ بالله من فعل ذلك أو الإعانة
عليه أو السكوت عنه.
ومهما قال زعماء تلك البدعة من قولهم: إنهم وجدوا مشايخهم كذلك. فليس في
ذلك برهان لهم في الدنيا، ولا مخلص لهم عند الله يوم القيامة من عذابه، كيف وقد
قال علماء الصوفية أنفسهم: كل ما لم يستند إلى الكتاب والسنة فهو باطل؟ وقالوا:
إذا لم يستند كشف الولي إلى الكتاب والسنة فهو كشف شيطاني. لا: الولي غير
معصوم. وورد مثل هذا القول أيضًا عن أبي الحسن الشاذلي - رضي الله عنه -،
وأجمعوا على أنه لا يجوز العمل بالكشف ولا الإلهام والمشاهدة إلا بعد عرضه على
الكتاب والسنة، وما يقولونه أيضًا من الاستدلال على بدعتهم هذه بقوله تعالى:
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة: ١١٤) فليس من الاستدلال في شيء، بل هو
بقول الجاهلين أشبه؛ لأن الآية ليس معناها أنه كان يذكر الله بلفظ (أه) كما
يفعلون بل معناها - كما قال المفسرون - أنه كان مشفقًا رحيمًا، والله يقول الحق وهو
يهدي السبيل.
٢٥ المحرم ١٣٣٩م ... ... ... ... ... شيخ الجامع الأزهر
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد أبو الفضل
وقد نشرت هذه الفتوى في الجرائد اليومية فرد عليها بعض المنتسبين إلى
الطريقة الشاذلية برسالة نشرت في جريدة الأهرام هذا نصها:
الرجوع إلى الحق فضيلة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أما بعد، فأسأل الله
تعالى أن يهدي إلى حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أزكى صلاة وأتم سلام،
وأن يعم بذلك سائر الأنبياء والمرسلين وآل كل والتابعين.
قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي
أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: ١٨٠) .
قال المفسرون: أسماء الله تعالى كلها حسنى؛ لأنها تدل على معاني الكمال
الإلهي سواء وردت في القرآن فقط كاسم الله تعالى القريب والمحيط والبديع والأحد
وأحكم الحاكمين وخير الفاصلين وذي العرش وذي الطول، وغير ذلك مما ورد في
الذكر الحكيم خاصة، أو جاءت به السنة أيضًا، كقوله - صلى الله عليه وسلم -:
(إن لله تسعًا وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة. الله الرحمن الرحيم)
الحديث أو وردت به السنة، وإن لم يرد في القرآن، كقوله - صلى الله عليه
وسلم -: (الديان لا يموت) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تعالى
طيب لا يقبل إلا طيبًا) وقوله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أدعيته: (يا
حنان يا منان) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تعالى جميل يحب
أن يرى أثر نعمته على عباده) وقد ورد هذا الاسم في خريدة التوحيد للدردير فهو
الجليل والجميل والولي وغير ذلك مما تفردت به السنة خاصة، وليس في القرآن
صراحة، فليس المراد بالأسماء الحسنى خصوص التسع والتسعين، وإلا لزم
عليه معارضة الأحاديث بعضها لبعض كما لا يخفى، وذلك لا يعقل.
إذا علمت ذلك علمت أننا مأمورون أن ندعو الله تعالى بكل اسم ثبت وروده
عن الشارع - صلى الله عليه وسلم - مطلقًا.
ومما تأكد ثبوته ذلك الاسم العظيم الذي اتخذه السادة الشاذلية من ضمن
أذكارهم وهو اسم الله تعالى (أه) جل جلاله، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة
رضي الله عنه أنه رأى مريضًا كان يئن في حضرة رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وأصحابه فنهاه بعضهم عن الأنين وأمره بالصبر، فقال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: (دعوه يئن فإنه يذكر اسمًا من أسمائه تعالى) ونقل العلامة
الحفني في حاشيته على الجامع الصغير للجلال السيوطي عند الكلام على الاسم
الأعظم قال: إن اسم الله تعالى (أه) هو الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا
سئل به أعطى.
وقال الإمام الفخر الرازي في تفسيره في شرح البسملة: اختلف العلماء في
الاسم الأعظم، ويرجح عندي أن (أه) هو اسم الله الأعظم لاشتماله على سر الإشارة
وتكوين الكائنات وظهور التجليات. وذكر العلامة العزيزي في شرحه على الجامع الصغير أيضا أن اسم الله تعالى (أه) هو اسم يلهمه الله تعالى للعبد عند
تجليات الجلال. وقال الشيخ الأمير في حاشيته على متن (غرامي صحيح) : إن
(أه) من أسمائه تعالى. وصحح ذلك، وروى الحاكم في مستدركه حديثًا يذكر فيه أن
(أه) اسم عظيم من أسمائه تعالى يلهمه الله تعالى لمن أحب من عباده؛ لأنه سر من
الأسرار التي لا يطلع عليها إلا المقربون من المؤمنين. وقال الأستاذ الباجوري في
حاشيته عل جوهرة التوحيد - عند قول الناظم: حتى الأنين في المرض كما نقل -:
ينبغي للمريض أن يقول (أه) فإنه اسم من أسمائه تعالى، ولا يقول: أخ، فإنه من
أسماء الشيطان. فقد ثبت بالدليل النقلي أن (أه) اسم عظيم من أسماء الله الحسنى
أمرنا سبحانه أن ندعوه بها، فحينئذ لا إلحاد ولا تحريف - نعوذ بالله من ذلك -،
وإذًا ليس اسم (أه) مهملاً لا معنى له مطلقًا، كما قيل، بل معناه منزه عن الإهمال،
جليل عند أهل الإنصاف، ولو تتبعنا الآثار والأخبار الواردة في الاستدلال على صحة
هذا الاسم لما وسعتنا الصحف، وفي هذا القدر كفاية، لمن سطعت عليه أنوار
الهداية، ونسأل الله تعالى العناية وحسن الختام، بجاه سيدنا محمد عليه الصلاة
والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الفقير
... ... ... ... ... ... ... أحمد وافي الشاذلي الأزهري
نشر هذا الرد في عدد الأهرام الصادر في ٢٦ المحرم، ولم ينشر من قِبل
مشيخة الأزهر رد عليه، ولكن كتب إلى الأهرام الرد الآتي فنشر في العدد الذي
صدر في ٢ صفر، وهذا نصه:
رد على رد
أصدرت هيئة مشيخة الأزهر الأعلى بيانًا أنكرت فيه على بعضهم بدعًا
مستهجنة لم تؤيدها الأحاديث الصحيحة المتن، القوية الحجة المتعارضة مع روح
الدين الناصع، المنتشرة في بلاد هي كعبة العلم وحجة العارفين في اللغة والدين،
وانبرى أحدهم وسطر في صحيفتكم الغرَّاء كلمة لا نرى مندوحة من الرد عليها
إحقاقًا للحق الذي لا ينكره إلا المكابرون، وإنا لا نطيل الشرح في هذا الباب،
وإنما نورد الوجوه الآتية كي لا نضل الطريق السوي، وحتى لا يتسلط بعضهم على
السذج من الأمة، فيدخلون في الدين ما هو براء منه.
أولاً: إن ما أورده حضرة الكاتب من عزو حديث أبي هريرة الذي فيه: قال
الرسول الكريم لمعارضي المريض على أنينه: (دعوه يئن..) هذا العزو إلى
صحيح مسلم كذب محض، وإلا فليأتنا حضرته بالنص الصريح في صحيح مسلم،
وهو كثير متداول بين الأيدي كُرِّرَ طبعه مرارًا وتعددت طبعاته، وكلها خلو من هذا
الحديث، فليتفضل حضرته بذكر الصحيفة التي تتضمن هذا الحديث.
ثانيًا: إن الحديث المذكور مدون في الجامع الصغير، وعزاه صاحب الجامع
إلى الرافعي، فهو حديث لا تقوم عنده حجة؛ لأنه لم يُخَرَّج في الكتب الصحيحة ولم
يصححه أحد من المحدثين.
ثالثًا: لو فرضنا أن هذا الحديث صحيح، فلا يدل على بدعتكم هذه، فإن
الرسول إنما أشفق على المريض وتركه يئن، فإن صح أن لفظة (أه) اسم من
أسماء الله تعالى؛ فأسماء الله الحسنى معروفة، ولا حاجة إلى عدها في هذا المقام،
وحسبنا أن يكون ما أوردتموه إشفاقًا على المرضى، فلا يجب أن يكون ساريًا على
الأصحاء وإقناع السذج منهم بأن لفظ (أه) اسم من أسماء الله، والله بريء مما
تنسبونه إليه جلت أسماؤه.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد فهمي
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بالإسكندرية
***
تعليق المنار على الفتوى والرد عليها

الفتوى ودعامة الإصلاح
إن فتوى الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر مشتملة على بيان أساس الدين،
وأصل الإصلاح الأعظم فيه، وإن كانت في بيان بطلان بدعة خاصة، قد ابتلي أهل
الطرق بكثير من مثلها، ومما هو أبعد عن هدي الدين منها كما شرحناه في مواضع
من المنار، وهذه الأصول تقضي على جميع البدع، فقيمة الفتوى أكبر وأعظم من
إثباتها؛ لكون ما يسمونه (اسم الصدر) والتعبد به بدعة ليست من الدين في شيء.
ذلك الأساس الراسخ والأصل الثابت الذي هو جدير بتدبر المسلمين هو قول
الشيخ: إن العلماء قد أجمعوا على أنه لا يجوز لنا التعبد بشيء لم يرد الشرع
بجواز التعبد به. فهذا الأصل ثان للأصل الأول الذي جاء به جميع رسل الله -
صلى الله عليه وسلم -، وهو أنه لا يُعْبَدُ إلا الله وحده، وقد صرح شيخ الإسلام
ابن تيمية بأن الدين كله قائم على هذين الأصلين:
(١) لا يُعْبَد إلا الله تعالى.
(٢) لا يُعْبَد الله تعالى إلا بما شرعه.
ولا نزاع في ذلك، وإنما نعيده ونكرره لزيادة الإيضاح والتقرير، وقد بيَّن
الشيخ - أدام الله النفع به - دليل هذا الإجماع بقوله: إن الرسول - صلى الله عليه
وسلم - لم يخرج من هذه الدار حتى أكمل الله تعالى لنا على يديه الدين، وأتم لنا
النعمة، وذكر نص آية المائدة التي أنزلت عليه صلوات الله وسلامه في يوم عرفة
من حجة الوداع، ولعله إنما قال (على يديه) ولم يقل: على لسانه. مع أن الدين
تبليغ عن الله تعالى باللسان؛ ليفيد أنه - صلى الله عليه وسلم - بين ما نزله الله عليه
بالفعل والحكم والتنفيذ، كما بلغه بالقول، وعبارته تدل على حصر هذا الإكمال به -
صلى الله عليه وسلم - دون غيره من الصحابة وعلماء التابعين ومن بعدهم، فليس
قول أحد منهم ولا فعله دينًا ولا حجة في الدين عند أهل السنة.
وقد بنى الشيخ - أيد الله به السنة - على هذا البطلان احتجاج أصحاب هذه
البدعة بأقوال شيوخهم وأفعالهم فقال: إنه ليس لهم في ذلك برهان في الدنيا ولا
منجاة من عذاب الله تعالى في الآخرة، ولما كان سبب افتتان الكثير من الناس ببدع
المتصوفة الاغترار بما كان عليه بعض شيوخهم من العرفان والصلاح، وما ينقل
عن بعض أفرادهم من معرفة الحقائق بالكشف، كَشف الشيخ هذه الشبهة بكلام
منقول عن بعض علماء الصوفية المشهورين مبني على ذلك الأساس الأعظم للدين،
وهو قولهم: كل ما لم يستند إلى الكتاب والسنة من كشف وغيره فهو باطل.
وتسميتهم هذا الكشف شيطانيًّا، وقولهم: إنه لا يجوز العمل بالكشف ولا الإلهام
والمشاهدة إلا بعد عرضه على الكتاب والسنة. وتصريحهم بأن الولي غير معصوم؛
أي: لا في كشفه ولا في غيره، وإنما نقل هذا القول عن علماء الصوفية؛ لأن غير
العلماء لا يعتد بقولهم ولا نقلهم، فمثل علماء الصوفية في ذلك غيرهم من
المتكلمين والفقهاء، فالدين قد أكمله الله تعالى، وهو محصور في الكتاب العزيز
والسنة النبوية الثابتة، ولا يوجد إجماع صحيح ولا قياس صحيح إلا وهو مستند
إليهما، وإنما كلام العلماء الذي يعتد به هو بيان الأصلين وما استنبط منهما واستند
إليهما من قياس وإجماع، على ما في القياس والإجماع من خلاف معروف في علم
أصول الفقه.
وقد استدل الشيخ - أيد الله حجته - على ما ذكر من أساس الدين بالسنة
الصحيحة، كما استدل بالكتاب العزيز واكتفى بأشهر الأحاديث وأصرحها في
الموضوع، حديث (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وهو متفق عليه،
وحديث (أما بعد فإن أحسن الحديث كتاب الله) إلخ، وهو متفق عليه أيضًا،
وإن لم يخرجه البخاري إلا موقوفًا على عبد الله بن مسعود، ورواهما غير الشيخين
كما تقدم.
بعد بيان هذه الأصول الأساسية في الدين، أشار الشيخ في سياق بيان بدعة ما
يسمونه (اسم الصدر) إلى قسمي البدعة اللذين أسهب الإمام الشاطبي في الكلام
عليهما بكتابه الاعتصام، وهما البدعة الحقيقية، كذكر الصدر الذي ليس له أصل في
الكتاب ولا في السنة، ولا كان موجودًا في صدر الإسلام، بل هو إحداث وابتداع
محض، والبدعة الإضافية، وهي ما كان له أصل، ولكن الابتداع فيه بالعوارض
والصفات كالعدد والتوقيت والاجتماع والصفة كصلاة الرغائب في رجب، وصلاة
شعبان، وقد قال فيهما الإمام النووي في المنهاج: وصلاة رجب وشعبان بدعتان
قبيحتان مذمومتان. ومن هذا القبيل جميع الأوراد التي جعلوها من شعائر الدين
بالتوقيت والاجتماع ورفع الصوت وغير ذلك.
قال الشيخ - نفع الله به -: (فثبت بذلك بطلان عمل هؤلاء العوام الذين
انتشروا في المدن والقرى يجمعون الناس ويعقدون المجالس على ذلك، ويتخذون
ذلك وردًا موقوتًا زاعمين أنهم يتقربون بذلك إلى الله، وفي ذلك إضلال للعامة
ونشر لسنة سيئة فيهم؛ لأنه تعبد بما لم يتعبدنا الله به وتسمية لله بغير أسمائه،
نعوذ بالله من فعل ذلك، أو الإعانة عليه أو السكوت عنه) اهـ.
وقد عبر هنا عن البدعة بالسنة السيئة باعتبار أنها تتبع وتجعل كالمشروع،
ويقتدي بعض الناس فيها ببعض، وللإشارة إلى حديث جرير بن عبد الله البجلي في
صحيح مسلم مرفوعًا: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل
بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان
عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم
شيء) [٣] وأخرجه الترمذي عنه بلفظ: (من سن سنة خير.. ومن سن سنة
شر..) فالمراد بالسنة هنا معناها اللغوي وهو الطريقة المسلوكة؛ إذ كان سبب
الحديث أن قومًا من مضر جاؤوا النبي - صلى الله عليه وسلم - حفاة عراة
فتمعر وجهه الشريف لما رأى بهم من الفاقة، فأمر بلالاً، فأذن وأقام، فصلَّى بالناس
ثم خطب، فحث على التصدق من النقد والثياب والطعام، فتلبث الناس حتى كان
رجل من الأنصار بدأ بأن جاء بصُرَّة كادت كفه تعجز عنها لكبرها بل عجزت،
ثم تتابع الناس فكان ما جاؤوا به كومين من طعام وثياب، حتى تهلل وجه النبي -
صلى الله عليه وسلم - وقال: (من سن في الإسلام) إلخ، فالمراد بالسنة هنا
العمل الذي يكون به صاحبه قدوة فيه، سواء كان اتباعًا كفعل ذلك الأنصاري وهو
السنة الحسنة، أو ابتداعًا وهو السنة السيئة، وليس من السنة الحسنة أن يسن في
الدين عبادة جديدة ولو في الهيئة والصورة، نعم، قد يدخل في السنة الحسنة كل
اختراع دنيوي ينفع الناس في دينهم أو دنياهم، ويشترط في الثاني أن لا يكون
محظورًا شرعًا في نفسه ولا فيما يترتب عليه ويلازمه، وقد تضمن كلام الشيخ
إنكار جميع البدع وبيان حظرها، وحظر الإعانة عليها والسكوت عنها، كل
ذلك محرم شرعًا، والحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما من
عزائم الدين بل هما سياجه وحفاظه.
ونحمد الله أننا قد جرينا على هذه الأصول والقواعد في المنار، وما زال كثير
من المعممين الجاهلين أو الحاسدين ينكر علينا بناء الإصلاح الديني على اتباع
الكتاب والسنة وإنكار البدع كلها حقيقية كانت أو إضافية.
ونرجو من الشيخ، وهو رئيس للمعاهد الدينية في هذا القطر كله أن يجعل
العمل بهذه الفتوى مبدأ إصلاح جديد في الأزهر وسائر المعاهد الدينية قبل غيرها،
فإن البدع ومخالفة السنن كثيرة فيها حتى في عماد الدين، الصلاة، فقد صليت
الجمعة من عهد قريب في الجامع الأزهر، فوجدت قشر البصل وأوراقه الخضر
وقشر البيض منثورة في مواضع من المسجد، ووجدت المجاورين وغيرهم متحلقين
في صحنه يتكلمون وقت الخطبة، ووجدت الصفوف غير تامة ويبعد بعضها عن
بعض بعدًا واسعًا، وغير ذلك من المنكرات، كما نرجو منه أن يبطل من عقاب
مخالفي قانون المعاهد الحرمان من دروس العلم، فإنه يتضمن المنع من طاعة الله
تعالى وعبادته بتلقي علوم الدين: وسائلها، ومقاصدها، والله الموفق.
***
الرد على المعترض على الفتوى
انبرى أحد مشايخ الطريقة الشاذلية للرد على الفتوى وإثبات ما يسمونه
(اسم الصدر) وكون التعبد به مشروعًا، فاستدل على الاسم بحديث عزاه إلى
صحيح مسلم، وحديث عزاه إلى الحاكم، وبكلام بعض المصنفين.
أما الحديث الأول فنص عبارته فيه: ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي
الله عنه أنه رأى مريضًا كان يئن في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه
فنهاه بعضهم عن الأنين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم (دعوه يئن فإنه
يذكر اسمًا من أسمائه تعالى) وقد كذبه من رد عليه من الإسكندرية بعزو هذا الحديث
إلى صحيح مسلم، وطالبه ببيان مكانه منه، وذكر أن السيوطي عزاه في الجامع
الصغير إلى الرافعي، وأنه لم يصححه أحد من المحدثين، وأنه على فرض صحته لا
يدل على مطلوبه، وهو مصيب في هذه الأقوال كلها، ولكنها غير كافية في الرد
عليه، فنزيد عليه ما يأتي من الدلائل والفوائد:
(١) أن المعترض زعم أن هذا الحديث من مسند أبي هريرة المخرجة في
صحيح مسلم، وليس في صحيح مسلم ولا في غيره من كتب الحيدث. والحديث الذي
عزاه السيوطي في جامعه إلى الرافعي من مسند عائشة، وبين السيوطي سببه في
الجامع الكبير كما ذكر في الإكمال من كنز العمال وهو: أن عائشة قالت: دخل
علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندنا عليل يئن فقلنا له: اسكت. فقال:
(دعوه يئن، فإن الأنين اسم من أسماء الله تعالى يستريح إليه العليل) والمعترض
ذكر لحديث أبي هريرة سببًا مثل هذا، وهو ناقل له عن بعض كتب الطريقة،
وليس هو المخترع له، ومن المعروف عند العلماء أن الحديث كغيره من العلوم له
أئمة يؤخذ عنهم، فلا يعتد إلا بما رووه، ولا يحتج بشيء مما رووه إلا إذا
صححوا سنده، أو حسنوه، وإن كتب الصوفية وكتب التاريخ والأدب يكثر فيها
الأحاديث الموضوعة والواهية التي لا يجوز العمل بها؛ لا في فضائل الأعمال، ولا
في غيرها، بل يوجد أمثال هذه الأحاديث في كتب التفسير والكلام (العقائد
وفلسفتها) ؛ لأن أكثر مصنفيها من غير المحدثين، وهذا كتاب إحياء العلوم من أشهر
الكتب، ومؤلفه من أكبر أئمة المتكلمين والفقهاء الصوفية، وهو يشتمل على كثير من
الأحاديث الموضوعة والواهية التي لا يجيز أحد من الأئمة العمل بها في الفضائل،
فضلاً عن الاحتجاج بها في إثبات أسماء الله تعالى وصفاته، وشرعية عبادة لا دليل
لها سواها.
(٢) قال الشيخ محمد الحوت الكبير في كتابه الذي بين فيه ما في الجامع
الصغير من الأحاديث الضعيفة؛ أي: والموضوعة عند ذكر حديث (دعوه يئن) :
لكن هذا لم يرد في حديث صحيح ولا حسن، وأسماؤه تعالى توقيفية اهـ.
(٣) مما يدل على أن هذا الحديث مصنوع ليس له أصل: عدم ذكر أحد له
من المحدثين، ولا فقهاء الحديث في الكتب التي لا يهملون فيها مثله؛ ككتب لغة
الحديث وشروحه وفقه الحديث، فهذا الحافظ ابن الأثير لم يذكر كلمة الأنين في كتابه
النهاية الذي وضعه لتفسير مفردات الأحاديث، ولم يذكرها صاحب مجمع البحار في
كتابه ولا في تكملته على عنايته باستقصاء ما تركه صاحب النهاية.
ولم يذكره حفاظ الحديث والفقهاء في بحث حكم الأنين شرعًا هل هو مكروه
أم لا، وقد اعتمد أعلم الفقهاء بالأحاديث كراهته ونظر بعضهم فيها، ولو ثبت
هذا الحديث عندهم لقالوا: إنه مستحب أو مسنون.
(٤) قال الحافظ ابن حجر في شرحه حديث تفجع عائشة من وجع رأسها
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لها: (ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك)
وهو في كتاب المرضى من صحيح البخاري ما نصه: قال القرطبي: اختلف الناس
في هذا الباب (المنار: يعني باب الشكوى في المرض ونحوه هل يقدح في الرضا من
الله والتسليم أم لا؟ والتحقيق أن الألم لا يقدر أحد على رفعه، والنفوس مجبولة على
وجدان ذلك، فلا يستطيع تغييرها عما جبلت عليه، وإنما كلف العبد أن لا يقع منه في
حال المصيبة ما له سبيل إلى تركه؛ كالمبالغة في التأوه، والجزع الزائد، كأن من
فعل ذلك خرج عن معاني أهل الصبر، وأما مجرد التشكي فليس مذمومًا حتى يحصل
التسخط للمقدور، وقد اتفقوا على كراهة شكوى العبد ربه وشكواه، إنما هو ذكره
للناس على سبيل التضجر، والله أعلم.
(قال) : روى أحمد في الزهد عن طاوس أنه قال: أنين المريض
شكوى. وجزم أبو الطيب الصباغ وجماعة من الشافعية أن أنين المريض وتأوهه
مكروه، وتعقبه النووي، فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه نهي
مقصود، وهذا لم يثبت فيه ذلك، ثم احتج بحديث عائشة في الباب، ثم قال: فلعلهم
أرادوا بالكراهة خلاف الأولى، فإنه لا شك أن اشتغاله بالذكر أولى. انتهى.
ولعلهم أخذوه بالمعنى من كون كثرة الشكوى تدل على ضعف اليقين، وتشعر
بالتسخط للقضاء، وتورث شماتة الأعداء، وأما إخبار المريض صديقه أو طبيبه
عن حاله، فلا بأس به اتفاقًا , اهـ ما أورده الحافظ في شرح حديث عائشة من
البخاري، ولو كان لها حديث في شرعية الأنين لذكره النووي أو الحافظ الذي قال فيه
بعض العلماء: إن كل حديث قال الحافظ ابن حجر: لا أعرفه. فليس بحديث؛
لجودة حفظه لكتب السنة، وحسن استحضاره لها، ولا سيما في شرحه للبخاري
الذي كان يتلقاه عنه الحفاظ والفقهاء في الجامع الأزهر تلقي بحث واستدلال.
وكذلك فقهاء الحنابلة جزموا بكراهة الأنين في المرض في كتبهم، قال الفقيه ابن
مفلح في كتابه الفروع: (فصل) يكره الأنين في المرض إلخ، ثم قال في فصل
بعده: وكانوا يكرهون أنين المريض؛ لأنه يترجم عن الشكوى. ثم ذكر عن عبد
الله ابن الإمام أحمد أنه نقل في أنين المريض: أرجو أن لا يكون شكوى ولكنه
اشتكاء إلى الله اهـ. وذكر ذلك السفاريني في أواخر الجزء الأول من شرح
منظومة الآداب، ثم قال:
(قلت) : أنين المريض تارةً يكون عن تبرم وتضجر فيكره، وتارةً يكون
عن تسخط بالمقدور فيحرم فيما يظهر، وتارةً يكون لأجل ما يجد، ويجد به نوع
استراحة بقطع النظر عن التضجر والتبرم فيباح، وتارةً يكون عن ذل بين يدي
رب العالمين وانكسار، وخضوع وافتقار، ومسكنة واحتقار، مع حسم مادة العون
إلا من بابه، والشفاء إلا من عنده، والعافية إلا من كرمه، فهذا لا يكره فيما يظهر
بل يندب إليه، وإليه الإشارة في حديث، وإن لم يثبت (المريض أنينه تسبيح،
وصياحه تكبير، ونفسه صدقة، ونومه عبادة، ونقله من جنب إلى جنب جهاد في
سبيل الله) قال الحافظ ابن حجر: ليس بثابت والله أعلم اهـ.
فأنت ترى أن حديث عائشة الذي عزاه السيوطي إلى الرافعي أمثل ما يستدل به
على الحكم الصحيح في هذه المسألة؛ لأنه نص فيها، فلو كان له أصل لذكروه، ولو
مع التصريح بعدم ثبوته، كما قال الحافظ في حديث المريض المذكور آنفًا.
(٥) وأما الحديث الثاني فقد أورده المعترض بقوله: وروى الحاكم في
مستدركه حديثًا يذكر فيه أن (أه) من أسمائه تعالى يلهمه الله تعالى لمن أحب من
عباده؛ لأنه سر من الأسرار التي لا يطلع عليها إلا المقربون من المؤمنين.
ونقول في هذا الحديث كما قلنا فيما قبله: الظاهر أنه نقله عن بعض كتب
أهل الطريق الذين لا يُعْتَدُّ بنقلهم، وهو لم يذكر لفظه، ولا اسم الراوي له من
الصحابة، ونحن لم نر كلمة (أه) في النهاية، ولا مجمع البحار، ولا تكملته، ولا
في غيرهما من معاجم اللغة العامة الشاملة في الكتاب والسنة ولغيره من كلام العرب،
ونزيد على ذلك أن هذه العبارة من الكلام المألوف عند الصوفية وليست من أساليب
كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كلام العرب في عصره، وكيف يصح أن يكون
سرًّا يعرف بالإلهام ويختص بالمقربين مع التصريح به؟ على أنه غير معروف إلا
عند غوغاء المنتسبين إلى الطريق، فلم يرد عن أحد من أكابر الصحابة والتابعين،
ولا الأئمة المجتهدين، ولا غيرهم من أكابر الفقهاء أو المتكلمين، وأئمة الصوفية
العارفين.
***
الأقوال في اسم الله الأعظم
(٦) ولما كانت الأقوال التي عزاها إلى العلماء في إثبات (اسم الصدر)
واردة في بيان كونه هو اسم الله الأعظم ننقل ما أحصاه الحافظ ابن حجر من
الأقوال في الاسم الأعظم عمن يقول به، فإن بعض العلماء أنكره كما قال الحافظ،
وهذا نص ما قاله في فتح الباري بعد أن أطال الكلام في أسماء الله الحسنى:
(تكميل) وإذ قد جرى ذكر الاسم الأعظم في هذه المباحث فليقع الإلمام بشيء من
الكلام عليه، وقد أنكره قوم كابن أبي جعفر الطبري وأبي الحسن الأشعري
وجماعة بعدهما كأبي حاتم بن حبان والقاضي أبي بكر الباقلاني فقالوا: لا يجوز
تفضيل بعض الأسماء على بعض. ونسب ذلك بعضهم لمالك؛ لكراهيته أن تعاد
سورة أو تردد دون غيرها من السور؛ لئلا يظن أن بعض القرآن أفضل من بعض،
فيؤذن ذلك باعتقاد نقصان المفضول عن الأفضل، وحملوا ما ورد من ذلك على أن
المراد بالأعظم العظيم، وأن أسماء الله كلها عظيمة، وعبارة أبي جعفر الطبري:
اختلفت الآثار في تعيين الاسم الأعظم، والذي عندي أن الأقوال كلها صحيحة؛ إذ لم
يرد في خبر منها أنه الاسم الأعظم ولا شيء أعظم منه، فكأنه يقول: كل اسم من
أسمائه تعالى يجوز وصفه بكونه أعظم فيرجع إلى معنى عظيم كما تقدم.
وقال ابن حبان: الأعظمية الواردة في الأخبار إنما يراد بها مزيد ثواب الداعي
بذلك كما أطلق ذلك في القرآن، والمراد به مزيد ثواب القارئ.
وقيل: المراد بالاسم الأعظم كل اسم من أسماء الله تعالى دعا العبد به
ربه مستغرقًا، بحيث لا يكون في فكره حالتئذ غير الله تعالى، فإن من تأتَّى له
ذلك استجيب له، ونقل معنى هذا عن جعفر الصادق وعن الجنيد وعن غيرهما.
وقال آخرون: استأثر الله تعالى بعلم الاسم الأعظم ولم يُطلع عليه أحدًا من
خلقه، وأثبته آخرون معينًا واضطربوا في ذلك، وجملة ما وقفت عليه من ذلك أربعة
عشر قولاً:
الأول: الاسم الأعظم (هو) نقله الفخر الرازي عن بعض أهل الكشف،
واحتج له بأن من أراد أن يعبر عن كلام معظم بحضرته لم يقل له: أنت قلت
كذا وإنما يقول: هو يقول، تأدبًا معه.
الثاني: (الله) لأنه اسم لم يطلق على غيره؛ ولأنه الأصل في الأسماء
الحسنى، ومن ثم أضيفت إليه.
الثالث: (الله الرحمن الرحيم) ، ولعل مستنده ما أخرجه ابن ماجه عن عائشة
أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمها الاسم الأعظم فلم يفعل، فصلت
ودعت: اللهم إني أدعوك الله، وأدعوك الرحمن، وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها ما
علمت منها وما لم أعلم) الحديث وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: إنه لفي
الأسماء التي دعوت بها. قلت: وسنده ضعيف، وفي الاستدلال نظر لا يخفى.
الرابع: (الرحمن الرحيم الحي القيوم) لما أخرج الترمذي من حديث أسماء
بنت يزيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اسم الله الأعظم في هاتين
الآيتين {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة: ١٦٣) وفاتحة
سورة آل عمران: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} (آل عمران: ٢) أخرجه
أصحاب السنن إلا النسائي وحسنه الترمذي، وفي نسخة صححه، وفيه نظر؛
لأنه من رواية شهر بن حوشب.
الخامس: (الحي القيوم) ، أخرج ابن ماجه من حديث أبي أمامة (الاسم
الأعظم في ثلاث سور: البقرة وآل عمران وطه) قال القاسم - الراوي عن أبي
أمامة -: التمسته منها فعرفت أنه (الحي القيوم) وقوَّاه الفخر الرازي، واحتج
بأنهما يدلان من صفات العظمة بالربوبية ما لا يدل على ذلك غيرهما كدلالتها.
السادس: (الحنان المنان بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام الحي
القيوم) ، ورد ذلك مجموعًا في حديث أنس عند أحمد والحاكم، وأصله عند أبي داود
والنسائي، وصححه ابن حبان.
السابع: (بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام) أخرجه أبو يعلى
من طريق السري بن يحيى عن رجل من طي، وأثنى عليه قال: كنت أسأل الله
تعالى أن يريني الاسم الأعظم، فأريته مكتوبًا في الكواكب في السماء.
الثامن: (ذو الجلال والإكرام) أخرج الترمذي من حديث معاذ بن جبل
قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يقول: يا ذا الجلال والإكرام.
فقال: (قد استجيب لك فسل) واحتج له الفخر بأنه يشمل جميع الصفات المعتبرة في
الإلهية؛ لأن في الجلال إشارة إلى جميع السلوب، وفي الإكرام إشارة إلى جميع
الإضافات.
التاسع: (الله لا إله إلا هو الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له
كفوًا أحد) ، أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث
بريدة، وهو أرجح من حيث السند من جميع ما ورد في ذلك.
العاشر: (ربّ ربّ) ، أخرجه الحاكم من حديث أبي الدرداء وابن عباس
بلفظ (اسم الله الأكبر: رب رب) ، وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة: (إذا قال
العبد: يا رب يا رب. قال الله: لبيك لبيك عبدي سل تعط) رواه مرفوعًا وموقوفًا.
الحادي عشر: (دعوة ذي النون) أخرج النسائي والحاكم عن فضالة بن
عبيد رفعه (دعوة ذي النون في بطن الحوت {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ
مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء: ٨٧) لم يدع بها رجل مسلم قط إلا استجاب الله له) .
الثاني عشر: نقل الفخر الرازي عن زين العابدين أنه سأل الله أن يعلمه
الاسم الأعظم فرأى في النوم: (هو الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم) .
الثالث عشر: هو مخفي في الأسماء الحسنى، ويؤيده حديث عائشة المتقدم لما
دعت ببعض الأسماء وبالأسماء الحسنى، فقال لها صلى الله عليه وسلم:
(إنه لفي الأسماء التي دعوت بها) .
الرابع عشر: (كلمة التوحيد) نقله عياض كما تقدم قبل هذا. اهـ ما أورده
الحافظ من إحصاء الأقوال التي وقف عليها، ومنها عدة أقوال نقلها عن الرازي
ليس فيها ذكر اسم (أه) المدعى، وسننقل ما قاله في تفسيره، ومنها أدلة رواها
الحاكم، وكان الحافظ ابن حجر يحفظ مستدرك الحاكم وغيره من كتب السنة ولم
يذكر عنه في الروايات التي رواها في الاسم الأعظم ولا في الأسماء الحسنى أن
منها (أه) ، وبلغنا أنها كلمة سريانية.
وسننشر في الجزء التالي بقية الرد على المعترض على فتوى شيخ الأزهر
مبدوءًا بكلام الفخر الرازي في اسم الله الأعظم، إن شاء الله تعالى.