للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مدنية القوانين
أو سعي المتفرنجين إلى نبذ بقية الشريعة الإسلامية
(١)

مقدمة تمهيدية
قررت الدولة البريطانية إلغاء الحماية التي كانت ضربتها على مصر،
واعترفت لها بأنها دولة دستورية ذات سيادة، واعترف لها بذلك الدول الكبرى
وغيرها، وألفت الحكومة المصرية لجنة لوضع قانون أساسي للدولة المصرية،
وكان مما وضعته هذه اللجنة من مواد الدستور الأساسية أن دين الدولة المصرية
الرسمي هو دين الإسلام، وأنه يُشترط في ملكها أن يكون مسلمًا ثابت النسب في
بيت الملك العلوي بزواجٍ شرعيٍّ، فساءت هذه المواد بعض ملاحدة المتفرنجين
المقلدين لأعداء الأديان من الإفرنج في الدعوة إلى التفصِّي من روابط الدين، ولا
سيما السياسية والاجتماعية منها، وهي التي يبدءون بها؛ لعِلمهم بأن الروابط
الروحية لا سبيل إلى إبطالها، ومَحْوها من الأمة، ولكنها تضعف، ويتركها أهلها
بالتدريج، إذا لم يكن لهم - ولا لها - شأن في الحكومة، ولا في الروابط
الاجتماعية العامة.
قام كاتب منهم في هذه الأيام يقترح من الإصلاح لمصر في عهد الاستقلال
والدستور أن توحد قوانينها؛ لتُجعل كلها مدنية بوضع قانون مدني للأحوال الشخصية
من زواج وطلاق وغير ذلك، ويعنون بالمدني ما يقابل الديني، واحتج هذا المقترِح
على رأيه بأن الشريعة الإسلامية غير عادلة؛ لأنها تبيح للمسلم أن يتزوج يهودية
أو نصرانية، ولا تبيح أن يتزوج غير المسلم امرأة مسلمة!
ساء المسلمين هذا الاقتراحُ، وأنه صادر عن كاتب يُعَدُّ منهم، ورد عليه
كثيرون في جريدة الأهرام التي نشر فيها وفي غيرها من الجرائد، ونزل بعض
علماء الأزهر هذه المرة في الميدان، فكتب أفراد منهم مقالات في الرد، منها
اللطيف اللين في القول الذي لم يَسُؤْ المردود عليه، ومنها الشديد الوطأة الذي ساءه
وعدَّه ذمًّا وطعنًا، لا تخطئةً ونقدًا، وقد تبارت الأقلام في بيان حكمة الشرع
الإسلامي في إباحة التزوج بالكتابية دون تزويج الكتابي مسلمة، فأجادت، على أن
كل واحد مما اطلعنا عليه منها ترك لغير صاحبه في ذلك مقالاً.
وقد ذاكرني بعض علماء الدين وطلبة الأزهر وغيرهم في ذلك، ورغبوا إليَّ
أن أكتب في الرد ما يرجون أن يكون حزًّا في المفصل، وضربًا على الأكحل،
وأنا أعلم أن جميع قراء المنار ينتظرون ذلك مني، ولا يرون أنهم في حاجة إلى
الطلب والاقتراح لما تعوَّدوه من تتبُّع المنار لأمثال هذه المطاعن في دين الإسلام
الحق، وشرعه العدل، والرد عليها بما كانوا يعدونه القول الفصل، ولكنني لم
أبادر إلى الرد لعِلمي بأنه من فروض الكفاية التي تسقط بقيام بعض المسلمين بها،
وكنت أنتظر لأرى هل يتناول ما يكتبون جميع ما أرى أنه ينبغي أن يُكتَب، فأكون
في حِلٍّ من ترك الكتابة، فرأيت كل ما اطلعت عليه خِلْوًا من أهم ما أرى وجوب
البحث فيه، ورأى مثل هذا أفضل مَن كلمني في المسألة من أهل العلم والرأي،
ولا سيما بعد أن ذكرت له بعضه، فأعاد عليَّ ما بدأ من الاقتراح والرغبة، فوعدته
كما وعدت غيره.
***
مسألة التزوج بالكتابية وعدم تزويج الكتابي
إن أهون ما في مطالبة الحكومة المصرية بجعْل قانون الأحوال الشخصية
مدنيًّا لا دينيًّا - ذلك الاستدلال الضعيف على الحاجة إلى ذلك بدعوى عدم عدل
الشريعة في مسألة أو مسألتين من النكاح، فلو لم تُعرف حكمة للشريعة في الفرق
بين المسألتين تقتضي عدم تساوي الحكم فيهما - لما جاز للعاقل أن يعترض عليها،
ويَعُدَّها غير عادلة، ولا مساوية بين المسلم وغيره؛ لأن المساواة إنما تُطلب في
الأحكام المفروضة على متَّبِعي الشريعة والمتقاضين إلى حكامها، وهذه المسألة
خاصة بما يباح للمسلم، وما يحرم عليه في النكاح دينًا، وغير المسلم لا يُخاطَب
بالعمل بفروع الشريعة فيما يباح له، ويحظر عليه مما هو خاص به، لِتَساوٍ بينه
وبين المسلم فيه، وهي لا توجب على المسلم أن يتزوج كتابية، ولا تُلزم الكتابي
أن يزوجه ابنته إذا طلبها، ففي استطاعة الكتابي أن يكون مساويًا للمسلم إذا رأى
ذلك خيرًا له، بأن لا يزوجه.
على أن النص القطعي في القرآن إنما ورد بالنهي عن نكاح المشركات
وإنكاح المشركين، وبحل نكاح المحصنات من أهل الكتاب، ولم يصرح بتحريم
إنكاحهم، ولكن ذهب بعض الفقهاء إلى أن المشركين والمشركات في آية البقرة
يشمل أهل الكتاب، ثم جاءت آيه المائدة بحل نكاح الكتابيات، فكانت ناسخة أو
مخصصة لآية البقرة، والشيعة يحرمون نكاح الكتابية، والتحقيق أن المراد
بالمشركين والمشركات في الآية خاص بالعرب منهم، كما رُوي عن قتادة وغيره،
واختاره ابن جرير، وأن أهل الكتاب - وإن أُسند إليهم الشرك - فعنوان المشركين
عند إطلاقه لا يعمهم، ومن الفقهاء مَن يقول: إن العمدة في تحريم إنكاح غير
المسلمين أن الأصل في النكاح التحريم حتى يرد النص، ولم يرد إلا بالمؤمنة
والكتابية، ويمكن النزاع في هذا الأصل وأن يقال: إن الأصل في جميع عقود الناس
الصحة والحل حتى يرد شرع بخلاف ذلك، وأن يُستدل على ذلك بإقرار مَن يدخل
في الإسلام على نكاحه قبله، وبإقرار أهل الذمة على أنكحتهم، والحكم بمقتضى
ذلك عند تحاكُمهم إلينا وبقوله تعالى - بعد بيان محرمات النكاح من سورة النساء -:
{وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (النساء: ٢٤) ، وغرضنا من هذا أنه لو لم يكن
لدينا من الدلائل والحكم ما نؤيد به المسألة المعترَض عليها لكان لنا أن نقول: إن
الاعتراض لا يرد على أصل الشرع القطعي، بل على مسألة فرعية من مسائله،
اتفقت فيها المذاهب لسد ذريعة الفساد الذي سنبينه، وهو ما عُلل به النهي عن
مناكحة المشركين في النص، على ما بينهم وبين غيرهم من الفرق.
بل نقول: إن هؤلاء المتفرنجين - ولا سيما علماء القانون منهم - لو عرفوا
جميع ما يتعلق بهذه المسألة من الأحكام والحِكَم لعدّوها مما يفاخر به المسلمون جميع
أهل الملل والأديان بحرية الدين، وترغيبه في مودة غير المسلمين؛ فإن الإسلام قد
جاء لإصلاح ما أفسد البشر من دين الرسل ولتكميله وإتمامه، وقد كانت جميع الأمم
عند بعثة خاتم الرسل - صلى الله عليه وسلم - تحقر النساء، وتهضم حقوقهن،
فجاء الإسلام بالقاعدة العليا التي لا تعلوها - ولن تعلوها - قاعدة، وهي قوله:
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: ٢٢٨) ، أي
درجة الولاية ورياسة الأسرة، وكانت حرية الدين مفقودة عند جميع الملل، فجاء
بالقاعدة العليا فيها، وهي قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة: ٢٥٦) .
فالشريعة تفرض على المسلم - الذي يتزوج امرأة غير مسلمة - أن يسمح لها
بأداء عبادات دينها في الدار وفي المعبد كما تشاء، ولا يخشى أن تسمع منه تكذيبًا
لأصل كتابها، ولا للرسل الذين تؤمن بهم وتحبهم؛ لأنه يؤمن بذلك، فهو إذا
تزوجها، وأقام أحكام الشريعة، وحكَّمها فيها يكون ذلك الزواج من أكبر أسباب
التآلف والمودة بين الزوجين؛ لأن روح الزواج وسره الأدبي هو ما بيَّنه تعالى
بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً
وَرَحْمَةً} (الروم: ٢١) ، وقد يسري التآلف من الزوجين إلى عشائرهما وإلى
أقوامهما.
ولو تزوج غير المسلم بالمسلمة - وهو لا يَدين الله كالمسلم بحُرية الدين التي
توجب عليه أن يسمح لها بأداء واجبات دينها، وإقامة شعائره، ولا يدين الله
كالمسلم بمساواة النساء للرجال بالمعروف، فيما عدا تلك الدرجة فقط، ولا يُؤْمَن
أن يفتنها، وينطق أمامها بتكذيب كتابها ورسولها - لكان ذلك ظلمًا لها في دينها
ودنياها، وسببًا للضغائن والعداوة بين العشيرتين، وإذا تعدد يكون سببًا لانتشار
العداوة في أهل الملتين.
ولا يُعترض على هذا باختلاف أحوال الأمم، وكوْن الكثيرين من مسلمي
زماننا يظلمون النساء في دينهن ودنياهن، وكثير من غيرهم لا يظلمنهن ظلمهم،
بل يعاملوهن بما يرضيهن، فإن أحكام الدين موضوعة لمَن يتبعون الدين عن إيمان
وإذعان نفسي، وإلا فإن من الدعاة إلى هدم شريعة الإسلام مَن يسمون بأسماء
المسلمين، ويشاركونهم في جميع حقوق المسلم على المسلم من إرثٍ ووقف وزواج
وغير ذلك.
لا نطيل القول في هذه المسألة لما علم القارئ من أنها فرعية وثانوية في
موضوع البحث، ولما سبق لنا من القول فيها في التفسير والفتاوى؛ ولأن العلماء
الكرام الذين ردوا على مقترح مدنية القوانين - أحسنوا فيما كتبوا فيها، بل نكتفي
بهذه الكلمة، ونطيل بعض الإطالة في الأمر الأهم، والبلاء الأعظم، وهو الدعوة
إلى ترك الشريعة الإسلامية، ونبذها وراء الظهور، حتى في الأحكام الشخصية
التي تتعلق بما يدين المسلمون ربَّهم به، فيما يُحِلّ لهم، ويُحَرِّم عليهم في أمر
النساء والنسل والإرث، بحيث تكون حكومتهم مكرِهة لهم على ما يعتقدون أنه
محرم عليهم، وأنهم يعاقَبون عليه في الآخرة، وأن استحلاله كفر بالله وبكُتُبه
ورسله، وما في ذلك من الضرر على الأمة في دنياها التي هي أكبر هَمِّ هؤلاء
المتفرنجين.
غرض المتفرنجين والإفرنج من إبطال الشريعة:
هذا الفريق من المتفرنجين ربيب بعض ساسة الإفرنج الذين سَعَوْا لتحويل
حكومة مصر وغيرها عن أحكام الشريعة الإسلامية في المعاملات المالية،
والعقوبات وغيرها، واستبدال قوانينهم بها، فكان لنجاحهم تأثير عظيم في إضعاف
مقوماتنا المِلِّية بإعراضنا عن أصول التشريع الذي قامت به مدنيتنا العربية الزاهرة،
وعن تاريخ هذه المدنية، وعظماء رجال الشرع من أئمة مجتهدين وحكام عادلين،
فأصبحت الأمة بذلك مهينة في نفسها؛ لأنها لا تعرف لها سلفًا صالحًا تفخر به،
وتهتدي بهَدْيه في أشرف مقومات الأمم المدنية، وهو الشرع العادل، والحكومات
المعمرة، وحل محل احتقارها لنفسها تعظيم الأجانب الطامعين فيها، الساعين
لتقطيع جميع روابطها؛ ليسهل عليهم استعبادها.
وإن هؤلاء التلاميذ لَيعملون لأساتذتهم ما لا يستطيع أولئك الأساتذة أن يعملوه
بأنفسهم، وهم لا يشعرون أنهم يخدمون الأجانب، بل يحسبون أنهم يخدمون بلادهم
وأمتهم بالصعود إلى مستوى أولئك الأجانب في الحضارة، فإنهم لا يُتَّهمون كما يتهم
الأجنبي؛ لأن المسلمين يعدونهم منهم، وقلما يدعو أجنبي دعوة صريحة - في بلاد
إسلامية - إلى ترك أحكام الشريعة، بل هم يسيرون في حل الرابطة الإسلامية في
شعوب المسلمين من طريقين: (أحدهما) : تعليم المدارس الخاصة بهم كمدارس
دعاة النصرانية (المبشرين) في بلاد الإسلام، ومدارس بلادهم التي يرحل إليها
الطلاب المسلمون، ومدارس الحكومة التي يسيطرون عليها، ولهم في كل نوع
منها أسلوب خاص، (والطريق الثاني) : إقناع المتفرنجين من الأمراء والحكام
والكُتَّاب بوجوب الفصل بين الدين والحكومة، وبأن الشرع المبني على أصول
الدين لا يصلح لترقي البشر الدنيوي. وبأن الشرع الإسلامي قد وُضع لأمة بدوية
أو قريبة من البداوة؛ فلا ينطبق على مصالح الناس في هذا العصر، وبوجوب
توحيد قوانين الأمة، وجَعْلها موافِقةً لجميع أهل الأديان في الوطن الواحد ومساوية
بينهم.
وطالما كشفنا هذه الشبهات في المنار، وبيَّنَّا الحق فيها، وأنه لا يرد على
الشريعة الإسلامية شيء منها، وأنها شريعة مدنية عادلة مرنة تنطبق على مصالح
البشر في كل زمان ومكان، وأن ذنب إضاعتها على أهلها، ولا سيما علماء
أصولها وفروعها، وأنهم إذا ظلوا على جمودهم التقليدي فلا بد أن يضيعوا البقية
المعمول بها منها.
ونبدأ كلامنا هنا فيما كان من السعي لهذا الأمر من عهد السير سكوت المستشار
القضائي الإنجليزي المشهور، الذي اقترح إلغاء المحاكم الشرعية من مصر، إلى
هذا العهد الذي اقترح فيه بعض المصريين (مدنية القوانين) ، وقد كان فيما بينهما
صيحة منكرة لأحد وكلاء النيابة من المصريين هي شر من هذا الاقتراح،
للتصريح فيها بهدم جميع أصول الإسلام، وعمل هادئ قَبِله الرأي العام، ولم ينكره
غير المنار، وهو ما تشتغل به الحكومة بمساعدة العلماء من وضع قانون للأحكام
الشخصية مستمد من الكتب الفقهية، ثم نعود إلى تلك النظريات، فنبين الحق
فيها، وما يجب على المسلمين - ولا سيما علماء الدين -: من السعي له، ومن
مقاومة تيار الإلحاد بالوسائل التي يُرجَى نفعُها، والاجتهاد في إقناع الملاحدة
بحقِّية الدين من أقرب طريق إلى تربيتهم وأفكارهم، وإلا فبإقناعهم بأن الشريعة
الإسلامية عادلة، وأن من أصولها الثابتة دفع المفاسد، وحفظ المصالح العامة في
كل زمن بحسبه، وأنها تعين على الحضارة وعزة الأمة، ولا تعارضها، وبما في
المحافظة عليها من المنافع والمصالح السياسية والاجتماعية والأدبية، وبما في
إهمالها من المفاسد المقابِلة لهذه المصالح.
((يتبع بمقال تالٍ))