للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نظرية داروين والإسلام

جواب إشكال ألقيناه في نادي الخطابة لجمعية الشبان المسلمين بالقاهرة،
وكنت أردت أن أكتب في موضوعه محاضرة طويلة فلما لم أجد فراغًا لذلك،
اخترت نشره لأنه مفيد في موضوعه بالإجمال، وهذا نصه:
أعطاني أحد الشبان في الليلة التي تكلمت فيها على مسألة القدر في موقفي
على هذا المنبر ورقة وضعتها في جيب جبتي، ثم قرأتها بعد عدة أيام، إذ كنت
نسيتها فإذا فيها مقدمة فيما يسمى مذهب داروين يتلوها بضعة أسئلة يرى كاتبها أنها
من أقوى الحجج والبراهين القطعية الناقضة الهادمة لما عبَّر عنه (بنظرية الخلق
الإلهي) والحق المقرر عند علماء الكون المحققين من المتلقين لمذهب داروين
بالتسليم وغيرهم، أنه نظرية أو مجموع نظريات قابلة بذاتها للثبوت وللبطلان،
أي بصرف النظر عما يعارضها من نصوص الأديان المستندة عند أهلها على
أصول قطعية مؤيدة بالبراهين، ومن مذهب الروحانيين الذين لا يقتصرون في
تعليل أمور الخلق والتكوين على سننن المادة ونواميسها وحدها.
وأما خلق الله لكل شيء فليس مسألة نظرية إلا عند ملاحدة الماديين، وهم
شرذمة قليلة من مجموع الشعوب، والسواد الأعظم من علماء الكون والفلاسفة
وغيرهم من البارعين في جميع العلوم والفنون، ومن العوام السليمي الفطرة - يوقنون
بأن للعالم خالقًا عليمًا حكيمًا، ويقيمون على ذلك الدلائل العقلية والعلمية اليقينية،
والمِلِّيُون من أهل العلم والفلسفة يؤيدون بهذه الأدلة نصوص مللهم، وغير المليين
منهم وهم قليل فريقان: أحدهما ينكر بعض نصوص الأديان، والآخر لا يثبتها ولا
ينفيها، ومن هؤلاء عالم كبير من علماء الإنكليز نقل إلينا المقتطف عنه أنه سئل
قبل موته: هل يؤمن بالإله الخالق؟ فقال ما معناه: ليس عندي أدنى شك في وجود
إله للطبيعة؛ فإنه لا يمكن لعاقل أن ينظر في هذا الكون العظيم، وما فيه من دقائق
النظام وعجائب الإبداع ويعتقد أنه وُجد بالمصادفة، أو أنه يستند إلى مبدأ ضرورة،
فالمعقول الذي لا أعقل غيره أن للطبيعة - مادتها وقواها - خالقًا قادرًا ذا علم
وحكمة - وربما قال: عاقلاً - وأما إله الكنيسة فليس عندي ما يثبته ولا ما ينفيه
اهـ.
ولقد سبق هذا العالم الإنكليزي إلى مثل كلمته في إثبات وجود الخالق عالم من
كبار علماء الكلام في الإسلام، لا أذكر الآن أهو النسفي صاحب العقائد المشهورة أو
غيره؟ قال: اتفق البشر على الإيمان بوجود صانع خالق للعالم ما عدا شرذمة قليلة
ذهبت إلى أن وجود العالم أمر اتفاقي، وهو - أي زعمهم هذا - بديهي البطلان.
وقد انقسم علماء الغرب في نظرية داروين إلى أنصار يؤيدونها بمقالاتهم
ومصنفاتهم بمعنى أنها أقرب ما وصل إليه علم البشر من التعليل المعقول لاختلاف
الأنواع ونظام الخلق، لا بمعنى أنها حقائق قطعية كالقواعد الرياضية لا يمكن
نقضها، وكم نقض تقدم العلوم نظريات كانت مسلَّمة مثلها لأنها كانت أقرب ما
عُرف في موضوعها إلى العقل - وإلى خصوم يردون عليها ويوردون الشكوك
والاحتمالات في أصولها وفروعها، وقد كان الرجحان العلمي لأنصارها إلى عهد
قريب، إذ دخل العلم المادي في طور جديد، واتسعت دائرة علم النفس، وكثر أنصار
الروحيين الذين يثبتون بالاختبار ما أثبتته جميع الأديان من أقدم عصور
التاريخ، من أن للبشر أرواحًا مستقلة لها أعظم التأثير في خلقهم وتكوينهم وعلومهم
وأعمالهم.
إنني بعد قراءة تلك الورقة ذكرت هذه المسألة في أول مرة حضرت هذا
النادي، فلخصت المسألة وذكرت بالإجمال الموجز رأي علماء المسلمين فيها،
وصرحت بأنني مستعد لإلقاء محاضرة مفصَّلة فيها، فكان أن إدارة جمعية الشبان
المسلمين جعلت هذه الليلة موعدًا للمحاضرة بدون استشارتي، وطبعت ذلك وآذنتني
به أول من أمس، وأنا في شغل شاغل عن المراجعة والتفكر في الموضوع، وعن
كتابة ما ينبغي فيه؛ لأنه ليس من الموضوعات التي يكفي فيها الجواب عن الأسئلة
التي كتبها صاحب الورقة، والجواب عنها في غاية السهولة، بل هنالك أصول
وفروع تتعلق بها أهم من تلك الأسئلة أرى أن شبابنا في أشد الحاجة إلى تمحيصها،
ولما أجد فراغًا في هذين اليومين لكتابة محاضرة حافلة كاملة؛ لذلك رأيت أن
أكتفي الليلة بذكر نص الورقة المشار إليها، والأجوبة عن أسئلتها بالإجمال، وما لا
يدرك كله لا يترك قله.
نص الورقة
(لقد غفل المسلمون واستهتروا بدينهم حتى تركوا الملحدين يأخذون منه
مآربهم، وينالون منه ويتطاولون عليه بحججهم الناصعة الواضحة القوية يريدون
هدم صرحه، أولئك الذين غفل عنهم المسلمون وتركوهم يعملون بنشاط حتى تغلبوا
على الإسلام؛ وذلك مما دفعني لأن أقف موقفي هذا راجيًا من حضرة الأستاذ أن
يُدلي بواضح حججه وبيانه مجيبًا على ما سأقدمه من الأسئلة، ولا أريد تخلصًا من
الإجابة فقد تخلص مني الكثيرون لقلة اطلاعهم) .
(هنالك نظرية علمية حديثة ظهرت في القرن الماضي وشاعت الآن في
جميع أنحاء العالم لما لها من حجج وأدلة لا يمكن أن يخطئها أحد، تلك هي نظرية
التطور التي تقول: إن جميع الأجناس ترجع إلى أصل واحد، قامت هذه النظرية
وناقضت نظريتنا وهي نظرية (الخلق الإلهي)
(١) هل خلق الله جميع الكائنات في عصر واحد أم استمرت عمليته إلى
عصور متفاوتة؟ وهل لا يزال الخلق مستمرًّا؟
(٢) ما معنى وجود حفريات جيولوجية مشابهة لحيوانات موجودة الآن مثل
(أوفبوس) Evobeppus التي تشبه الحصان، والهومتدرتال التي تشبه الإنسان
الحالي؟ وهل هناك صلة ما بين هذا الحصان مثلاً والحيوان الذي يشبهه مثل
الصلة بين الحصان والبغل؟
(٣) ما معنى وجود أعضاء في جسم الحيوان أو النبات لا وظيفة لها مطلقًا،
بل قد تكون هذه الأعضاء مضرة في الإنسان أكثر مما تفيده؟
(٤) ما معنى قدرة بعض الناس على حركة آذانهم وعجز الآخرين عن ذلك؟
(٥) ما فائدة العضلات الصغيرة التي في نهاية الشعر؟
(٦) لماذا يمر الجنين بأطور مختلفة من الحياة: تراه في حداثته جرثومة،
ثم يصير مثل الأسماك، ثم مثل الزواحف.. إلى أن يصل إلى شكله النهائي؟
وهل هذا يدل على أن هناك علاقة بين الإنسان وتلك الحياة التي مر بها الجنين؟
وإن صح ذلك كان هذا أقطع دليل على صحة نظرية التطور. اهـ بحروفه.
إنني قبل الجواب أنصح لإخواني وأبنائي في السن من السامعين - على حفظي
لدرجاتهم في العلم والفضل - أن يكون غرضهم من السماع لما أقوله هو التعاون بيني
وبينهم فيما أوتينا من علم وبيان على تحقيق ما بين هذه النظرية، وما بين نصوص
ديننا من خلاف ووفاق على قاعدتنا التي نقررها دائمًا، وهي أن من معجزات
الإسلام أنه قد جاء به نبي أمي مر على بعثته ١٣ قرنًا ونصف، ولم تقم حقيقة
علمية قطعية تنقض نصًّا من نصوصه القطعية، ولا تنفي أصلاً من أصوله
الاعتقادية، وإياكم ثم إياكم أن تعدوا الكلام الذي ألقيه من قبيل المناظرات العلمية أو
المذهبية بين خصمين يكون هم كل منهما الظهور على خصمه، وتتبع عثراته
ومؤاخذته في تقصيره، وسيعلم من لم يكن يعلم أنه ليس بين نظرية الخلق
التدريجي ونصوص الإسلام تعارض حقيقي، كما يوجد بينها وبين نصوص التوراة،
وأن اليهود والنصارى الذين يدينون لله تعالى بقداسة التوراة لم يكبروا أمر هذه
النظريات ودلائلها كما كبرها حضرة الفاضل الذي كتب هذه الورقة، ولا عدُّوها
قطعية ولا أبطلت ثقتهم بالتوراة.
ولعله ما كبَّرها هذا التكبير إلا لحفز الهمة للعناية بها وإقامة الحجج البالغة
على تأييد الدين الذي هو مناط سعادتنا في الدنيا والآخرة، بعد هذا أقول:
(أولاً) إن الملحدين لم ينالوا من المسلمين ما نالوا (بحججهم الناصعة
الواضحة القوية) كما قال، بل لأنهم يتلقون الكفر عنهم قبل أن يعرفوا الإسلام
معرفة صحيحة، وبدون أن يتربوا عليه تربية عملية تغذي المعرفة الصحيحة،
فمنهم من يتعلم ويتربى في مدارس دعاة النصرانية التي أُسست لأجل هدم الإسلام
وتحويل أهله عنه إلى النصرانية أو إلى الإلحاد، وقد قال موسيو جول سيكار
الفرنسي في كتابه الحديث (العالم الإسلامي في الممتلكات الفرنسية) ما معناه أن
المسلم يتعذر أن يتحول عن الإسلام إلى النصرانية، فالطريقة المثلى لتنصير
المسلمين إيقاعهم في الإلحاد والتعطيل أولاً؛ حتى إذا ما أصبحوا بغير دين وزال ما
للقرآن من السلطان على عقولهم سهل حينئذ تنصيرهم؛ لأن البشر لا يستطيعون
أن يعيشوا بغير دين.
ومنهم من يتعلم في المدارس المصرية وأمثلها مدارس وزارة المعارف،
وليس فيها من التربية الدينية شيء حتى أن الصلاة لا تُقام فيها، وقد قل من يصلي
فيها حتى أن الذين يناط بهم تعليم الدين فيها وهم خريجو مدرسة دار العلوم صاروا
يتركون الصلاة إلا قليلاً، ولا سيما الذين استبدلوا الزي الإفرنجي بالعمامة والجبة
والقباء.
(ثانيًا) إن الملاحدة ما تغلبوا على الإسلام كما قال، وإنما تغلبوا على
بعض التلاميذ والأحداث من المسلمين الجغرافيين، فانتزعوهم من حظيرة الملية
الإسلامية لما لهم في هذا من المقاصد الدينية والسياسية التي يجهلها هؤلاء التلاميذ
وآباؤهم الأغبياء.
(ثالثًا) إن قوله: إن الحجج والأدلة على نظرية التطور لا يمكن أن يخطِّئها
أحد، مخالف للواقع، فقد خطَّأها كثيرون بحق وبغير حق.
الأجوبة المجملة عن أسئلته
أما السؤال الأول فجوابه أن النصوص تدل على أن الله تعالى خلق الخلق
بالتدريج على نظام مقدر في علمه، مثاله أن الله تعالى قال في سورة الانبياء {أَوَ
لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ
شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء: ٣٠) الرؤية هنا علمية معناها أو لم يعلموا، والرتق المادة
المتصل بعضها ببعض، وهي التي عبَّر عنها في سورة فصلت بالدخان، وهو اسم
للمادة الرقيقة الخفيفة التي دون الماء ومنها بخار الماء ودخان النار وغيره مما
يسمى في الاصطلاح العلمي بالسديم والغاز، ومنه قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي
السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الدخان: ١٠-١١) .
والفتق هو الفصل بين أجزاء المادة، فهذه الآية توافق رأي علماء الكون في
هذا العصر كما هو ظاهر، ولم يكن رأيهم هذا مما يخطر في بال أحد من العرب
الأميين، ولا من غيرهم في ذلك العصر، وهي جديرة بأن تُعَدَّ من معجزات القرآن
العلمية عند الذين استنبطوا هذا الرأي من مباحث علمية دقيقة بعد بطلان نظرية
قدماء علماء الهيئة من اليونان وغيرهم.
وقد أخبر تعالى في آيات كثيرة بأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام،
وفي بعضها زيادة {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ} (هود: ٧) واليوم في اللغة
العربية هو الزمن الذي يُعرف أو يُحد بوقوع شيء فيه طال أو قصر، وقد قال الله
تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج: ٤٧) وقال:
{تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (المعارج:
٤) ومنه أيام العرب المشهورة في وقائعهم وحروبهم كيوم ذي قار ويوم أوارات ...
إلخ، فالمراد بأيام خلق السموات والأرض عصور تم في كل عصر منها طور من
أطوار خلقها وقد فصلت بعض التفصيل في سورة فصلت، وهذه الآيات تتفق مع
مذهب النشوء دون نص التوراة الذي أذكره إن شاء الله في البحث التفصيلي إن قُدِّر
لي كتابة محاضرة فيه. ويقول الله تعالى في خلق الإنسان: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ
مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ} (المؤمنون: ١٢) وقال: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح:
١٤) فهو تعالى لا يزال خلاقًا عليمًا حكيمًا.
وأما السؤال الثاني فجوابي عنه أنني لا أعلم سبب التشابه بين الحيوانات
الجيولوجية بعضها مع بعض ولا مشابهة بعضها لبعض الحيوانات الباقية، كما
أنني لا أعلم سبب التشابه بين الحيوانات التي لم يوجد ما يدل على وجودها في
عصور طبقات الأرض القديمة، وسبب التشابه بين النبات الذي من فصيلة واحدة
أو فصائل مختلفة كالتشابه بين ورق الزيتون وورق الرمان، ومذهب داروين في
تعليل أمثال هذا التشابه لا يقوم دليل قطعي ولا قريب من القطعي على صحته،
وإن كان أكثر ما فيه من تعليل يعد إلى الآن أقرب من غيره إلى إثبات حكمة الله
تعالى في نظام خلقه، وإذا فرضنا وصوله إلى درجة اليقين لم يكن ناقضًا لنص من
نصوص الدين القطعية ما دام لا ينافي كون الله هو الخالق لذلك بهذا النظام.
وإنه ليوجد بين بعض الجماد وبعض النبات من التشابه، وبين بعض النبات
وبعض الحيوان من التناسب ما تحار العقول في سببه، ويمكن استنباط أسئلة
لا تحصى من هذه الأمور لا يمكن الجواب العلمي عنها {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ
قَلِيلاً} (الإسراء: ٨٥) .
ومما يقال فيه على غير طريقة داروين: إن الخالق الحكيم المختار جعل من
آيات النظام في خلقه هذا التشابه وهذا الاختلاف بين أنواع المخلوقات، وجعلها
درجات بعضها أعلى من بعض في الأجناس والأنواع الدنيا والوسطى والعليا
تشترك في بعض مقوماتها ومشخصاتها، وتختلف بالفصول التي تميز بعضها من
بعض كما يقول علماء المنطق، وقد قال بعض علمائنا من قبل وجود داروين: إن
المخلوقات في جملتها من جماد ونبات وحيوان وإنسان ومَلَك تقوم بنظام متناسب ذو
درجات ترتقي من الأدنى إلى الأعلى، فأعلى أفق الجماد يتصل بأدنى أفق النبات،
وأعلى أفق النبات يتصل بأدنى أفق الحيوان، وأعلى أفق الحيوان يتصل بأدنى أفق
الإنسان، وأعلى أفق الإنسان يتصل بأفق الملائكة الذين هم الواسطة بين الخالق
تعالى وبين عباده في الخلق والأمر؛ ولكن هذا التشابه والتناسب بين هذه الدرجات
لا يقتضي أن يكون بعضها قد تحول عن بعض؛ وإنما تقتضي هذه الوحدة في نظام
الوجود أن يكون صادرًا عن خالق واحد عليم حكيم {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن
تَفَاوُتٍ} (الملك: ٣) .
وأما الجواب عن السؤال الثالث، وهو: ما معنى وجود أعضاء في أجسام
الأحياء ليس لها وظيفة؟ فأقول فيه أولاً: إن عدم علمنا إلى اليوم بأنه ليس لها
وظيفة ولا فائدة لا يقتضي عدم وجود ذلك وإمكان الوقوف عليه في وقت من
الأوقات، وأن يكون غير قول داروين بأنها أعضاء أثرية، وقد كان مجهولاً إلى
القرن الماضي، وثانيًا أن العلم بسبب وجود هذه الأعضاء وحكمتها ليس من علم
الدين الذي يُسئل مثلي عنه، وإني لأعلم مما أقرأ من مباحث علماء الكون في
الكتب والصحف أنهم يعترفون بأن ما يجهلون من أسرار هذه الموجودات أضعاف
أضعاف ما علموا منها، وأنهم كلما ازدادوا علمًا بكشف شيء جديد منها علموا من
جهلهم ما لم يكونوا يعلمون، كما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه:
كلما أدبني الدهـ ... ـر أراني نقص عقلي
وإذا ما ازددت علمًا ... زادني علمًا بجهلي
ويعجبني قول الدكتور يعقوب صروف في مقالة له في أعجب ما وصل إليه
علماء العصر من عجائب علم الفلك وغيره، أنهم لا يزالون مع هذا يجهلون كنه
حبة الرمل، ومخ النمل، علم واسع وجهل مطبق، يدل على سعة علم الخالق عز
وجل.
(وثالثا) يقولون: إنها كانت أعضاء تؤدي وظيفتها في طور من أطوار
الحياة للحاجة إليها فيه، ثم زالت هذه الحاجة فزالت الوظيفة كما يقولون في المِعى
الذي لا يهضم إلا النبات، وهذا - وإن صح - لا ينقض عقيدة من عقائد الإسلام،
ولا يعارض نصًّا من نصوصه القطعية، كما أنه ليس برهانًا قطعيًّا على تحول نوع
من أنواع الحيوان إلى آخر، ولا سيما الإنسان الذي هو سيد عوالم هذه الأرض،
وإن دارون وأمثاله من العلماء الذين عرفوا كثيرًا من أسرار خلقته الجسدية
الحيوانية، قد جهلوا ما هو أعظم منها من أسرار حياته الروحية والعقلية، وكذا
مزية النطق التي عدَّها الحكماء الأولون هي الفصل الظاهر المميز له على جميع
الحيوانات حتى القريبة الشبه الحيواني منه، ويصدق عليهم قول المتنبي في الخيل:
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيب
وأما الجواب عن السؤال الرابع، وهو: ما معنى قدرة بعض الناس على تحريك
آذانهم دون بعض؟ فجوابه أن معناه أنه يوجد في الناس من يتمرنون على تحريك
بعض أعضائهم بأعمال بما يعجز عنها من لم يتفق له ذلك، والأقرب أن مسألة
تحريك الآذان من هذا القبيل، وقد يكون سبب سهولته على بعض الناس دون
بعض أن بعض أجدادهم كانوا يعيشون عيشة يحتاجون فيها إلى إصغاء شديد يؤثر
في الأذن. والاستدلال به على كون الإنسان كان حمارًا أو حصانًا أو قردًا، ثم صار
إنسانًا، وقد بقيت في بعضه هذه المزية من مزايا أصوله السابقة - استدلال ضعيف
وسخيف، فإذا لم تصل تلك التعليلات المعقولة في نفسها والمبينة من نظام الكون
وحكمة الخالق فيه ما ليس في غيرها إلى كونها دليلاً على نظرية التحول، فهل
يصح أن تدعم بتحريك بعض الناس لأذنيه؟ ولماذا لم يكن هذا التحريك عامًّا إذا
كان سببه ما ذكر؟ وإنني لما علمت بهذه المسألة منذ سنين كثيرة حاولت أن أمرن
أذني على الحركة، فصعب علي ذلك؛ ولكنني كررت المحاولة فحركتهما.
وأما جواب السؤال الخامس عن فائدة العضلات الصغيرة التي في نهاية الشعر
فهو ما قاله بعض أئمة سلفنا: من قال لا أدري فقد أفتى، وإنني لست من علماء
هذا الشأن، وقد قلت فيهم ما نقلته عن جمهورهم من أن ما يجهلون من أسرار خلق
الإنسان وغيره حتى حشرتي النمل والنحل أضعاف ما يعلمون؛ ولكن من استطاع
أن يقيم لي من جوابه عن هذا السؤال حجة أو شبهة على بطلان نص من نصوص
كتاب الله؛ فإنه يجدني مستعدًّا لدحض حجته، أو بطلان شبهته، إن شاء الله تعالى.