للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


شكوى الأمهات من تربية البنات

لما نشر (المُقَطَّم) شكوى نساء الإنكليز من تربية بناتهن في هذا العصر
طلب أن يعرف رأي الأمهات في بناتهن في مصر فكتب إليه من بعضهن الشكوى
في إثر الشكوى من سوء حال تربية البنات المتعلمات وكونهن لا يحفلن بغير اللهو
والزينة والعزف بالبيانو ونحو ذلك من التُّرَّهَات، ولم تصادف هذه الشكوى أقل
اهتمام من البنات ولا دفاع عن أنفسهن، وقد توالى الحث عليهن من المقطم وكثر
الترغيب حتى جاءه رسالتان من بلدين قال أنه لم يرد منهما شكاوى من الأمهات،
إحداهما بإمضاء (ابنة قبطية) والثانية بإمضاء (ابنة شاكرة) وفحوى الرسالتين
واحد وهو أن الذنب في كل ما تشكو منه الأمهات عليهن وعلى الآباء في عدم
العناية بتربية البنات والاعتراف بأن التعليم لا يغني عن التربية شيئًا وإن كان في
نفسه نافعًا.
ولا يزال المقطم يثير كوامن الرغبات، ويحرك سواكن همم البنات، ونظن
أنه إذا نُثلت الكمائن، وبُعثرت الدفائن، وفار فى الجدل التنّور، وحُصِّلَ ما في
الصدور؛ فإنه لا يكتب في الجرائد شيء يخرج عن معنى ما كتب إلا أن تفتخر
بنت بأنها أصلحت من بيت أبيها ما كان فاسدًا، ونظمت ما كان مختلاً! أو تفتخر
أم بأن بنتها كذلك! وسواء كتب هذا أو بقي الفريقان متفقين على سوء تربية البنات،
وعلى كون الذنب في ذلك على الآباء والأمهات، فإن الحقيقة في مجموع الشعب
المصري لا تظهر بمثل هذه الرسائل لا سيّما مع الظن الراجح بأن أكثر صواحبها
من السوريات ثم من القبط، والسوريات لهن أخلاق وراثية وعادات تقليدية ليست
للمصريات وإن كانت هجرتهن إلى مصر من زمن بعيد وتربى بناتهن في مصر
وتعلمن فيها، وأما نساء القبط وبناتهن فيشاركن المسلمات المصريات في بعض
الشؤون ويفارقهن في بعضها ومسافة الخُلْف في المتعلمات من الطائفتين أوسع فإن
القبطيات المتعلمات يمزقن الحجاب ويحضرن مجالس الرجال في زينتهن كنساء
الإفرنج بلا فرق، فلا بد أن يكون لذلك أثر في سيرتهن لا يُعرف في المسلمات
اللواتي هن أكثر أهل البلاد.
ويوجد سبب آخر للخلف حتى في بنات الطائفة الواحدة وهو اختلاف معاهد
التعليم فإن من البنات المتعلمات مَن تعلمت في مدارس الحكومة ومنهن من تعلمت
في مدارس الجِزْوِيت أو الفِرِير ومنهن من تعلمت في مدارس البروتستانت
الأمريكان أو غيرهم ومنهن من تعلمت في المدارس الأهلية الإسلامية أو القبطية.
ولكل نوع من هذه المدارس تأثير خاص في نفوس من يتعلم فيها يحدث خلفًا كبيرًا
في الأخلاق والعادات والرغبات.
انظر إلى هذه الفصول بين طبقات الأمة المصرية هل تجد مثلها في إنكلترا
التي يحاولون في هذا المقام أن يسلكوا طريقها في اختبار حال البيوت ومعرفة تأثير
التربية في البنات. الأمة هنالك واحدة، وللمدارس طريقة واحدة وللتربية العامة
نظام واحد، فإذا شكا بعض النساء الإنكليز من تربية بناتهن فلك أن تعتبر شكواهن
ميزانًا للتربية في الأمة وأن تقول إن ما يصدق على هؤلاء يصدق على مَن في
طبقتهن فإذا رأيت الشكوى من جميع الطبقات فلك أن تحكم على الأمة في مجموعها
بما تضمنته الشكوى؛ حتى إذا استثني بعض الأفراد كان ذلك لأسباب خاصة فإن
القواعد الاجتماعية لا تستغرق جميع أفراد الأمم والشذوذ فيها مطَّرد.
إذا سألنا عن حال البنات المتعلمات في البيوت هل هُنَّ قرة عين لأمهاتهن أم
لا، فلا بد لنا من معرفة الجواب عن ذلك من الرجال المتعلمين المختبرين، والذي
يقرب من النظر ويؤيده الخبر أنَّ تعلّم البنات في مصر سطحي كما يقولون وأنه
عندهن ضرب من ضروب الزينة فهو في الغالب يشغلهن عن مساعدة أمهاتهن على
تدبير المنزل وخدمة البيت ومنهن مَن يعتقد أنهن أرفع منزلة من ذلك.
أما حال الأمهات معهن فيختلف باختلاف الطبقات، فالبيوت الغنية يرضى
الأمهات فيها أن يرين بناتهن مشغولات بالزينة في جميع الأوقات وأن يكنَّ ممتازات
بمعرفة ما لا يعرفه سائر البنات: من إتقان اللغات الأجنبية وإحسان العزف بالبيانو
والتفنن في بدع الزينة ويعتقدن أن هذه المزايا هي المُرَغِّبَات الكبرى لمريدي
الزواج، والأسباب الصحيحة للمسرّة والابتهاج!
وأما البيوت التي يحتاج فيها لمساعدة البنات، والتي يعسر على أصحابها
موافاة رغباتهن الجديدة التي أحدثها التعليم الجديد فلا شك أن الأمهات فيها يتبرَّمن
من تقصير البنات في مساعدتهن على تدبير المنزل وتربية الأطفال ولكنهن يكتمن
ذلك في الغالب ولا يبدينه إلا لمن يسهل عليهن إِطْلاعَهُ على عوراتهن، ووقوفه
على مساويهن.
اعتذر بعض الرجال عن البنات بمثل ما اعتذر به الكاتبتان صاحبتا الرسالتين
في المقطم بأن الذنب على الوالدين لا على البنات، فإنهما يعلمان بناتهما إلا أنهما لا
يربيانهن. وحسن الحال في المعيشة، وكل أعمال الحياة يتوقف على التربية أكثر
من توقفه على التعليم لا سيما تعليم المدارس الذي أكثره فيما لا عمل فيه؛ إذ
بالتربية يكون تمرين الأعضاء على العمل، وبالتربية تتكون الأخلاق والعادات
الحاكمة على الإرادة. والإرادة هي التي تنفّذ ما يقضي به العلم ويظهر وجه
المصلحة فيه فمن لا تربية له لا ينفعه علمه الذي تعلمه في مدرسة العلم ولا علمه
الذي تعلمه في مدرسة الوجود، لأن العلم عنده يكون صورًا خيالية تلوح في ذهنه ثم
تغيب.
وأقول: إن هذا العذر على صحته لم يصب موقعه من تبرئة البنات المتعلمات؛
لأن القصد من تعليمهن إصلاح البيوت التي أفسدها جهل أمهاتهن فإذا كان علم
المدرسة يفيد البنت الكسل، ويزيدها إعراضًا عن العمل، ويُبَغِّضُ إليها عادات أهلها
وقومها، نافعة كانت أو ضارة ويحبب إليها تقليد قوم آخرين في الزينة والترف وإن
أعجز الوصول إليهما أباها وأمها - فلا شك أن هذا التعليم سم قاتل، وبلاء نازل،
وأن تركه واجب ومقاومته ضربة لازب.
السبب الحقيقي في سوء حال البنات المتعلمات وسوء حال غير المتعلمات هو-
كما قيل - سوء التربية العامة أو ترك التربية الصحيحة النافعة، ولكن أليس من
الضروري أن يكون سوء الأخلاق الذميمة، وفتك العادات الرديئة، أقل تأثيرًا في
نفس المتعلمة منه في نفس غيرها؟ أليست فائدة العلم الكبرى مساعدة التربية لأن
المتعلم يحكم على ما عليه الناس بغير ما يحكم به الجاهل فيميز بين الضار والنافع
والصالح والفاسد أليس التعلم هو تربية للعقل الذي هو أفضل القوى النفسية، فإذا
امتازت البنت على أمِّها بالعقل وصحة الحكم على الأمر، وعرفت من الحقوق ما
لا تعرف، وساوتها في ضعف الإرادة والخضوع لسلطان العادة، أليس من المعقول
أن يتنازع ما به الامتياز وما به التساوي فيقوى هذا تارة وهذا تارة ويكون ترجيح
العقل فيما غلب فيه مبدأ دخول الإصلاح المطلوب؟
بلى؛ إن إصلاح حال الأمم يجري في هذه السبيل ولو كان التعليم في هذه
البلاد يقصد به إلى إصلاحها لارتقت في الأخلاق والأعمال كما ارتقت في التعليم
على أكثر بلاد المشرق. والأمر بخلاف ذلك فإن أخلاق الناس في كل بلاد نعرفها
أرقى من أخلاق أهل هذه البلاد كما أن عاداتهم أمثل من عاداتهم، على أن التعليم
هنا أكثر انتشارًا منه في تلك البلاد التي نعنيها، والمصريون الذين سافروا إلى تلك
البلاد يعرفون هذا وينطقون به؛ وأعجب من هذا أن أكثر الفساد والفجور لم ينتشر
في أكناف هذه البلاد ويتغلغل في أحشائها إلا بالمتعلمين، فكأنهم لم يتعلموا لأجل
العمل إلا شرب الخمور ولعب الميسر والتفنن في الزينة والانغماس في الشهوة
البهيمية حاشا نفرًا يعدّون على الأنامل هم الذين أفادهم العلم وحدهم من ألوف
المتعلمين.
السبب في هذا أن العلم الذي يعلم في المدارس المصرية - سواء كانت
للحكومة أو للأجانب أو للأهلين - لم يُقصد به إلى إصلاح النفوس وارتقائها وجعل
المصريين سعداء أعزاء، فإن مثل هذا القصد لا يأتي إلا ممن يغارون على الأمة
ويرون سعادتهم بسعادتها وعزهم بعزها، ورؤساء الحكومة المصرية ليسوا كذلك،
والجِزْوِيت والفرير والأمريكان ليسوا كذلك، ومنشئو المدارس الأهلية كان يجب أن
يكونوا كذلك؛ ولكنهم ليسوا كذلك وهذا شيء يعرفه كل أهل البصيرة في مصر
وربما نشرحه في مقالة أخرى.
تبين من هذا أن قلة استفادة البنات من التعليم سببها أنه لم يقصد به إصلاحهن
ولا إعدادهن لإصلاح بيوتهن فإن هذا التعليم جاء من الإفرنج وزمامه بأيديهم في
مدارسهم ومدارس الحكومة التي هم قُوَّام عليها (والمدارس الأهلية مُقلَّدة لهذه
المدارس تقليدًا أعمى أصم) وإنما يقصد الإفرنج جذب نساء هذه البلاد إلى النطق
بلغاتهم، والتزيِّي بأزياء نسائهم، واستحسان عادات قومهم وتعظيم شؤونهم،
ليقبضوا من صدور الأمة حب جنسها ووطنها ويقطعوا جميع روابطها المالية فتكون
طعمة لهم. ومَن تراه انتفع بتعليمهم من ذكر وأثنى وصَلُحَ حاله فاعلم أن ذلك كان
بمعونة استعداد فطري عظيم وتربية محمودة وتوفيق إلهي أمام ذلك ووراءه.
والنتيجة أنه لا يرجى أن نستفيد من تعليم البنات ولا تعليم الذكور ما يصلح
به شأننا وترتقي به أمتنا إلا إذا وُجِدَتْ عندنا مدارس يتولى إدارتها رجال يهمُّهم
إصلاح الأمة وإعلاء شأنها. وقد وُفق القبط إلى هذا أكثر مما وفق المسلمون، فإذا
نهضت بهؤلاء الهمة إلى إنشاء مدرسة كلية تناط إداراتها برجال الجمعية الخيرية
الذين أثبتوا لنا بثباتهم على خدمة الأمة أنهم خير رجالها - فبشرهم بالنجاح العاجل،
والخير الآجل، وإلا كانوا على خطر عظيم ربما لا يتنبهون له إلا بعد فوت
الفرصة، ووقوع الغصة، والأمر لله العلي الكبير.