النبذة الثانية الجهاد في الإسلام كان للضرورة. الميل للعلوم والفنون استفاده العرب من القرآن. زيغ العقيدة ليس من لوازم العلوم الطبيعية. فساد الأخلاق والأعمال ليس من لوازم الفقه. الخلاصة أن مدنية العرب من دينهم. كان أول أثر للإسلام في العرب جمع كلمتهم وتكوين وحدتهم وتأليف قلوبهم , وهذه هي الغاية القصوى من المدنية التي من شأنها ألا تحصل إلا بعد ما تقضي الأمة زمنًا طويلاً في مزاولة تعميم التربية والتعليم , ومن هنا نقول: إن الوحدة العربية لأول عهدها كانت بإمداد سماويّ وعناية إلهية لا بسياسة القيّم الكسبية وبراعة الداعي الطبيعية , ولذلك قال تعالى مخاطبًا النبي عليه الصلاة والسلام: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (الأنفال: ٦٣) ولقد حسدتهم الأمم على هذه النعمة , وناوأتهم الشعوب للاختلاف في الدين فاضطروا إلى المدافعة , ثم أُمروا بالدعوة بالتي هي أحسن فقابلهم المدعوون بالتي هي أسوأ لما كانت عليه جميع الأمم لذلك العهد من الفساد والإفساد والبغي في الأرض بغير الحق فاضطروا لمكافحتهم وكتب الله لهم النصر {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: ٤٠) ثم كان لهم ولوع بالفتوح وهي سنة الكون: العالِم يستولي على الجاهل , والضعيف ذو الإصلاح يغلب القوي ذا الإفساد. فلما تمكنوا في الأرض وأمنوا المناصبة والمواثبة؛ ظهر فيهم الميل إلى ما يرشد إليه القرآن من النظر في ملكوت السموات والأرض ورغبوا في الكمال في هذا النظر؛ فاهتدوا بذلك إلى الاستعانة بعلم من كان قبلهم فترجموا الكتب اليونانية وغيرها وصححوا غلطها وزادوا عليها ما شاء الله أن يزيدوا كما سيأتي تفصيله. يظن بعض الجاهلين أن الميل في العرب إلى العلوم الرياضية والطبيعية كان من طبيعة الملك والعمران لا من إرشاد السنة والقرآن , ويتهم بعضهم المسلمين بأنهم هم الذين أحرقوا مكتبة الإسكندرية اكتفاءً بالدين عن كل ما عداه. وقد جاءوا بقولهم هذا ظلمًا وزورًا. فإن ما ورد في القرآن من الحث على النظر في ملكوت السموات والأرض والانتفاع بكل ما يمكن الانتفاع به من هذه الخليقة هو أكثر مما ورد في أحكام الصلاة والصيام أو أي عبادة أخرى. ومن هؤلاء الجاهلين من يزعم أن العلم الذي كثر الترغيب فيه في هذا الكتاب العزيز إنما هو علم الأحكام الفقهية , ولكن حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى قال: إن أفضل العلوم العلم بالله تعالى وبسننه في خلقه , وإنما كمال العلم بالله تعالى تابع لكمال العلم بأسرار صنعه وإبداع خلقته وتدخل في هذا جميع العلوم الطبيعية , واتلُ عليهم إن شئت قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر: ٢٧-٢٨) فذِكر العلماء بهذه المنقبة الجليلة بعد الاستلفات إلى إنزال المطر وإخراج الثمرات به وإلى اختلاف ألوان الجماد والحيوان والإنسان - يدل على أن المراد بالعلم الذي يورث الخشية هو العلم بهذه المخلوقات من جماد ونبات وحيوان التي لها في هذا العصر أسماء كثيرة منها: التاريخ الطبيعي والجيولوجيا والجغرافيا الطبيعية والنبات وغير ذلك. فإن قيل: إننا نرى المشتغلين بهذه العلوم لهذا العهد لا توجد عندهم خشية الله تعالى، بل يقال: إن منهم من ينكر وجوده سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرا. فالجواب أن المشتغلين بالعلم الذين يسمونه فقهًا ربما كانوا أبعد من هؤلاء عن الخشية، فإن هؤلاء المتفقهة اتخذوا الدين حيلة للكسب وأحبولة لصيد الحطام يحتالون على الله , ويعلمون الناس الحيل لأكل الحقوق , وقد فشا فيهم الكذب والخيانة والطمع وغيرها من الصفات الخسيسة التي يتنزه عنها في الغالب العالمون بعلوم الخليقة , ولا يصح أن نضيف هذا الفساد لعلم الفقه كما لا يصح أن نضيف ما عليه بعض علماء الكون من زيغ العقيدة إلى أنه من لوازم العلوم الكونية لأنه لا دليل على وجود البارئ وكماله إلا هذه الأكوان البديعة التي خلقها في أحسن نظام , ولكن الفساد في الأخلاق والأعمال والزيغ في العقائد يرجعان إلى فساد التربية التي يؤخذ بها الإنسان من نشأته الأولى. وقد صرّح الفيلسوف سبنسر بأن العالم بأسرار الخليقة يجب أن يكون أعلم الناس بالله تعالى وأشدهم تعظيمًا له، قال: وهذا هو الدين الصحيح المرضي عنده تعالى , وهذا القول صحيح لكن الذي قاله هو أساس الدين لا كل الدين. وإن تعجب فعجب قولهم: إن من يتعلم العلوم الطبيعية يفسد اعتقاده، قياسًا على بعض فاسدي العقيدة من علمائها , وهو قياس مع الفارق ولا يخاف على دينه إلا من لم يكن في عقائده على يقين فإن الموقن لا يخطر على باله أن يزول اعتقاده لأنه جازم بأنه الحق المطابق للواقع , والواقع لا يزول. والإيمان بغير يقين لا يقبل من أحد فقد قال تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئا} (يونس: ٣٦) وقال تعالى حاكيًا عن الذين لا إيمان لهم: {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (الجاثية: ٣٢) إن أكثر مسائل العلوم الطبيعية العصرية مبنية على المشاهدة والاختبار فهي ثابتة يقينًا , واليقين لا يناقض بعضه بعضًا فيخاف على العقيدة من شبه فيها وأما المسائل النظرية التي تخالف بعض قضايا الدين فهي غير مقطوع بها عند أهل العصر ويسهل علينا أن لا نُعلِّم الأحداث هذه المسائل إلا بعد معرفة البراهين الصحيحة على عقائدهم فتكون العقيدة أقوى منها. ولو كانت هذه العلوم في عصر العلماء المتقدمين الذين ذموا الفلسفة كما هي في هذا العصر ولها من الفوائد مثلما لها الآن؛ لكان كلامهم فيها غير الذي كان. ولقد خضنا في هذا الموضوع مرارًا فلا حاجة للإطالة فيه بعد ذلك. ((يتبع بمقال تالٍ))