للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


وفيات الأعيان

توفي في هذه الفترة - فترة تعطيل المنار السنوي - ثلاثة رجال من الممتازين
في أشخاصهم وبيوتاتهم: أمين بك الرافعي صاحب جريدة الأخبار بمصر والأمير
نسيب أرسلان في (لبنان سورية) والحكيم محمد أجمل خان في الهند، ولكل منهم
مقام معلوم، وحق من الفضل مشاع أو مقسوم، وعمل في خدمة الأمة ظاهر أو مكتوم
فعلى الأمة شكر ما ظهر، ولا يخفى على الله شيء مما بطن، والله شكور حليم.
(أمين بك الرافعي الفاروقي) هو ابن الشيخ عبد اللطيف الرافعي الفقيه
مفتي الإسكندرية في آخر عهده، وبيت الرافعي أشهر بيوتات العلم في مصر
وسورية على الإطلاق ووطنهم الأصلي طرابلس الشام وتخرج أكثر علمائهم في
الأزهر ونيطت بهم الوظائف الشرعية في هذا القطر من قضاء وإفتاء وولي كبيرهم
الشيخ عبد القادر الملقب بالرافعي الكبير إفتاء الديار المصرية في آخر عمره بعد
الأستاذ الإمام وهم ينتسبون إلى الخليفة الثاني الإمام العادل الفاروق عمر بن
الخطاب رضي الله عنه.
وقد علم الشيخ عبد اللطيف رحمه الله تعالى ولديه أمينًا وعبدَ الرحمن في
المدارس المصرية حتى تخرجا في مدرسة الحقوق ونالا شهادتها (الليسانس)
واختارا الاشتغال بالمحاماة الحرة على خدمة الحكومة لميلهما إلى السياسة، وقد
انتسبا كلاهما إلى الحزب الوطني فكانا من أركانه العاملين المتحمسين المخلصين،
واشتغل أمين بالتحرير في جرائد الحزب من اللواء والعلم والشعب فكان خير
محرريها بل خير محرري الصحف في هذا القطر علمًا وبيانًا وإخلاصًا وثباتًا
واستقامة. ثم انفرد بإدارة جريدة الأخبار ورياسة تحريرها فكان إمامًا مستقلاًّ تمام
الاستقلال في كل ما يعتقد أنه الأصلح للأمة والملة والوطن لا يتقيد بقرار الحزب
الوطني ولا غيره على كونه أشد أعضاء هذا الحزب استمساكًا بمقاصده وغايته
وهي استقلال مصر والسودان التام المطلق من كل قيد، وعدم الاعتراف للمحتلين
فيهما بأدنى حق، السعي لإخراجهم منهما بخفَّي حُنين.
وكانت تربية أمين وأخيه الإسلامية على كمالها اللائق ببيته ونسبه لم يؤثر
التعليم العصري تحت مراقبة الاحتلال في أنفسهما أدنى تأثير يزلزل العقيدة أو يفسد
الأخلاق أو يخل بأداء الفرائض أو يفتن الشباب باقتراف الشهوات المحرمة،
وناهيك بتربية دينية تحفظ على مثل هذين الشابين الموسرين الجميلي الصورة
عفتهما وصيانتهما في بلد مصر في حرية الفسق وانتشاره.
وقع بيني وبين أمين من التلاقي والمخالطة في السنين الأخيرة ما لم يكن من
قبل فعلمت منه بالاختبار المحافظة على الصلوات وتلاوة القرآن للتعبد والاهتداء،
وليس في سعي الإنسان عمل أقوى من هذين العملين في ملكة التقوى في القلب وما
للتقوى من حسن الأثر في عزة النفس وشرفها وشجاعتها وعزوفها من الدنايا
والمطامع والشهوات السافلة: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً *
وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ المُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} (المعارج: ١٩-٢٣) إلخ لهذا كان أمين ممن قال الله تعالى فيهم: {يُجَاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: ٥٤) وكان من أركان حرب هذا
الجهاد وقواده وإن تراءى في صورة الجندي المعتاد بتواضعه وتَأَبُّهه عن الشهرة
عوضًا عن تَأَبُّهه بها، وزهده في الزعامة وفي الرياسة التي يعمل الكثيرون لها.
ويبتغون إليها الوسيلة بالوطنية وغيرها. على أن هذا الجهاد الشريف لمصلحة الملة
والأمة والوطن لما يوجد له جيوش ولو وجدت لعرفت أن أمينًا من قوادها وأركان
حربها وأعطته حقه من قيادتها وزعامتها.
بل أقول إن أمينًا الرافعي كان من طبقة الشهداء الذين هم حجة الله على متبعي
الهوى والباطل في هذا الزمن باستقامته والتزامه الحق الذي يعتقده ودعوته إليه
وجهاده في الدفاع عنه، لا يثنيه عن ذلك خوف إيذاء قوي ولا الطمع في منافع ذي
سلطان، وحجة على الذين يزعمون أن ما يسمونه الوطنية معارض للاستمساك
بعروة الرابطة الدينية، فقد كان أقوى أركان الوطنية في هذه البلاد لا من أقواها،
وكان مع ذلك مستمسكًا بعروة الإسلام الوثقى التي لا انفصام لها إيمانًا وعملاً ودفاعًا،
لم يتهمه قبطي ولا إنكليزي ولا يهودي بأنه من المتعصبين الذين تحملهم عصبية
دينهم على هضم حق أي وطني في بلادهم لمخالفته له.
وهو حجة أيضًا على زنادقة المسلمين ودعاة الإلحاد فيهم سواء منهم الذين
يدعون إليه وما يستلزمه من الإباحة بالصراحة، والذين يدعون إليه بحيلة تجديد
شباب الأمة، وهدم كل ما للأمة من بنيان وتاريخ ... فإنه لا يوجد فيهم أحد يدعي
أنه عرف من شؤون العصر وعلومه ونظمه وقوانينه المثبتة للحاجة إلى التجديد ما
لم يعرفه أمين فيتهم أمينًا بأنه معتصم بالدين لجهله أن الدين الإسلامي ينافي ما
يحتاج إليه أهله في العصر من علوم وفنون ونظام، ولذلك نرى الجرائد على
اختلاف منازعها ومشاربها وعلى وجود الزنادقة وغير المسلمين في محرريها قد
أجمعت بعد وفاة أمين على إطرائه بأعلى الأخلاق والصفات الوطنية العليا، مع
البر والتقوى.
نعم إنهم لم يصرحوا بأن سبب هذه الفضائل كلها هو هداية الإسلام، وتأثير
تلاوة القرآن، والمحافظة على الصلوات، فرحمه الله ورحم أحمد مختار باشا
الغازي الذي كان يقول إن الصلاة هي (بوليس المسلمين) المانع لهم من ارتكاب
الفواحش والمنكرات، ولكن مركزه في الباطن لا في الظاهر. اهـ
وليست فائدة الصلاة محصورة في التخلية والمعنى السلبي المعبر عنه بقوله تعالى:
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت: ٤٥) بل هي
تعين مقيمها بالخشوع والحضور على جميع معالي الأمور كما قال تعالى:
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ} (البقرة: ٤٥) وكما
علم من آيات: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} (المعارج: ١٩) إلخ، وقد ذكرت
آنفًا.
مات أمين الرافعي فاهتز القطر المصري لموته هزة عنيفة بل زلزل زلزالاً
شديدًا، وأجمعت الهيئات الدينية والسياسية الحكومية والنيابية والوطنية والصحفية
على تشييع جنازته، والاختلاف إلى مأتمه، وإنشاء المقالات الحافلة والقصائد
الطنانة في تأبينه ورثائه، وتبيين فضائله ومناقبه، على أنه كان صاعقة شديدة على
بعض هذه الهيئات السياسية والإلحادية، وحسب المنار التذكير بهذه الكليات من
سيرته الحميدة وقد ترجمه وسيترجمه كثيرون من سائر نواحي فضائله، رحمه الله
تعالى رحمة واسعة ووفق محرري جريدة الأخبار للثبات على طريقته في الدفاع عن
الدين وفضائله، والتنفير عن الإلحاد ورذائله، والمحافظة على الوطن وحقوقه.
(الأمير نسيب أرسلان) هو من خيرة أمراء هذا البيت الكريم أمراء أرسلان
تهذيبًا وعلمًا وأدبًا، كان رحمه الله تعالى ركنًا من أركان النهضة العربية الجديدة
وشاعرًا من أبلغ شعرائها وخطيبًا من مصاقع خطبائها، وحسبك أنه ثالث القمرين
لأميرين الشهيرين شقيقه الأمير شكيب والأمير عادل، وإن لم يشتهر في مصر
والبلاد غير العربية كشهرتهما، لأنه لم يتح له من السياحة في الأرض ما أتيح لهما،
بل قضت عليه شؤون الأسرة النبيلة أن يظل في وطنه كما أشرت إلى ذلك في تعزيتي
عنه لآله وأسرته خطابًا لأخي الكريم، ووليي الحميم، الأمير أبي غالب شكيب،
وهذا نصها:
من محمد رشيد رضا إلى أخيه الأمير شكيب أرسلان:
أطال الله تعالى بقاء أمير البيان، وعماد بيت أمراء أرسلان، وأحسن عزاءه
وعزاءنا به عن شقيقه الأمير نسيب، الكاتب الأديب، والشاعر الخطيب، والكافل
لخدمة أم الأمراء في الوطن، وقد طوحت بأخويه طوائح الزمن؛ وأطال له ولنا
بقاء شقيقه الأمير عادل، رب السيف والقلم، ورافع الراية والعلم، خواض
الغمرات، ومتقنص الطيارات، قائد الكماة الأباة في ميادين الجهاد، والحماة الرماة
في مواطن الجلاد، وَأَبْقَى الله فيما يطيل من عهده، وللأمة في مستقبلها البعيد بعده،
عمر نجله النجيب، وغصن دوحته الرطيب (الأمير غالب) يحسن تأديبه
وتربيته، ويتم تثقيفه وتنشئته، فله منهما ولنا منهم خير عزاء وسلوة، وفيما فقدنا
وفقدوا من السلف والخلف أحسن أسوة.
ولأنت أيها الأمير بعلمك وتجاربك، وبكبر نفسك وعلو همتك، وبما يتنشب
في قلبك من حب وطنك، وما يلوث بزعامتك من حقوق أمتك، لأجدر بالصبر عن
أخيك من الخنساء بالصبر عن أخيها، على كونك أحق منها بالتمثل بقولها:
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي
فأطال الله بقاءك لأمتك العربية المظلومة، ولملتك الإسلامية المهضومة،
ولوطنك السوري المجتاح. فكل منهن محتاج إلى علمك وبيانك، وإلى قلمك
ولسانك، وأطال الله حياتك لأمراء آل أرسلان، تجدد من مجدهم ما لا يخلقه
الزمان، وإنما هو طور جديد، وأسلوب طريف لفضل تليد، جمعت به بين قلم ابن
خلدون ومقول سحبان، في حكمة تملى بألسنة العرب والترك والفرنسيس والألمان،
أفليس هذا تجديدًا لأدب أجدادك الذين قال فيهم اليازجي الكبير شاعر لبنان:
شبانهم مثل الشيوخ نباهة ... وشيوخهم في البأس كالغلمان
ويخاطبون بكل فن أهله ... فكأن واحدهم بألف لسان
بلى، فهذا هو المجد، لا ما يكذب دعيّه فيه الأب والجد، وهذه هي الزعامة
والإمارة، لا الألقاب المزورة والمستعارة، فاصبر فإن مصابك بالجناة على وطنك
وأمتك، أوجع من مصابك بابن أبيك وأمك، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ
تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم
مُّحْسِنُونَ} (النحل: ١٢٧-١٢٨) .
(الحكيم محمد أجمل خان مسيح الملك) هو من أكبر بيوتات المجد القديم
المسلسل الذي لم ينقطع، يتصل نسبه بملا علي القاري المحدث الفقيه المشهور كما
أخبرني بلسانه. ومن آثار هذا المجد الموروثة خزانة كتبه المشتملة على نفائس
المخطوطات في العلوم المختلفة من شرعية ولغوية وطبية وفنية باللغتين العربية
والفارسية المكتوب بعضها على ورق الحرير بالخط الفارسي أو النسخي الجميل
الذي يستحق كل سطر منه أن يكون زينة تحلى بها جدران القصور وأندية العلم
والأدب.
انتهت إلى هذا الحكيم الزعامة الطبية والاجتماعية والسياسية في مسلمي الهند
وكان من أبرع الأطباء على الطريقة العربية اليونانية مع إلمام بالطب الأوربي
المصري يجمع به أحيانًا بين الطبين في بعض صفات الأمراض ومشخصاتها
وبعض المؤثرات في الأدوية لها، وكان أمراء الهند في الممالك الهندية المستقلة
يعتمدون على طبه ويدعونه لمهمات الأمور. وداره في دهلي عاصمة الدولة، تدعى
(بيت الحكمة) وفيها يدرس الطب القديم كما كان على عهد آبائه وأجداده الذين لقب
كثير منهم بلقب الحكيم.
وقد كان رحمه الله تعالى من أصحاب الرأي والبصيرة في الأمور العامة
وتولى رياسة جمعية الخلافة وعقد بعض المؤتمرات الهندية العامة تحت رياسته
وكان من رأيه وجوب الاتفاق بين المسلمين والهندوس في الأمور الوطنية من
سياسية واقتصادية وغيرها، وكان الزعيم - أكرم الله مأواه - صديقي، ولما زرت
مدينة دهلي في أثناء سياحتي الهندية في أوائل جمادى الآخرة سنة ١٣٣٠ الموافق
أواخر مارس سنة ١٩١٢ دعاني إلى النزول في داره العامرة وألح عليّ في ذلك
فاعتذرت بأنني إنما لم أعلمه بوقت مجيئي إلى دهلي وسبقت فنزلت في إحدى
فنادقها الكبرى في ضواحيها الخلوية بين الحدائق والبساتين في هذا الفصل الجميل
(فصل الربيع) لأجد بعض الراحة فيها من كثرة الزائرين، ولا يتيسر هذا مع
النزول بداره القديمة في البلد وهي مأوى طلاب العلم والطب ومنتجع الزائرين،
فاكتفى مني بقبول دعوة خاصة ودعوة عامة دعا إليها جمهورًا عظيمًا من العلماء
والكبراء، وقدم لي سيارته لركوبها في زيارتي للمعاهد العامرة والأثرية في البلد
وضواحيها فجزاه الله تعالى أحسن الجزاء.
وجملة القول أن الهند قد خسرت بفقده أعظم زعمائها المحنكين علمًا وحكمة
وسياسة وإخلاصًا فنعزي عنه الأمة كلها ونخص ولده الكبير المهذب جعله الله خير
خلف لخير سلف. آمين