مضت السنون، وتطاولت الأزمان على سلطنة مراكش وهي على حالتها الطبيعية، لم تسعَ - ولو بعض السعي - في تحسين أحوالها الداخلية، بل راضية بما هي عليه من الحالة الراهنة التي أمست فيها رعاياها، كأمة فوضوية؛ حيث إننا نرى كل يوم في أعمدة الجرائد أن القبيلة الفلانية شقت عصا الطاعة، وسكان الجهة الفلانية نهبوا أو قتلوا بعض الرعايا الأجنبية، ونحو هذا من الأخبار المحزنة التي تفتت لها أكباد مَن كانت لهم أدنى حمية إسلامية. هذا، والسبب الوحيد في استدامة الأمة المغربية هذه السيرة، هو حب ملوكهم للاستبداد والجهل المستولي على عقول الرعايا، ولو فَتَحَت بينهم المكاتب، وتغذت أبناؤهم بلبان المعارف؛ لعرفوا اليوم ما لهم وما عليهم. ألا ترى أن أوروبا كانت أتعس القارات؟ وكان الاستبداد والظلم فيها سائدَين، ولمَّا بثت بين سكانها العلوم؛ عرفوا حقائق الأمور، وقَيَّدوا استبداد حكامهم بسلاسل القوانين، ولم يَقِف في سبيل عملهم هذا عظمة الملوك والإمبراطورين، ولا تَحَزُّب أحزاب الأشراف، وتعصب النُبَلاء والكبراء. إن هاتِه المملكة القائم استقلالها على أسِنَّةِ رماح أوروبا، لولا التحاسد؛ لاحتلتها أقلَّ الدول الأوربوية، ولم ينفعهم ذلك الكَرّ والفَرّ، وتلك الشجاعة البربرية أمام النظام وصواعق الآلات. ومن العجيب أن القوم لم ينتبهوا، وقد تكررت عليهم المصائب الأوربوية، ولم تدخل فيهم روح الغيرة، وقد جعلت أرضهم للاستظهارات الحربية! ألم يقرأ سلطانهم وعلماؤهم وأعيانهم قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: ٦٠) ؟ ألم يطَّلِعوا على الحديث الشريف: (مَنْ قَاتَلَ فَلْيقَاتِلْ كَمَا يُقَاتِلُ) ؟ لقد كان الخلفاء الراشدون - رضوان الله عليهم - عاملين بإرشاد كتابهم، وهَدْي نبيّهم، ولقد كانت وجوههم مشرقة بنور الإسلام، وقلوبهم تخفق بأجنحة الإيمان، ولم يعتمدوا على ذلك، بل فعلوا ما أمرهم الله من وجوب اعتبار السبب قبل الاتِّكَال؛ حتى بلغت الأمةُ الإسلامية في تلك الأزمان أقصى درجات العز، وداست أقدام الجنود الإسلامية غالب المعمور، وعبثت باستقلال مَن هُم أشد منها باسًا وأقوى سلطانًا. وهكذا كانت حالة الإسلام نحو سبعة قرون، مع أن الخلافة انقلبت إلى الملك وانغمست الأمة في الترف، إلا أنهم كانوا محافظين على الشريعة، عاملين بإرشادها، ولا سيما فيما يتعلق بأمر المصاولة والمكافحة، وبذلك دام ملكهم، واتسعت فتوحاتهم، ووصل الإسلام إلى أوْج الفخر، وقصارى العز، ولمَّا نَبَذْنا الشريعة وراءنا، وتَتَبَّعْنَا الأهواء والصالح الذاتي؛ دارت علينا الدوائر، وفُقدت غالب الممالك الإسلامية من أيدينا، وصِرْنَا اليوم موسومين بأننا لسنا قادرين على تدبير الملك. إن الممالك الإسلامية هي التي جعلت الأمم الأجنبية في ريب من شريعتنا السمحة الصالحة لكل زمان ومكان، فزعموا أنها غير كافية في هذا العصر لإدارة الأمور الدنيوية، بل يجزمون بأن ذلك التأخر الضارب أطنانه في كل شعب إسلامي ناشئ عن دواعٍ دينية، ونحن لا نعترض على من يَعْتقد هذا الاعتقاد؛ إذ جهله بالشريعة الإسلامية يجعلنا نضرب عن قوله صفحًا، وقد شَهِد العارفون منهم بحسن شريعتنا، وصلاحيتها دينًا ودنيا، كما أننا لا نحتاج إلى استحسان قول زيد، وانتقاد قول عمرو، وإنما أقول: إن الخلل المُحْدِق بالممالك الإسلامية في هاته القرون الأخيرة، كان منشؤه الانحراف عن الدين؛ بإيثار الملوك منافعهم الشخصية على المنافع العمومية، وانقسام السلطة، والانهماك في اللَّذات، فلم تسقط الممالك الأندلسية التي سقط لسقوطها عِزُّ الإسلام شرقًا وغربًا إلا لانقسامها إلى ملوك طوائف، ولو لم تخرق ملوكها سياج الشريعة؛ لكانت اليوم أعظم الدول نظرًا لما أَبْدَته الأمةُ الأندلسية من الاستقامة والتدبير والمدنية. ولكن أنَّى لها ذلك، وقد سبق في علم الله القديم أن تلك المملكة لا بد أن تُمحَى بسوء تدبير سواسها من لوح الوجود. ولنُثنِ عِنان القلم إلى بيان أحوال مملكة الغرب الأقصى لهذا العهد، فنقول: كلما وقع حادث سياسي في تلك الأصقاع يزداد النفوذ الأورباوي هناك، ويتخذ الأجانب كل واقعة ذريعة إلى تنفيذ أغراضهم، وزيادة التداخل في أحوال المملكة الداخلية، وهذا أمر يُخشى معه على استقلال تلك المملكة؛ إذ الحوادث الماضية أرتنا ما تفعل يد الدسائس الأجنبية في الممالك الشرقية، وقد صارت اليوم هدفًا لنبال الدسائس، وآلة بيد الأجانب، ومع ذلك لم يتعظ القوم، بل مازالوا على ضلالهم القديم، ولو كانوا يتعظون لاتعظوا بحربهم مع فرنسا سنة ١٢٦٠ الذي تسبب عن دخول الأمير عبد القادر الجزائري الشهير إلى أراضي المغرب؛ إذ إن رجال المغرب في ذلك الوقت كانوا غافلين عما صارت إليه الجنود الأورباوية من النظام؛ فلم يكترثوا بالجند الفرنساوي الذي كان ضاربًا أطنابه بالقرب منهم، وعندما قصد المارشال الفرنساوي بجنوده المنظمة المحلة المغربية، لم يجد أمامه إلا قومًا مذبذبين، ليس لهم نظام ولا معرفة بالمواقع الحربية، وقد قاد هذا الجند المختل الأمير محمد ولم يكن على علم بقيادة الجيوش في ميادين القتال، ولكنه اكتفى بكثرة ما لديه من الجنود، فلما التقى الجمعان، انهزمت الجيوش المغربية الجرَّارة أمام الجيوش الفرنساوية القليلة أسوأ الانهزام، وما ذلك إلا بسبب النظام وحسن الآلات، والمعلومات الحربية التي صارت اليوم علمًا طويلاً يتنافس فيه أولو الغيرة الوطنية، والحمية الجنسية. وكم من حادثة مثلها، أو أشد منها عليهم. وغير بعيد ما حلَّ بتلك الحكومة من المذلة والعار في واقعة مَلِيلَة التي دفعت فيها لحكومة الأسبان عشرين مليون فرنك إرضاءً لها عن تعدي القبائل على حدودها ورعاياها، وليست هذه بالأولى، بل في كل عام تدفع قسطًا عظيمًا من دخلها؛ إرضاءً لزيد، وتسكينًا لغضب عمرو {أَوَ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: ١٢٦) . ولو حَسَّنت داخليتها، وكَفَّت أيدي رعاياها عن أي تعدٍّ، وجمعت تلك الأموال التي تدفعها كل عام، وفتحت بها مكاتب أماطت بها حجاب التغفل عن عقول أولئك القوم، لكان خيرًا لها، وأقوم لشرفها وبقائها بين الأمم، فكل ذي لب يعلم أن تقدم تلك المملكة متوقف على بث العلوم والمعارف - لا سيما التاريخية والاقتصادية، والزراعية والعسكرية - بين سكانها؛ حتى يعلموا أن وراء البحار أممًا يسهرأهلهاعلى مصلحة بلادهم، والذَّبِّ عن أوطانهم، ويتعاضدون على كل ما يعود عليهم بالفخر، وعلى أوطانهم بالعمران، وأن لهم جنودًا قد فاقت الحد عُدة وعددًا وأساطيل، يَرْتَجُّ لها المحيطُ عندما تعلوه، وتَخِرُّ لها الاستحكامات والحصون، وتميد لها الجبال، وأن العلوم والمعارف عندهم نافقة أسواقها، متدفقة سيولها، ولها أبناء قد تغذوا بلبانها، وشَبُّوا وشابوا على حبها، ومطالعة جمالها، وهاهم اليوم مثابرون على إصلاح أمورهم، ومتعاضدون على مصلحة أوطانهم، وكلما يرون بلدًا مختل النظام كبلادكم، أو إقليمًا عديم التدبيركإقليمكم، يستولون عليه بدعاوي سياسية، ويتخذون ذلك الاختلال حجة للاستيلاء، وإذا دافع عن نفسه ضربوه بحد السيف، وأجبروه على ترك الاستقلال. إِلامَ - أيها الإخوان - أنتم غافلون؟ ! وحَتَّامَ - يا أبناء الأعزاء - وأنتم متكاسلون؟ ! ألم يَدْعُكم كتابُكم إلى تحسين أحوالكم الدنيوية، كما دعاكم إلى تحسين أحوالكم الأخروية؟ ألم يَدْعُكم نبيُكم - عليه أفضل الصلاة، وأزكى التسليم - إلى الذَّبِِِ عن حوزة المِلَّةِ والدِّين ؟ أم لم تُنَبِّهْكم الحوادثُ التي رأيتموها، وتََزْجُرْكم المَذلة التي شاهدتموها؟ أم لم تتعظوا بما حَلَّ بإخوانكم، لمَّا كانوا مثلكم غافلين؛ فعبثت يدُ الأجانب باستقلالهم، وداست أقدام العدو أعناقهم، ولم ينفعهم الندم بعد حلول القضاء، ولم يُنجِ التأسف عند فتح باب البلاء. لِمَ لا تنبذون هذه المذلة وأنتم قادرون على الابتعاد عنها؟ ! . وعَلامَ لا تنتقلون من هذه الحالة التي يجب انتقالكم عنها؟ ! . أترضون أن تدخل بيوتكم الأعداء، أم تحبون أن تستولي على أوطانكم الأخصام الألدَّاء. تلك نصائح صادرة عن حمية إسلامية، والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو على ما نقول وكيل. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ش. د)