للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رأي غريب في عاقبة السُّكر
جاء في بعض الجرائد أن بعض حكماء أمريكا يرى أن الناس بعد كذا ألفًا من
السنين يصيرون كلهم مجانين؛ بتوارث تأثير السُّكر في دمائهم وأعصابهم؛ فأولاد
السكارى دائمًا مستعدون للجنون فإذا هم اعتادوا مثله على السُّكر جاء أولادهم أشد
استعدادًا له منهم، وهكذا يتسلسل نمو الاستعداد للجنون حتى يصير جنونًا في بعض
طبقات النسل؛ ولذلك يكثر الجنون في الناس عامًا بعد عام، وأكثر ما يصيب
السكورين، فإذا دام انتشار السُّكر، وإقبال الناس على هذه الخمور الكثيرة الأنواع
فإنها يوشك أن تعم البشر بعد ألوف من السنين فيكون كل واحد منهم مستعدًّا للجنون
فيظهر فيهم بالتدريج حتى يغتالهم غول السُّكر أجمعين.
يعد أكثر الناس هذا القول غُلُوًّا في المبالغة، ولكن لا يوجد عاقل عالم ينكر أن
السُّكر يعد النسل للجنون، فهل يتعظ بذلك الفساق وعبيد اللذة، ويخافون على نسلهم
إذا لم يخافوا على أنفسهم من سائر عواقب السكر في الدنيا والآخرة؟ كلا، إن
الإنسان خلق ضعيفًا لا يقوى على مقاومة الشهوة إلا إذا أُدِّبَ تأديبًا دينيًّا من الصغر،
فإنه حينئذ يرجى له أن يقوى على جند الشهوة المحرمة في الغالب، فإن غلبته نفسه
على الإلمام بشيء تذكر الله فلاذ بالتوبة والإنابة.
لقد ران حب اللذة على العقول فأضعف الفكر وختم على القلوب، فأمات
شعور الحق والخير، وصرف الحواس عن الاعتبار بما ترى وتسمع، فكأن هؤلاء
المدمنين لا يظنون أن في السُّكر شيئًا من الضرر، ولذلك يوجد فيهم من يلزم به
أهله وولده ويجمعهم عليه. رأيت في بعض الجرائد أن رجلاً من الأغنياء أخذ ولده
ليلاً إلى بعض ملاهي الأزبكية حيث المقامرة والسكر فطفق الوالد يقامر حتى رأى
ولده يهوم طلبًا للنوم؛ فطلب له كأسًا من الجعة (البيرة) فأنكره الولد وعافه؛ فألحَّ
عليه والده ومربيه حتى شربه بالتدريج وكان ذلك مفتاح الشرور فلم يلبث الولد أن
عاد إلى ذلك حتى اعتاد وانغمس في الفساد وانقطع عن الدرس والمدرسة فيا لله
ولهذه التربية.
آفة هؤلاء الجاهلين الذين سفهوا أنفسهم فساد الدين، ومن العجائب أن منهم
من يتوهم أن عقله وفكره أرقى من أن يقبل الدين، وأن المتدينين لا يكونون إلا
منحطين في مراتب البشرية، كأن أعلا مراتب البشرية عند هؤلاء السفهاء أن
ينصرف الإنسان إلى اللذات البهيمية فلا يكون بينه وبين الثور والخنزير والقرد
فرق في غير الصورة الجسدية إلا بخروجه هو في طاعة شهواته عن مقتضى
الفطرة والإسراف في كل شيء حتى يكون حرضًا أو يكون من الهالكين، ولو صح
هذا الرأي لكانت البهائم أفضل من الناس كما هو ظاهر.