للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

رجم الأيِّم بالزنا
(س٤) من صاحب الإمضاء أحد تلاميذنا المصريين في دار الدعوة،
والإرشاد، إنكم في تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ ... } (النساء: ٢٥) ... إلخ من سورة النساء (جزء خامس ص٢٥-٢٦) -
استنكرتم رجم الأيِّم، وقلتم لم يرد فيه حديث صريح. أفليس حديث عبادة عند
مسلم مرفوعًا: (خذوا عني؛ قد جعل الله لهن سبيلاً، الثيب بالثيب الرجم
الرجم) والثيب هو غير البكر، فهو شامل للأيِّم، ولذي الزوج. وحديث عمر
عند الشيخين، واللفظ للبخاري، قال: (الرجم في كتاب الله حق على مَن أحصن
من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف) ، قال شارحه
صاحب الفتح: أي إذا وجدت المرأة الخَليَّة من زوجٍ أو سيدٍ حُبلى ولم تَذكر شبهةً أو
إكراهًا إلخ، وهو كما قال، وإلا فكيف يكون الحبل دليلاً على الزنا إلا إذا كانت
خليةً من زوجٍ وسيدٍ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش، وللعاهر
الحجر) ، فإطلاق حديث مسلمٍ وتفصيل حديث الصحيحين - يفيدان أن حكم الأيِّم
في الزنا الرجم كحكم ذي الزوج سواء، فكيف تقولون: لم يرد في ذلك حديثٌ
صريحٌ؟ !
(ج) قد راجعت قبل البدء بكتابة هذا الجواب نص عبارتي في تفسير الآية
وهو: (لا أذكر أنني رأيت حديثًا صريحًا في رجم الأيِّم الثيب) وقد كنت كتبت
في حاشية نسختي الخاصة بإزاء هذه العبارة ما نصه:
(وكان الأولى تقديم الثيب على الأيم، والمراد رجم مَن كانت كذلك بالفعل
لا بالقول، وقد يقال إنه يدخل في عموم حديث عبادة بن الصامت عند أحمد،
ومسلمٍ، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه أن (على الثيب الجلد والرجم،
وعلى البكر الجلد والنفي) ، ولكن أكثر الفقهاء لم يأخذوا بهذا الحديث؛ إذ لم
يجمعوا بين الجلد والرجم، وفيه احتمال أن يراد بالثيب فيه المحصن بالفعل وهو
ذو الزوج.
وفي أثر عمر في الصحيحين، وغيرهما أن حمل المرأة المحصنة دليلٌ على
الزنا موجبٌ للرجم، ولم يأخذ كثيرٌ من الفقهاء بهذا كالشافعي، والكوفيين وقال
النووي في شرح مسلمٍ: إن هذا مذهب عمر. وأقول: صح عنه أنه لم يعمل به في
قصة المرأة الحُبلى التي اعترفت له في منى بأن رجلاً جامعها وهي نائمةٌ، ولم
تعرفه. اهـ.
كتبت هذا لِما يقع من الاشتباه فيه لإيضاحه عند التوسع الذي وعدت به،
وأزيد الآن أن الجمهور قد تركوا العمل بحديث عبادة للجزم بنسخه، واستدلوا على
ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه لم يعمل به، فهو لم يجمع بين الرجم
والجلد في حدِّ ماعز والغامدية المتأخر عن ذلك الحديث. والتحقيق في اللغة أن
الثيب: المتزوج، كما يُعلم من المصباح واللسان. وعللوه بأنه مِن ثاب بمعنى:
رجع، فالبكر ترجع بالزواج إلى صفةٍ أخرى تسمى بها ثيِّبًا، والأيِّم ترجع وتثوب
مِن رجل إلى آخر، فهي إنما تسمى ثيِّبًا باعتبار ما آلت إليه، لا ما كانت فيه، فلا
غَرْوَ إذا وردت في الحديث بمعنى المحصن. وما ذكره عن عمر - رضي الله عنه-
ليس بحديثٍ فيُعد حجةً، ولو كان حديثًا مرفوعًا لأخذ به الشافعي والحنفية، على
أن عمر قد عبَّر بالإحصان، وكون الولد للفراش - لا يمنع ثبوت حمل
المحصنة بالزنا، فإن له صورًا لا تخفى. ثم إن مذهب عمر في رجم الثيب
المحصن من ذكرٍ وأنثى قد أخذه من روايته في رجم الشيخ والشيخة إذا زنيا،
وكونه قرآنًا، وهو شاذٌّ لم يثبت كونه قرآنًا، ولو ثبت لوجب أن يكون خاصًّا
بالشيخ والشيخة؛ لأنه الشيخوخة وصف ترتب عليه الحكم، فأفاد كونه علةً له
كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (المائدة: ٣٨) وحكمته
ظاهرةٌ، ولو كانا غير محصنين، فإن الزنا في سن الشيخوخة فسادٌ كبيرٌ، ويستحق
أقصى العقوبة؛ ولذلك ورد في الحديث الصحيح أن الشيخ الزاني لا ينظر الله إليه
يوم القيامة، ولا يزكيه، وله عذابٌ أليمٌ كالفقير المستكبر.
وأما ثبوت الرجم بالسنة فلم ننكره، وإنما كان البحث فيما دل عليه قوله
تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ
العَذَابِ} (النساء: ٢٥) ، وحديث أحمد والبخاري أن النبي صلى الله عليه
وسلم -: (قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد عليه) ، وهو الجلد
بالإجماع، وكون حكمة الشرع تقتضي أن يكون الإحصان ثابتًا بالفعل - فهل ينقض
هذا كله حديث عبادة المنسوخ، ومذهب عمر الذي خالفه فيه جمهور المسلمين؟ !
***
ما معنى الاستطاعة في الحج
(س٥) ومنه:
فسَّروا الاستطاعة بالزاد والراحلة، وهذا إجمال، فمثلاً رجل يملك قطعة
أرضٍ زراعيةٍ أو بيتًا، ويُخرج له من ذلك ما يكفيه هو ومَن يعوله كفاية القصد،
أو الضرورة، وإذا باع أرضه أو بيته حصل على ثمنٍ يكفيه مدةً وتوفر له بعد ذلك
ما يحج به، فهل يقال: إن هذا الرجل غير مستطيعٍ نظرًا لغلة ملكه أو مستطيع
نظرًا لثمن ملكه؟ ، أفيدونا مأجورين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الرزاق حمزة
(ج) بيَّنا في تفسير قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران:
٩٧) في أول الجزء الرابع من التفسير أن أمر الاستطاعة مَنُوط بالأفراد،
يختلف باختلاف أحوالهم البدنية، والمالية، وأن كل امرئٍ أعلم بنفسه ممن هو أعلم
منه بالأحكام والنصوص، حتى إن المسائل الخاصة التي اشتبه فيها السائل تختلف
باختلاف أحوال الناس في صحتهم، وهمتهم، ومعايشهم، ومعايش مَن يعولونه،
فمنهم مَن لا يضره بيع بيته، أو أرضه لينفق منها أو ينفقها على سفره لأداء
فريضة الحج، ومنهم مَن إذا باع بيته لا يجد لنفسه ولعياله مأوى سواه، وإذا باع
أرضه القليلة التي يَعِيش مع مَن تجب عليه نفقتهم مِن زرعها، لا يستطيع أن يعول
نفسه، وعياله من عملٍ يغنيه عنها، ومنهم مَن ليس كذلك، كمَن يحسن صناعةً،
أو خدمةً يجد فيها كفايته، فمتى فهم المكلف الحكم، فله أن يجتهد في تنفيذه،
والعمل به كاجتهاده في القبلة وغيرها عند الحاجة، ويعذر إذا أخطأَ في اجتهاده،
بل يؤجر أيضًا إذا لم يقصر فيه، ولم يكن مقصده منه العثور على شبهةٍ يتوَكَّأ
عليها في التَّفَصِّي عن أداء الواجب، والله أعلم.
***
التقليد والتلفيق فيه
وتقليد غير الأربعة
(س٦، ٧) مِن صاحب الإمضاء في بيروت (سورية)
حضرة صاحب الفضل والفضيلة مولانا الأستاذ المحترم السيد محمد رشيد
رضا صاحب مجلة المنار الغراء - حفظه الله -
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
أرفع لفضيلتكم السؤال الآتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه، ولسيادتكم مِن الله
تعالى جزيل الأجر ومني عظيم الشكر.
في حاشية العلامة الشيخ يوسف الصفتي المالكي على الشرح المسمى
بالجواهر الزكية على ألفاظ العشماوية، للعلامة أحمد بن تركي المالكي في باب
فرائض الوضوء ما نصه:
(واعلم أنهم ذكروا للتقليد شروطًا، إلى أن قال: (الثالث) أنه لا يلفق
في العبادة، أما إن لفق كأن ترك المالكي الدلك مقلدًا لمذهب الشافعي ولم يبسمل
لمذهب مالك فلا يجوز؛ لأن الصلاة حينئذٍ يمنعها الشافعي لفقد البسملة، ويمنعها
مالك لفقد الدلك، ثم قال - بعد ذلك -: وما ذكروه من اشتراط عدم التلفيق رده
سيدي محمد الصغير، وقال: المعتمد أنه لا يشترط ذلك، وحينئذٍ فيجوز مسح
بعض الرأس على مذهب الشافعي، وفعل الصلاة على مذهب المالكية، وكذا
الصور المتقدمة ونحوها، وهو سعةٌ ودين الله يسرٌ) .
فهل إذا اغتسل غسلاً واجبًا أو توضأ وضوءًا واجبًا مِن ماءٍ قليلٍ مستعملٍ في
رفع حدثٍ مقلدًا لمذهب الإمام مالك، وترك الدَّلك مقلدًا لمذهب الإمام الشافعي،
وترك النية مقلدًا لمذهب الإمام أبي حنيفة يكون غسله ووضوؤه صحيحًا مثل
الصورتين المتقدمتين أم لا؟ ، وهل هناك فرقٌ؟ وهل يجوز التلفيق من مذاهب
الأئمة الأربعة في قضيةٍ واحدةٍ كغسلٍ واجبٍ أو وضوءٍ واجبٍ أو تيمُّمٍ واجبٍ أو
صلاةٍ واجبةٍ، وغير ذلك من العبادات، والمعاملات أم لا؟ .
وهل يجوز تقليد غير مذاهب الأئمة الأربعة كمذهب الإمام داود الظاهري،
وأصحابه ومذهب الإمام أبي ثور، ومذهب الإمام الثَّوري، ومذهب الإمام إبراهيم
النَّخعِي، ومذهب الإمام ابن أبي ليلى، ومذهب الإمام الأصم، ومذهب الإمام عبد
الرحمن الأوزاعي، ومذهب الإمام إسحق بن راهويه، ومذهب الإمام حمَّاد بن أبي
سليمان، ومذهب الإمام ابن المبارك ومذهب الإمام الليث، ومذهب الإمام الحسن
بن صالح، ومذهب الإمام الزهري، ومذهب الإمام زُفر، ومذهب الإمام محمد بن
جرير الطبري، وغيرهم من الأئمة المجتهدين، ومذاهب الصحابة والتابعين -
رضي الله تعالى عنهم أجمعين - في العبادات والمعاملات أم لا؟ .
وهل يجوز التلفيق من مذاهبهم في قضيةٍ واحدةٍ كغسلٍ واجبٍ أو وضوءٍ واجبٍ أو
تيمُّمٍ واجبٍ أو صلاةٍ واجبةٍ، وغير ذلك من العبادات والمعاملات أم لا؟ ، تفضلوا
بالجواب ولكم من الله عظيم الأجر والثواب، والسائل
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي
... ... ... ... ... ... ... ... ... الشافعي مذهبًا
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بيروت
(ج) إن أكثر أحكام العبادات مُجمعٌ عليها، معلومةٌ مِن الدين بالضرورة؛
لتواتُرها بالعمل، وشهرة النصوص فيها فلا تقليد فيها، ومنها ما ثبت في السنة
على وجوهٍ أو بألفاظٍ مختلفةٍ كالتشهد في الصلاة، ودعاء الافتتاح، والوصل
والفصل في الوتر وغيره، أو ثبت فعله تارة، وتركه أخرى كالقنوت في الصبح
ورفع اليدين عند الركوع والقيام منه، ومن التشهد الأول، فأخذ بعض العلماء بهذا
وبعضهم بذاك، والخَطب في هذا سهلٌ؛ إذ العمل بكل ما ثبت في السنة صحيحٌ،
لا يضر العامل اختلاف الرواة، واعتماد الفقهاء لبعضها دون بعضٍ، وأما المسائل
الاجتهادية التي وقع فيها الخلاف بين علماء المِلة للاختلاف في فهم النصوص أو
مسالك العلة في الاجتهاد؛ فالواجب فيها اتباع قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: ٥٩)
الآية، ولا خلاف بين أئمة الدين في وجوب هذا الرد، ولا في كون الرد إلى الله
هو الرجوع في المسألة إلى كتابه، وكون الرد إلى الرسول هو الرجوع فيها إلى
سنته، فمن وجد نصًّا مِن الكتاب أو السنة يرجح بعض قول العلماء المختلفين على
بعضٍ - وجب عليه اتباعه حتمًا، ولا يجوز له تركه إلى اجتهاد أحدٍ، وإلا أخذ
بقول مَن ترجح عنده دليله إذا اطَّلع على تعارض أدلتهم، ومَن لم يكن أهلاً لذلك
يستفتي - فيما يعرض له، ويُشكل عليه - مَن يثق بعلمه ودينه، سواء كان قد
تلقى الفقه على مذهب زيد مِن الأئمة أو مذهب عمرٍو، فجميع الأئمة المشهورين
ممن ذكرتم، ومَن لم تذكروا كأئمَّة آل البيت النبوي - عليهم الرضوان والسلام -
على هدى من ربهم في تحري الحق باجتهادهم، ولا يضره اختلاف مذاهب المفتين،
والمفيدين، وإن أدى في بعض المسائل إلى التلفيق الذي اختلف المقلدون في
جوازه، فإن التلفيق بهذه الصفة كان شائعًا في عامة السلف؛ إذ لم يكن أحد من
عوامهم يلتزم العمل باجتهاد فقيهٍ معيَّنٍ، ولا بروايته، على أن للتلفيق صورة لا
يفتي بها عالمٌ، وهي التي أطلق بعضهم منع جواز التلفيق لأجلها؛ لأنها ضرْبٌ من
التلاعب بالدين اتباعًا للهوى، أو تتبُّعًا للرخص، وهي أن يأتي المقلد بعملٍ لا دليل
عليه مِن كتابٍ، ولا سنة، ولا إجماعٍ، ولا قياسٍ صحيحٍ، ولم يقل به أحدٌ من
الأئمة المجتهدين، بل ركَّبه هذا المتلاعب مِن عدة أقوالٍ اجتهاديةٍ على النحو الذي
ذكره السائل، وقد مثَّل له بعضهم بمَن يتزوج بامرأةٍ بالتعاقد معها بغير وليٍّ اتباعًا
لأبي حنيفة، وغير شهودٍ تقليدًا لمالك مع عدم إشهار الزواج، وإعلانه الذي
يستغني به مالك عن الشهود، ومنعوا تتبع الرخص أيضًا فيما لا تلفيق فيه، وهذا
المبلغ حقٌّ ظاهرٌ في الرخص الاجتهادية، فإن للعلماء هفواتٍ لا يؤاخَذون عليها،
وليس مِن التقليد المباح تتبعها، والعمل بها، وأما الرخص الثابتة بالكتاب والسنة
فلا حرج في تتبعها، ولكن لا تُجعل كالعزائم في المواظبة عليها.
وأما سبب ما اشتهر بين مقلدة المتأخرين من وجوب حصر التقليد في مذاهب
الفقهاء الأربعة فهو أنها قد دُونت، واتسع فيها التخريج والتفريع؛ فصارت كافيةً
للناس، فليس في هذا غضٌّ من مقام علماء الصحابة والتابعين ومَن بعدهم من
المجتهدين، ولكن يشاركها - فيما ذكروا - مذاهب أئمة أهل البيت الذين يسند إليهم
فقه الزيدية، والإمامية من الشيعة.
وهذا لا يمنع الأخذ بقول سائر علماء السلف التي يرويها عنهم المحدثون،
والفقهاء في كتبهم المعتمدة بشرطه الذي يجوز به الأخذ بقول أحد الأربعة، وأئمة
العترة الطاهرة. وقد فصلنا القول في بطلان التقليد، ومضاره والتلفيق في مقالات
(المصلح والمقلد) التي جُردت من المنار وطُبعت في كتابٍ مستقلٍّ، وفي غيرها
من مجلدات المنار، فليراجعها السائل إن شاء التوسع في هذه المسألة.