يحكى أن رجلين اصطحبا في بعض الأسفار، أحدهما مجوسي من أهل كرمان، والآخر يهودي من أهل أصفهان، وكان المجوسي راكبًا على بغلة له وعليها كل ما يحتاج المسافر إليه في سفره من الزاد والنفقة، فبينا هما يتحدثان إذ قال المجوسي لليهودي: ما مذهبك وما اعتقادك يا هذا؟ قال اليهودي: أعتقد أن في هذه السماء إلهًا عبده بنو إسرائيل، وأنا أعبده وأسأله وأطلب إليه ومنه سعة الرزق وطول العمر وصحة البدن، والسلامة من الآفات، والنصر على الأعداء، أريد منه الخير لنفسي، ولمن يوافقني في ديني ومذهبي، ولا أفكر فيمن يخالفني في ديني ومذهبي، بل أعتقد أن من يخالفني في ديني ومذهبي، فحلال لي ماله ودمه، وحرام علي نصيحته ونصرته ومعاونته والرحمة له والشفقة عليه. ثم قال للمجوسي: قد أخبرتك عن مذهبي واعتقادي لما سألتني، فأخبرني أنت أيضًا عن مذهبك واعتقادك. قال المجوسي: أما اعتقادي ورأيي فهو أني أريد الخير لنفسي ولأبناء جنسي كلهم، ولا أريد لأحد من الخلق سوءًا، لا لمن كان على ديني ووافقني، ولا لمن يخالفني ويضادني في مذهبي. فقال اليهودي: وإن ظلمك وتعدى عليك؟ قال: نعم. قال: لأني أعلم أن في هذه السماء إلهًا خيِّرًا فاضلاً عادلاً حكيمًا عالمًا، لا يخفى عليه خافية من أمر خلقه، وهو يجازي المحسنين بإحسانهم، ويكافئ المسيئين بإساءتهم. فقال اليهودي له: فلست أراك تنصر مذهبك وتحقق اعتقادك. فقال المجوسي: كيف ذاك؟ قال اليهودي: لأني من أبناء جنسك، وأنت تراني أمشي متعبًا جائعًا وأنت راكب شبعان مرفه. قال: صدقت، فما تريد؟ قال اليهودي: أطعمني شيئًا واسقني واحملني ساعة، فقد بليت لأستريح ساعة. فنزل المجوسي عن بغلته وفتح سفرته وأطعمه وسقاه حتى أشبعه وأرواه، ثم أركبه ومشى معه ساعة يتحدثان، فلما تمكن اليهودي من الركوب، وعلم أن المجوسي قد عيي حرك البغلة وسبقه، وجعل المجوسي يعدو ويمشي ولا يلحقه فنادى له (يا موشا) قف لي فقد عييت واحملني معك ولا تتركني في هذه البرية، فتأكلني السباع أو أموت جوعًا وعطشًا، وارحمني كما رحمتك، وجعل اليهودي لا يفكر في ندائه ولا يلوي عليه حتى مضى وغاب عن بصره، فلما يئس منه المجوسي وأشرف على الهلاك تذكر تمام اعتقاده وما وصف له بأن في هذه السماء إلهًا خيِّرًا فاضلاً عالمًا عادلاً لا يخفى عليه من أمر خلقه خافية، فرفع رأسه إلى السماء فقال: يا إلهي قد علمت أني أعتقد مذهبًا ونصرته وحققته ووصفتك بما سمعته وعلمته فحقق عند (موشا) ما وصفتك به ليعلم حقيقة ما قلت، فما مشى المجوسي إلا قليلاً حتى رأى اليهودي وقد رمت به البغلة فاندقت عنقه، وهي واقفة بالبعد منه تنتظر صاحبها فلما لحق المجوسي بغلته وركبها ومضى لسبيله وترك اليهودي يقاسي الجهد ويعالج كرب الموت ناداه: (يا مضا) ارحمني واحملني ولا تتركني في هذه البرية فتأكلني السباع أو أموت جوعًا وعطشًا وحقق مذهبك وانصر اعتقادك. فقال المجوسي: قد فعلت مرتين ولكن بعد لم تفهم ما قلت لك، ولم تفعل ما وصفت لك، فقال اليهودي: فكيف ذلك؟ قال: لأني وصفت لك مذهبي ولم تصدقني بقولي حتى حققته بفعلي، وأنت بعد لم تعقل ما قلت لك، ذلك أني قلت: إن في هذه السماء إلهًا خيرًا فاضلاً عالمًا عادلاً لا يخفى عليه خافية، وهو يجازي المحسنين بإحسانهم، ويكافئ المسيئين بإساءتهم. قال اليهودي: قد فهمت ما قلت وعلمت ما وصفت (يا مضا) . قال المجوسي: فما الذي منعك أن تتعظ بما قلته لك (يا موشا؟) قال اليهودي: اعتقاد قد نشأت عليه ومذهب قد اعتقدته وألفته، وصار عادة وجبلة بطول الدؤوب فيه، وكثرة الاستعمال له، اقتداء بالآباء والأمهات والأستاذين والمعلمين من أهل ديني ومذهبي، وقد صار جبلة وطبيعة ثابتة يصعب علي تركها والإقلاع عنها، فرحمه المجوسي وحمله معه حتى جاء به إلى المدينة، فسلمه إلى أهلها مكسورًا وحدث الناس بحديثه وقصته معه، فجعل الناس يتعجبون من أمرهما، فقال بعض الناس للمجوسي: كيف رحمته بعد شدة جفائه بك وقبيح مكافأته إحسانك إليه؟ فقال المجوسي: اعتذر إلي وقال: مذهبي كيت وكيت، وقد صار جبلة وطبيعة ثابتة لطول الدؤوب فيه وجريان العادة، يصعب الاقتلاع عنها والترك لها. وأنا أيضًا قد اعتقدت مذهبًا قد صار عادة وجبلة وطبيعة أخرى يصعب علي تركها والاقتلاع عنها.