قول كرومر في مصر والشرق: خطب لورد كرومر في مجلس الأعيان بلندره خطبة في موضوع اتفاق إنكلترا وروسيا الأخير فيها كثير من العبر لنا إن كنا نعتبر. فأحببت أن أنبه إلى ذلك بنقل جمل من ترجمة الخطبة، ثم الإشارة إلى مواضع العبرة فيها: قال: (إن الحال التي طرأت على الشرق منذ أعوام طوال وهي حال الانتقال من طور إلى طور قد اشتدت وتعاظمت في هذه الأيام. فإننا نرى الغرب يسعى إلى إدخال آرائه وأفكاره على الشرق في كل مكان، أو الشرق يسعى من تلقاء نفسه لأن يقتبس من الغرب نظامًا للأحكام لم يألفه ولم يكن يعرفه. فأفضى ذلك إلى إلقاء العناصر المتناقضة المتضادة كلها في بوتقة سياسيّة اجتماعية إدارية واحدة؛ لتذوب وتصهر فيها، ولا يعلم إلا الله ما تكون نتيجة صهرها وامتزاجها معًا. أما العناصر المتضادة المشار إليها فأذكرها الآن بالإيجاز آملاً أيها السادة أن أقنعكم بأن لكلامي عنها دخلاً حقيقيًّا في مسألة الاتفاق الإنكليزي الروسي: فأولاً: إننا نرى العواطف الدينية المتأصلة في النفوس تصارع اللاأدرية أو ما يقرب من اللاأدرية في كل مكان، ولا ريب أن اتصال الغرب بالشرق يُأول إلى زعزعة الأركان الأدبية التي يقوم عليها بناء الهيئة الاجتماعية الشرقية كلها. وثانيًا: إننا نرى في كل مكان تقريبًا أقوامًا ذوي عادات قديمة وآراء وأفكار شائعة وميل شديد إلى بقاء القديم على قدمه يتكلفون اليوم الجري في الأحكام على طرق غريبة عن الشرقيين ولا سابق علم لهم بها. وثالثًا: إن بين الخاصة المتعلمين والعامة الأميين في كل مكان من الشرق وخصوصًا في الهند ومصر - بونًا بعيدًا وهوة عظيمة. أما العامة فلم يحصلوا في هذه الأيام إلا على قليل من المعارف التي تزحزح حجب الجهل عن بصائرهم، وأما الخاصة المتهذبون فعلى جانب عظيم من المعرفة ولكنها غير مختمرة بخمير الاختبار والعمل. وهم يحاولون أن يحلوا بهذه المعرفة بعضا من أعوص المسائل وأعسر القضايا التي يشغل حلها عقول الفحول من أهل السياسة والإدارة. ولا ننس بعد ما ذكر أننا نلاقي في بلادنا هذه صعوبات كثيرة. فإن نمو الديمقراطية وانتشارها في بلادنا زاد صعوبات القضية التي وصفها المستر بريط منذ أعوام بقوله: (إنها قضية حكم شعب على شعب) يعني تدبير الشعب الإنكليزي لأمور الشعب الهندي. فليت الذين يشتغلون منا بالسياسة في هذه البلاد وهم لا يسئلون عما يفعلون، فيجزمون في الأمورويبتون، ويقولون ما يشاءون عن هذه المسألة الشرقية ولا يحتاطون، ولا يقدرون عواقب ما يقولون - ليت هؤلاء يتذكرون أحيانًا تحذير الدوق ولنجتون حيث قال مخاطبًا القوم: (إن كنتم تضيعون الهند يومًا فكونوا على يقين أن البرلمان هو الذي يضيعها لكم) (استحسان) والذي أتذكره أن دوق ولنجتون إنما قصد مجلسًا واحدًا من مجلسي البرلمان وهو غير مجلس الأعيان. (ضحك واستحسان) ولا يغيب عن الأذهان أيضًا أن الحروب اليابانية الأخيرة أثرت في عقول الشرقيين تأثيرًا عظيمًا وخصوصًا عقول أهل الشرق الأقصى، ولا عجب في ذلك كله فإنما هو نتيجة اختلاط الشرق بالغرب، وانتشار التمدن وتقدم المعارف والتعليم واتباع سياسة العقل والكمال التي لا تبقي الشعوب المحكومة غائصة في ظلمات الجهل حتى يسهل حكمها على الشعوب المتوسطة عليها. ولكن ذلك مما يوجب التفكير والتدبير أيضًا. لا أقول إنه يوجب الهم والقلق وإنما أقول إنه يوجب على الأمم التي لها أملاك في الشرق أن تزيد عناية وسهرًا ويقظة وحذرًا عما كانت عليه في كل ما غبر من تاريخها؛ إذ ليس يعلم أحد ما ستكون نتائج الاختمار الذي تطرق إلى أفكار أهالي الشرق الأقصى بعد ما أضحى مبدأ الجنسية يتأصل في الشرق ويحل محل الروابط الأخرى التي كانت تربط الناس هناك معا. على أني أستنتج منذ الآن نتيجة يؤمن الخطأ فيها، وهي أن المنافسات والمناظرات التي بين الأمم الغربية المخالطة للأمم الشرقية قد زادت الصعوبة جدًّا في حل المسائل الشرقية. وهنا ذكر مسألة المغرب الأقصى ومكدونية ثم قال: وتأملوا مصر أيضًا فإني منذ نحو سنتين أرسلت رسالة إلى نظارة الخارجية البريطانية شرحت فيها أخطار حركة الجامعة الإسلامية على مصر، فتوهم قوم أني بالغت في أمر تلك الأخطار. ولتدارك تلك الحركة في الحال وتسكينها بوجه السرعة ظنوا أن توهمهم لم يخل من الصحة. على أنني لم أبالغ في ما قلت، بل إني أشبه ما يسمونه بحادثة سينا اليوم بصورة جلية واضحة ألقيت من فانوس سحري على حجاب سياسي فجلت الحقيقة لبصائر المتأملين، وأبانت أن الضغائن القومية يمكن أن تهيج وتتعاظم بسرعة عظيمة، وأظهرت الصعوبات الحقيقية المستبطنة كل القضايا المتعلقة بالأحكام الشرقية. فالنتيجة التي أستنتجها هي وجوب الترحيب بكل ما من شأنه تخفيف الخطر الذي ينجم عن تنافس الدول الأوربية وتناظرها في المسائل الشرقية. ولذلك أرحب بهذا الاتفاق بين إنكلترا وروسيا لأنه يؤدي إلى توطيد أركان السلام في البلدان التي له علاقة بها، ويسهل علينا حل القضايا الأوربية الأخرى التي يكون لهذه البلدان شأن عظيم فيها (استحسان) اهـ المراد من الخطبة. وجوه العبرة في كلام اللورد: العبرة في كلام اللورد من وجوه: (أحدها) قوله: إن الغرب يسعى إلى إدخال آرائه وأفكاره على الشرق. فيجب على المشتغلين بالمباحث الاجتماعية منا أن يفهقوا غرض الغرب من ذلك ليعرفوا هل هو خير لهم أم شر أم هو بين ذلك. (ثانيها) تمثيله لحالنا في ذلك الانتقال بإلقاء العناصر المتناقضة كلها في بوتقة سياسية اجتماعية إدارية لتذوب وتصهر فيها. فيجب علينا أن نفقه معنى هذا التمثيل. ما هي هذه العناصر؟ من هم الملقون لها في هذه البوتقة لتذوب فيها؟ ما هو غرضهم من إذابة عناصرنا وما هو حظنا منه؟ هل نحن على بينة من هذا العمل، وهل لنا اختيار فيه من حيث هو عمل اجتماعي كبير تنتقل به الأمة من طور تعرفه إلى طور تتخيله فتحسب أنها تعرفه وهي لا تعرفه؟ (ثالثها) تبرؤه من العلم بنتيجة ذلك العمل الذي أبرزه في قالب التمثيل وتفويضه إلى الله وحده. فإذا كان مثله في علمه وعمله، وحنكته واختباره، وكونه من أشهر صاغة البوتقة التي هي آلة صوغ الأمم والشعوب لا يدري نتيجة عمله وعمل أمثاله، فهل يسهل على العناصر التي في البوتقة أن تكون أعلم بهذه النتيجة؟ يجب التأمل الطويل وعدم الاغترار بالأَحْدَاث المعجبين بما أخذوا عن الإفرنج من الأفكار والعادات التي هي علل الانقلاب. (رابعها) قوله: إن العواطف الدينية الراسخة في نفوس أهل الشرق أمست تصارع الإلحاد والتعطيل، وجزمه بأن اتصال الغرب بالشرق يُأول إلى زعزعة الأركان الأدبية التي يقوم عليها بناء الهيئة الاجتماعية الشرقية كلها. ويمكن جعل هذين القولين مقدمتين لقياس منطقي ينتج نتيجة مزعجة جدًّا. فإذا كان الأَحْدَاث الذين يتبعون كل ناعق بالوطنية والجنسية يحسبون أن هدم أركاننا القديمة أمر نافع لسهولة إحداث بناء آخر من الجنسية الوطنية، فإن أصحاب العقل والرَّوِيَّة يرون أن البناء أعسر من الهدم، وأننا نستقبل أخطارًا كبيرة في التحول والانقلاب أراها أشد هولاً مما تشير إليه هاتان المقدمتان من كلام اللورد اللتان أشار إلى نتيجتهما بعد بقوله: (إن مبدأ الجنسية يتأصل في الشرق ويحل محل الروابط الأخرى) . (خامسها) قوله في خواص المتهذبين والعارفين من أن معرفتهم غير مختمرة بخميرة الاختبار. (سادسها) بيان التفاوت بين عامة الشعب وخاصته. وهذا التفاوت يكون دائمًا مثار التخالف، والأمة لا تقوى وتعتز إلا إذا تكونت من أفراد متقاربين في الأفكار والأخلاق والعادات. إلا أن هذا التفاوت بين أفرادنا وبيوتنا لمثار خطر عظيم. (سابعها) وهو بالنسبة إلى المصريين أهمها قوله: (إن الضغائن القومية يمكن أن تهيج وتتعاظم بسرعة عظيمة) فهذا أقوى ما يهيج أهل أوربا على أهل الشرق! ! (ثامنها) كلامه في الاختمار الذي تطرق إلى أهل الشرق الأقصى وهو الذي حكم بحرمان أهل المعرفة والتهذيب في الشرق الأدنى منه. وقد يوضح هذا النوع من العبرة ما كتبه مكاتب (التيمس) في بكين عاصمة الصين إليها في ذلك. وهاك موضع العبرة منه نقلا عن المقطم بتصرف لفظي يسير وعنوان جديد وهو: نهضة الصين وسبب ارتقاء اليابان قالت التيمس: (يؤخذ من رسالة مكاتبنا أن مملكة الصين الضخمة دفنت في هذه الأيام أفكارًا قديمة مضى على رسوخها في أذهان أبنائها قرون عديدة، واندفعت بعزم شديد لا يرد ولا يقاوم إلى اقتباس التعلم الغربي، والاهتداء بمعالمه إلى مناهج التقدم والارتقاء. ولا شك أن هذا النهوض بعد ذلك السبات يعد دليلاً على الشعور الحي في نفوس الصينيين، ولاسيما الطبقات المتوسطة منهم؛ فقد طلبوا من الحكومة بصوت واحد أن تتحدى اليابان في اقتباس التعليم الغربي. ولما رأت الحكومة هذه النهضة العامة لم يسعها إلا أن تجاريهم وتجيبهم إلى مطالبهم لأن الزمان الذي كانت تلك الطبقات تحترم فيه التقاليد القديمة وتنقاد إلى الحكومة وذوي الشأن قد مضى وفات منذ انتصرت اليابان على روسيا، بل منذ اشتبكت الحرب بين الصين واليابان فإن هذه الحرب كانت عبرة وعظة للصينيين إذ دلتهم على أن قاعدتهم في التعليم عقيمة لا تأتيهم بثمرة، ولا تنشئ منهم رجالاً يديرون دفة السياسة، ويتفننون في نظام الجندية. أما الحرب الثانية بين روسيا واليابان: فقد علمتهم أن التعليم الغربي يضمن لأمة شرقية فوزًا مبينًا على أعظم دولة غربية ولكنهم أخطأوا في نظرهم لأنهم نسبوا نجاح اليابان وفوزها إلى ما اقتبسته من علوم الغربيين وفنونهم، والحال أن العلوم والفنون لم تفدهم بقدر ما أفادتهم كفاءتهم وصفاتهم الشخصية. والتمدن الأوربي إنما يعد حلقة وصلها اليابانيون بما أوتوه من شدة الذكاء والاستعداد الشخصي، فتم لهم ما أرادوا وعدت دولتهم في مصاف الدول العظمى. ولو وقف الأمر عند حد التمدن الذي اقتبسوه لما نجحوا ولا بلغوا هذه الدرجة. فالمصلحون الصينيون يحسبون تقدم اليابان نتيجة التمدن الغربي فقط وبعبارة أجلى: إنهم يريدون الاستمساك بأحد العاملين اللذين ارتقى بهما اليابانيون والإضراب عن العامل الآخر وهو أهم من الأول وأدعى إلى العناية والاستمساك؛ فإذا اهتموا به وعالجوا أدواءهم الشخصية وقوموا المعوج من عاداتهم وتقاليدهم وكان لهم ذكاء اليابانيين وكفاءتهم فإنهم يدركون ما أدركه إخوانهم، وإلا فإن التمدن الأوربي والتعليم الغربي لا يفيدهم شيئًا ولا ينقعان لهم غلة. وهب أن هذه الحركة الجديدة تعود بالنفع على الصينيين لكن التعليم الغربي عزيز المنال على الشعب الشرقي إلا إذا كان أفراده يستأصلون من نفوسهم ذلك الشعور الراسخ ويراعون مقتضى التعليم الغربي من كل وجه. فإنه يغير العادات والأخلاق والعقليات والأدبيات ويقضي على التقاليد والخرافات قضاء مبرمًا. فإذا كان في وسع الصينيين أن يفعلوا ذلك كله فالنجاح منهم على طرف التمام وإلا فإن انقسمت كلمتهم وانتصر قوم للحديث وآخرون للقديم أدى أمرهم إلى فوضى عظيمة تحصدهم حصدا، فيكون التعليم الغربي قد أفضى إلى الهيجان والاضطراب بدلا من أن يكون وسيلة إلى التقدم والارتقاء. وهذا شأن كل أمة شرقية تتلقى التعليم الغربي قبل الاستعداد له والوثوق بكفاءتها للجري على مقتضاه. أما اليابانيون فلم ينجوا من هذه الفوضى إلا في الزمن الأخير من تشبههم بالأوربيين فقد كان بين المصلحين منهم جماعة من أعضاء الأسرة المالكة تلقوا التعليم الأوربي وتشربوا مبادئه من غير أن يشعروا بما يؤثر في عاداتهم وأخلاقهم لأنهم كانوا مستعدين له بالفطرة وليس للتقاليد سلطة على أفكارهم فنجحوا ونفخوا روح التعليم الغربي في نفوس مواطنيهم ثم سرت هذه الروح تدريجًا من طبقة إلى أخرى حتى كان من أمر اليابان ما نراه الآن. ولولا كفاءتهم وصفاتهم الأدبية وميلهم الغريزي إلى الأصول الأوربية لعاد مسعاهم في تحصيل التعليم الغربي وبالا عليهم اهـ. (المنار) العبرة في هذا الكلام كله ظاهرة لمن له عين تبصر، وأذن تسمع، وعقل يفكر، وقلب يشعر، فقد سبق قومنا اليابانيين في هذه البلاد وفي الآستانة إلى اقتباس التعليم الغربي والمدنية الأوربية بنحو نصف قرن، وهذه حالنا في الانقسام والتفرق؛ ففي مثل هذه المباحث فلتبحث الجرائد بأقلام كتابها وأقلام سائر الكاتبين المتبصرين.