للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الكاتب: صالح مخلص رضا


الخمر
فشو الخمر، مؤاخذة العلماء، أضرار الخمر الجسدية، أضرارها العقلية،
أضرارها الاجتماعية، أضرارها الاقتصادية، أضرارها الأدبية.
يكني المسلمون الخمر (أم الخبائث) وما أجدرها بهذه الكنية، ومن أسمائها
عند العرب (الإثم) قال الشاعر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم تفعل بالعقول
وقد حرَّمها بعض العرب على نفسه قبل الإسلام لغوائلها ومضارها، ومنهم
عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - قال: لا أشرب شيئًا يذهب بعقلي،
ويضحك عليَّ من هو أدنى مني.
ثم جاء الإسلام فتدرج في التنفير منها إلى تحريمها وفرض الحد على شاربها،
وقد سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عند تحريمها: فماذا نفعل بالخمر؟
فقال: (أهريقوها) فكانت شوارع المدينة كمجاري السيل مما أريق فيها من الخمرة.
وما زال العقلاء والفضلاء في بلاد الغرب يشكون من فشوها وانتشار
الأمراض وقتل الوقت وإضاعة المال بسببها حتى سنَّت الولايات المتحدة الأمريكية
قانونًا في أول سنة ١٩٢٠ يحرم صنعها والاتجار بها ودفعت بما كان مخزونًا لديها
إلى خارج بلادها حتى خشيت كندة وهي أقرب البلاد إليها من فشو هذه السموم في
بلادها فحرمت استيراد الخمور من الخارج إلى حد محدود، فاندلق سيل هذه الطامة
الجارف إلى اليابان وفشا فيها فشوًّا فظيعًا، وكانت حكومة روسية قبل ذلك منعت
شرب نوع من الخمور يسمى (أبسنت) فحرمته غير واحدة من دول الغرب لشدة
ضرره.
وربما حرمت الخمر فيما بعد في جميع الأمم الغربية، وناهيك بجماعات
مقاومة المسكرات فيها، ولكن البلاد التي تعرف بأنها إسلامية مثل مصر والشام
وتونس والجزائر لم يبدُ منها أية حركة ولم تنزعج أي انزعاج لهذا الخطب الجلل.
فإن قلت: إن هذه البلاد إسلامية ولكنها ليست بدار إسلام، أي أن حكوماتها
غير إسلامية، بل هي ذات شرائع غير شريعة الإسلام يتدارسها قضاتهم ومحاموهم
ويحكمون بها، وليس فيها تحريم الخمر فليس لأهلها شيء من الأمر، فأقول: (إن
صح منك الهوى أرشدت للحيل) لو أن الغيرة على الدين الإسلامي بقي منها بقية
عند من يسمون أنفسهم علماء الدين لتوسلوا إلى منع هذه الموبقات بكل وسيلة
وسلكوا إليه كل طريق.
هل سمعت بأن أحد الشيوخ طلب تعديل لائحة أو قانون لتقويم الأخلاق؟ ألم
يبلغ العلاَّمة (فلان) أن ابنه الأستاذ (فلان) سكير؟ ألم يعلم عَلَم الأعلام بأن ربيبه
من أفسد الناس أخلاقًا؟ أو لم يشاهدوا مِن أمامهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم مِن
مفككات روابط الأخوة ومفسدات الأخلاق بسبب الخمر وغيرها من الموبقات ما لو
ألقي على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله وسوء المنقلب.
كيف تسنى لرجال الدين في بلدة (أورنبورغ) - فيما أتذكر- أن طلبوا من
الوالي الروسي بأن يصدر أمرًا إداريًّا يحتم إقفال الحانات في نهار رمضان، أيام
الحكومة القيصرية، فأصدر بذلك أمره بعد الاستئذان من العاصمة (بطرسبرج)
وأن يلقي القبض على من يرى من المسلمين مفطرًا في رمضان ويؤتى به إلى
الإمام فإن اكتفى بوعظه وإرشاده وإلا سجن يومًا أو يومين، كذلك صدر الأمر
بإقفال الحانات أيام عيد رمضان وقتئذ بطلب علماء الدين.
وهذا الشرطي الفرنسي يلقي القبض على المسلم المفطر في رمضان في
دمشق ويرسله إلى المحكمة لتقتص منه، فهل طلب مشايخنا منفردين أو مجتمعين
إيصاد حانة أو ماخور مما في جوار المساجد والمعابد تنفيذًا للقانون المصري الذي
يحظر ذلك، دع عن مطالبتهم الحكومة بسن قوانين جديدة لحفظ الآداب؟ قد كان
يرجى ذلك أو بعضه لو كانوا يعلمون أن مكانتهم الدينية توجب عليهم ذلك من
طريق الدين والأدب والاقتصاد.
ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى
للخمر مضار في الأفراد والجماعات من صحية وعقلية واقتصادية وأدبية إلخ،
وقد ذمها كل عاقل حتى من كان ولوعًا بها، وها نحن أولاء نذكر أهم أضرارها:
أضرار الخمر الجسدية
١- منها الخمول والهبوط اللذان يحدث منهما زيادة التنبه في الأعصاب
ويهُبان بالسُّكر فيتناول شيئًا من الخمر فينهض به من خموله ويرفع من هبوطه
الجسدي والعصبي ولسان حاله ينشد قول أبي نواس:
وداوني بالتي كانت هي الداء ...
ولكنه لا يلبث أن يعود فيتولاه الخمول والانحطاط ثانية بحكم رد الفعل.
وبحكم أن بعض المدمنين من الغربيين قال عن نفسه أن أول كأس شربها إنما
كانت ليزيل بها همًّا عراه، وكل ما شربه بعدها كان ليزيل به ما أسأرته الكأس
الأولى من الهموم قال المتنبي:
إذا استشفيت من داء بداء ... فاقتل ما أعلك ما شفاكا
وقد سبقه إلى ذلك المدمن العربي القائل:
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
٢- ومنها فساد المزاج واعتلال الصحة؛ لأنها تحدث أمراضًا مهلكة وأدواء
معضلة (منها) السل الرئوي الذي قيل: إن سُبع الوفيات في العالم بسببه، وإن
ستين في المائة من أموات أبناء العشرين من المسلولين، وكأمراض الكبد والرئتين
والكليتين، وقد قال أحد الأطباء: إن تسعة أعشار المصابين بهذا المرض من
السكارى والسكر هو السبب في مرضهم (ومنها) أمراض النخاع الشوكي
والعضلات الدموية مما يتسبب منه الرئية (الروماتيزم) وتصلب الشرايين (ومنها)
فقر الدم، ومنها تلبك المعدة؛ لأن السكير يكثر أكله ويضعف هضمه (ومنها)
تمدد المعدة واسترخاؤها.
***
أضرار الخمر العقلية
١- من أضرار الخمر العقلية الخُمار (بوزن غراب) الذي يدعو الشارب
إلى المعاودة فالإدمان.
٢- ومنها فساد الأخلاق لاختلال اعتدال القوى النفسية.
٣- ومنها اختلال نظام العقل فالانفلات من كل قيد من قيود الوقار والحكمة.
وما أحسن ما أجاب به مجنون دعاه سلطان الذي شرب الخمر ليشربها معه فقال:
(أنت شربتها لتكون مثلي، فأنا أشربها لأكون مثل من؟)
بل هي جنون، قال ابن الوردي:
واهجر الخمرة إن كنت فتى ... كيف يسعى في جنون من عقل
٤- ومنها الذهول العصبي والنوبات الهستيرية.
أضرار الخمر الاجتماعية
١- من أضرار الخمر الاجتماعية ضعف النسل فانقراضه؛ لأن مدمني الخمر
كثيرًا ما يصابون بالعقم، ومن يلد منهم فإنما يلد نسلاً ضعيفًا دميمًا أو أبله معتوهًا،
وقد يتدلى النسل حتى ينقرض، وقد قال بعض ساسة الأوربيين وحكمائهم: إن
انقراض الأمم المتوحشة سيكون بفتك الأشربة الروحية بهم.
٢- ومنها فساد التربية المنزلية؛ لأن السكير لا يلتفت إلى تربية أولاده، وإذا
وكِّل أمر تربية الأولاد إلى المربين ذهبت مقومات الأمة وتقاليدها خصوصًا في بلاد
كهذه البلاد التي يقصد بتربية ناشئتها إلى تربية خاصة تمسخ الأمة مسخًا وتجعلها
بين بين، فلا هي جاهلة ولا هي متعلمة، وتحملها أوزارًا من زينة الأوربيين
وأزيائهم تكون هي الذاهبة بمشخصاتهم ومقوماتهم.
٣- ومنها سد باب النبوغ والاختراع في الصناعات والزراعة؛ إذ إن السكارى
لا يشغلهم شاغل عن مواصلة الشرب، فإن كان السكير من أرباب المصانع فسد
نظام مصنعه، وإن كان من أصحاب الأرض اختل نظام زراعتها، فإننا نرى كثيرًا
من أهل الثراء الذين لا يعرف السكير منهم موضع أرضه ولا ماذا أصلح فيها الزراع
أو أفسدوا، ومنهم من لا يعلم من أحوال ملكه شيئًا، أو يكل ذلك إلى مدير العمل
والكاتب والجابي، وكثيرًا ما أثرى أمثال هؤلاء من غفلة أولئك الذين أصبحوا فقراء
لم ينالوا من ثروتهم إلا ما تعودوه من السكر الذي يلجئهم إلى التسول، ومنهم كثير في
مصر تعرفهم بسيماهم، نرى أمثال هؤلاء وهم على ما وصفنا.
٤- ومنها إيقاع العداوة والبغضاء بين أعضاء الأسرة الواحدة وأفراد الأمة مما
يفكك روابطها ويفت في عضدها، ويجعل بأسها بينها شديدًا، فكم تقاطع الأَخوان
وتفرق الزوجان وانفرط عقد الإخوان وعُق الوالدان وأُهمل أمر الولدان بسبب بنت
الحان؟
أضرار الخمر الاقتصادية
حقًّا إن داء مصر في المسكرات لدويٌّ، إذ إن معدل ما يشربه المصري يزيد
على ضعفي ما يشربه الفرنسي ‍!! وبلاد الفرنسي تنتج له من الخمر ما يشربه ويتجر
به في الخارج، ولكن مصر لا تصدر خمرًا خارج حدودها ولا تنتج ما يستهلكه
أهلها فضرر الخمر الاقتصادي فيها أكثر منه في كل بلد في المعمور لذلك يثري
الخمار في مصر بسرعة، فمن أضرارها الاقتصادية:
١- إسراف المدمنين فيها إسرافًا كثيرًا ما ذهب بكل ما يملكون وتتسرب
أموال الأمة إلى البلاد الأجنبية بسبب ذلك، ولم يقتصر ذلك على الريع والإنتاج
فحسب، ولكنه تعدى إلى رقعة الأرض فكم من المزارع والتفاتيش والضياع
والعِزب والأباعد تحولت إلى الخمارين والقوادين من أبناء يونان.
٢- إن المقدر أن تحريم الخمور في الولايات المتحدة يوفر لأهاليها أربع مائة
مليون جنيه في السنة مما كان ينفق في الخمر ووسائلها، إذًا ماذا يقدر أن يوفر
تحريم المسكرات لأهل مصر؟ إنه لا يقل عن ٦١ مليون جنيه في السنة إذا قُدِّر أن
المصري لا ينفق في سبيل الخمر أكثر من أربع جنيهات في السنة وأنا أرجح أنه
ينفق ثمانية جنيهات في هذه السبيل، وإذا فرض صحة هذا الترجيح فإن تحريم
الخمر في هذه البلاد يوفر أيضًا لأهلها ١٢٢ مليون جنيه في السنة تضاف إلى رأس
مال الأمة.
٣- إنقاص رأس المال، والتمادي في استهلاك رأس المال هو الانتحار
الاقتصادي السياسي، وهذه حالة مفزعة ظهر أثرها في مصر ظهورًا بينًا، نعم إذا
بحثت في أسباب ذهاب الثروة وانتقال الأموال الثابتة إلى الأجانب فلا ترى إلا سببًا
واحدًا هو الخمر، وهي رسول الميسر وداعيته - إذ قلما ترى سكيرًا غير مقامر -
فظهر مصداق قوله تعالى: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} (البقرة: ٢١٩) وأي إثم أكبر من
هذا الإثم الذي هو مجلبة خسران الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.
٤- ومنها استهلاك معظم الإنتاج وبعض رأس المال وتسربه إلى خارج البلد
وأي انحطاط اقتصادي أدنى من هذا الانحطاط؟ .
أضرارها الأدبية
١- من أضرارها الأدبية: ذهاب الحشمة والوقار، فإن السكير لا قيمة له
بين أهله وولده وحشمه وجيرانه.
٢- ومنها قتل الوقت في الحانات وتوالي الشراب وذلك مما يذهب بالاحترام
الشخصي ويخل بالمكانة الأدبية.
٣ و٤- ذهاب الحياء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ولا حياء لمن لا دين
له ولا دين لمن لا صلاة له، وذكر الله جلاء القلب ونور الروح ومصباح المدلج.
لم أُرد بهذه العجالة أن أضيف إلى المنار بحثًا أهمله، فقد أنحى المنار على
المهلكات - ومعها الخمر - من أول نشأته، وأبعد ما أذكره ما في المجلد الرابع في
ص٨٨١ - ٨٩٠ وفي ص ٨٩٧ وأقربه ما في الجزء الثاني من التفسير.
صالح مخلص رضا