للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


] وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَاوَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ [[*]
أهل العلم والتعليم
(٤)

قلنا: إن سادتنا وكبراءنا هم الخلفاء والأمراء الذين بيدهم أمر الأحكام،
والعلماء الذين بيدهم زمام التعليم، والمرشدون الذين تصدوا للتربية العملية، وقد
مضى الكلام على الخلافة والخلفاء وفي غضونه إلماع إلى سيرة الأمراء، وأبنَّا أن
ذنب الخلفاء الأكبر الذي ضيع الدين وفرق أهله شيعًا هو عدم جمع المسلمين على
عقيدة واحدة لا مجال للخلاف فيها، والإقرار على أن كل ما وراءها يعد من
الأبحاث العلمية والتفنن في طرق الفهم، ولا يمس أصل الدين، والحظر على
الدعوة والتعليم بما يمس العقيدة الأساسية المتفق عليها، كما كان عليه الأمر في عهد
خلافة الراشدين، فقد خاض صَبِيغ (كعَلِيم) التميمي على عهد عمر رضي الله
تعالى عنه في المتشابه وسأل عن تأويل القرآن فجلده عمر حتى اضطربت الدماء
في جلده، وفي رواية: حتى شجه وسال الدم على وجهه، ولما قال: جئت أبتغي
العلم، قال له: بل جئت تبتغي الضلالة، ثم قال: احملوه على قتب وأخرجوه إلى
بلاده، ثم ليقم خطيبًا فليقل: إن صبيغًا طلب العلم فأخطأه، وكتب إلى أهل البصرة
أن لا تجالسوه، فكان بينهم كالبعير الأجرب، لا يجلس إلى قوم إلا تفرقوا عنه
وتركوه وحده.
ولكن الخلفاء والملوك تركوا الناس وشأنهم من الفوضى العلمية والدينية زمنًا،
وانتصروا للبدعة طورًا، ودعوا إليها، بل إلى الكفر في طور آخر (كالفاطميين
الذين دعوا إلى مذهب الباطنية) وكل ذلك مرت الإشارة إليه في المقالات السابقة.
ومن جراء هذا قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي
الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ} (الحج: ٤١) : فيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين إذ لم يستجمع ذلك
غيرهم.
ومن سوء حظ المسلمين أن فساد الخلفاء والأمراء تبعه في الغالب فساد العلماء
الذين كان يرجى منهم تقويم العوج وإصلاح الخلل ومداواة العلل، واتبعوا خطواتهم
في كل فج، وساعدوهم باسم الدين على كل أمر، وفي كل عصر من العصور
السالفة لم يُرج في سوق العلوم حتى الدينية إلا ما راج عند الأمراء والسلاطين، قال
الإمام حجة الإسلام الغزالي في بيان سبب إقبال الخلق على علم الخلاف، في كتاب
العلم من (إحياء علوم الدين) ما نصه:
(اعلم أن الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تولاها الخلفاء الراشدون
المهديون، وكانوا أئمة علماء بالله تعالى فقهاء في أحكامه، وكانوا مستقلين بالفتاوى
في الأقضية فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلا نادرًا في وقائع لا يستغنى فيها عن
المشاورة، فتفرغ العلماء لعلم الآخرة وتجردوا لها وكانوا يتدافعون الفتاوى وما
يتعلق بأحكام الخلق من الدنيا، وأقبلوا على الله تعالى بكنه اجتهادهم كما نقل من
سيرهم، فلما أفضت الخلافة بعدهم إلى أقوام تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم
الفتاوى والأحكام، اضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع
أحوالهم لاستفتائهم في مجاري أحكامهم، وكان قد بقي من علماء التابعين من هو
مستمر على الطراز الأول وملازم صفو الدين (بكسر الصاد أي جانبه) ومواظب
على سمت علماء السلف، فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا، فاضطر الخلفاء إلى
الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات [١] فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء
وإقبال الأئمة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم، فاشرأبوا لطلب العلم توصلاً إلى
نيل العز ودرك الجاه من قبل الولاة، فأكبوا على علم الفتاوى وعرضوا أنفسهم على
الولاة وتعرفوا إليهم وطلبوا منهم الولايات والصلات، فمنهم من حرم ومنهم من
أنجح، والمنجح لم يخل من ذل الطلب ومهانة الابتذال، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا
مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين أذلة بالإقبال عليهم
إلا من وفقه الله تعالى في كل عصر من علماء دين الله، وقد كان أكثر الإقبال في
تلك الأعصار على علم الفتاوى والأقضية لشدة الحاجة إليها في الولايات والحكومات.
ثم ظهر بعدهم من الصدور والأمراء من يستمع مقالات الناس في قواعد العقائد
ومالت نفسه إلى سماع الحجج فيها، فغلبت رغبته إلى المناظرة والمجادلة في الكلام،
فأكب الناس على علم الكلام وأكثروا فيه التصانيف، ورتبوا فيه طرق المجادلات،
واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات، وزعموا أن غرضهم الذب عن دين
الله والنضال عن السنة وقمع المبتدعة، كما زعم من قبلهم أن غرضهم بالاشتغال
بالفتاوى، الدين وتقلد أحكام المسلمين؛ إشفاقًا على خلق الله ونصيحة لهم.
ثم ظهر بعد ذلك من الصدور من لم يستصوب الخوض في الكلام وفتح باب
المناظرة فيه، لما كان قد تولد من فتح بابه من التعصبات الفاحشة والخصومات
الفاشية المفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد، ومالت نفسه إلى المناظرة في
الفقه، وبيان الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما على
الخصوص، فترك الناس الكلام وفنون العلم وانثالوا (انصبوا) على المسائل
الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك
وسفيان وأحمد رحمهم الله تعالى وغيرهم، وزعموا أن غرضهم: استنباط دقائق
الشرع وتقرير علل المذاهب وتمهيد أصول الفتاوى، وأكثروا فيها التصانيف
والاستنباطات ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات وهم مستمرون عليه إلى
الآن، وليس ندري ما الذي يحدث الله فيما بعدنا من الأعصار. فهذا هو الباعث
على الإكباب على الخلافيات والمناظرات لا غير، ولو مالت نفوس أرباب الدنيا
إلى الخلاف مع إمام آخر من الأئمة أو إلى علم آخر من العلوم لمالوا أيضًا معهم،
ولم يسكتوا عن التعلل بأن ما اشتغلوا به هو علم الدين وأن لا مطلب لهم سوى
التقرب من رب العالمين!) اهـ.
أقول: هذا ما قاله حجة الإسلام في جماهير علماء المسلمين إلى عهده في
أواخر القرن الخامس، والقرون الخمسة الأولى خير زمن المسلمين علمًا وعملاً
وتمسكًا بالدين، وقد كان الأمر من بعد ذلك أدهى وأمر: جهالة عمياء، وليالٍ
ظلماء، وانتشار غوغاء، ولا يعني الحجة بكلامه إلا الغالب الذين كان بيدهم الزمام،
فأضلوا الأمة بغش الإمام، وقد تولد من خلافهم في قواعد العقائد التفرق في الدين
وتكفير بعضهم بعضًا إعراضًا عن القرآن واتباعًا لشهواتهم وحظوظهم. أخبر الله
تعالى أنه وصى الأنبياء {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: ١٣)
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: ١٥٩) وكفى بذلك تهديدًا، وأي تهديد أعظم من إثبات أن المفرقين لا
تجمعهم بصاحب الدين جامعة ما؟ وقد نهى عن ذلك نهيًا صريحًا زيادة عما
تضمنه هذا الإخبار من النهي حيث قال {وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: ٣١-٣٢) قال
المفسرون: أي فرقًا تشايع كل فرقة إمامها الذي أضلها عن دينها. والآيات
القرآنية الآمرة بالاتحاد في الدين وعدم التفرق فيه كثيرة {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون: ٥٢) {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ
تَفَرَّقُوا} (آل عمران: ١٠٣) .
ولو أن غرضهم قمع المبتدعة والنضال عن الحق كما زعموا لما حدث عن
ذلك ما حدث من التفرق والتشيع الذي شق عصا الجماعة ورمى المسلمين بالانقسام
الذي أوصلهم إلى ما نرى. أليس قد كان الخلاف بينهم لفظيًّا في كثير من المسائل
كما أوضحه المتأخرون بعد انتهاء عصور المشاغبات والغلو في التعصب والتحزب؟
فكيف خفي عليهم ذلك وهم أعلم من المتأخرين الذين اهتدوا إليه؟ لولا غشاوة الهوى
على أبصارهم ووقر الانتصار للنفس في أسماعهم! !
أليس منها ما لا فائدة من الخلاف فيه ولا يترتب عليه حكم، كمسألة من هو
الأحق بالخلافة من الصحابة؟ التي كانت أعظم صدمة على الإسلام والمسلمين، ولا
تزال كذلك إلى اليوم؛ إذ هي التي قسمت المسلمين إلى قسمين كبيرين وهما: السنية
والشيعة. وقد أطال في بيان التلبيس في تشبيه هذه المظاهرات بمشاورات الصحابة
ومفاوضات السلف الإمام حجة الإسلام في الإحياء، فليرجع إليه من شاء، وما
أحسن ما قاله في هذا المقام أستاذنا الأكبر صاحب رسالة التوحيد وهو:
(بقيت علينا جولة نظر في تلك المقالات الحمقى التي اختبط بها القوم اختباط
إخوة تفرقت بهم الطرق في السير إلى مقصد واحد، حتى إذا التقوا في غسق الليل
صاح كل فريق بالآخر صيحة المستخبر، فظن كلٌّ أن الآخر عدو يريد مقارعته
على ما بيده، فاستحرّ بينهم القتال ولازالوا يتجالدون حتى تساقط جلهم دون المطلب،
ولما أسفر الصبح وتعارفت الوجوه رجع الرشد إلى من بقي وهم الناجون، ولو
تعارفوا من قبل لتعاونوا جميعًا على بلوغ ما أملوا، ولوافتهم الغاية إخوانًا بنور
الحق مهتدين) .
ولو شئنا بيان الفتن والحروب التي تولدت من هذه الخلافات لاحتجنا إلى
تأليف مجلدات.
وأما الخلاف في الفروع فهو وإن كان دون الخلاف في قواعد العقائد فقد نجم
عنه فتن كبيرة وأضر بالمسلمين ضررًا عظيمًا، ناهيك بالفتنة التي أثارها دخول
العلامة ابن السمعاني في مذهب الشافعية، والفتنة التي هاجر بسببها إمام الحرمين
والإمام القشيري وأضرابهم من وطنهم، والفتنة التي دفعت بالشافعية للانتصار
بالتتار على الحنفية، فكان ذلك سبب هلاك الفئتين، ولم تزل كتب الفقه محشوة بما
يخجل المنصف من قراءته، كقول بعض الحنفية: يجوز للحنفي أن يتزوج بشافعية
قياسًا على الذمية، وقد أفتى بعض حنفية طرابلس الشام لهذا العهد بعدم جواز
الاقتداء بشافعي، قال: لأن الشافعية يشكون في إيمانهم!! (والشك في الإيمان كفر) ؛
لأن أئمتهم جوزوا قول: أنا مسلم إن شاء الله، فذهب بعض الشافعية إلى مفتي
طرابلس وطلب منه قسمة المساجد فتلافى الأمر المفتي (جزاه الله خيرًا)
واستحضر ذلك الحنفي ووبخه ونهاه.
والحاصل أن المسلمين بدأوا ينحرفون عن هدي الدين الإسلامي من العصر
الأول، فقد نقل العلامة الشاطبي في الاعتصام وغيره أن الصحابة الذين عمروا
كثيرا كانوا ينكرون ما رأوا في آخر حياتهم أشد الإنكار، حتى قال أبو الدرداء
وأنس بن مالك (رضي الله عنهما) : لو رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا
لم يعرف من دينه إلا هذه الصلاة، وقد روينا عن شيخنا أبي المحاسن القاوقجي
رحمه الله تعالى حديثًا مسلسلاً بقولهم: رحم الله فلانًا، فكيف لو رأى زماننا هذا
وهو ينتهي إلى عائشة رضي الله عنها، فإنها أنشدت قول لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
وقالت: رحم الله لبيدًا فكيف لو رأى زماننا هذا. وفي كلام أمير المؤمنين
علي كرم الله وجهه من شكوى الانحراف عن الدين العجب العجاب.
هذه هي الدلالة القولية، وحسبك بدلالة الأثر فلولا انحراف العلماء والخلفاء
لما انحرفت العامة، ولما وقع المسلمون بهذه الرزايا والمصائب التي انتهت بهم إلى
فقر العقول وفقر الأيدي وضياع السلطة وتمزقوا كل ممزق.
وجملة ذنوب العلماء:
(١) الاختلاف في الدين.
(٢) الإعراض عن القرآن والسنة.
(٣) الإعراض عن علم التهذيب الذي هو لب الدين.
(٤) الإعراض عن معرفة سنن الكون التي أرشد إليها القرآن كثيرًا.
(٥) معاداة العلوم والفنون التي عليها مدار العمران.
(٦) ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الدين.
(٧) ترك الخطابة في يوم الجمعة والخروج بخطبة الجمعة عما شرعت له.
(٨) الخروج بالدين عن سذاجته بتوسعهم في الواجبات العينية وصعوبة
الكتب بحيث صارت الحنيفية السمحة التي كان يتلقاها الأعرابي من صاحب الشريعة
في مجلس واحد لا يمكن أن يعرفها الإنسان إلا في سنين طويلة، ولا سيما إذا كان له
عمر آخر.
(٩) عدم مراعاة الزمان في أحكام المعاملات القضائية حتى اضطر الحكام
إلى العمل بالقوانين الوضعية، مع أن الشريعة أوسع من ذلك وأصولها تناسب كل
عصر، وقد أوصلنا الجمود على مذهب واحد إلى تضييع الشريعة، فكان الاختلاف
في الفروع أيضًا نقمة مع أنه لم يكن في الأصل إلا رحمة.
(١٠) عسر طريقة التعليم.
وكل موضوع من هذه المواضيع يحتاج إلى كلام كثير وموعدنا الأعداد الآتية،
إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))