وفاتهما وترجمتهما (باحثة البادية) لقب للأديبة الشهيرة (ملك) كريمة حفني ناصف بك، اختارته لتوقيع ما كانت تنشره من مقالاتها وشعرها في الجرائد كما يفعله كثير من المتنكرين والمتنكرات في الشرق والغرب، توفيت لعشر خلون من المحرم فاتحة هذا العام، ثم احتفل بتأبينها في اليوم الثاني من شهر ربيع الأول، وقد كان شهر وفاتها وما بعده من الفترة التي لم يصدر فيها المنار، وشهر تأبينها ضاق عما أعد له، فرجونا فيه بأن نكتب شيئًا في ترجمتها وتأبينها في هذا الجزء. وفي هذه الفترة بين الجزئين توفي والدها الأسيف، وكان قبل وفاتها مريضًا فضاعف الحزن عليها المرض حتى صار حرضًا انتهى بالموت، وكان سبب موتها هي الانتقال من الفيوم إلى القاهرة، وهي مصابة بالنزلة الوافدة لأجل مواساته في إثر انكشاف كارثة كانت سبب مرضه أو سبب شدته، فأصيبت بما ضاعف النزلة، فكانت القاضية، وقد خسر القطر المصري - بل الأمة العربية - بوفاتهما ركنين من أركان النهضة العربية للرجال والنساء معًا، كما يتضح ذلك لغير العارف بفضلهما من أهل الأقطار البعيدة، مما تثبت من ترجمتها الوجيزة. باحثة البادية هي كبرى أولاد حفني بك ناصف، عُني بتربيتها وتعليمها وهي في شرخ الشباب وزمن الجهاد في إصلاح التعليم وترقية الآداب، وضعها في المدرسة السَّنية، التي هي أرقى مدارس البنات الأميرية، فكانت أول ابنة مصرية نالت شهادتها الابتدائية، ثم انتقلت من القسم الابتدائي إلى قسم المعلمات العالي، فجدت حتى نالت شهادة هذا القسم فيه، وكانت الأولى أيضًا، وكان من مبادي التوفيق أن كان من أساتذتها في القسم الأول الشيخ حسن منصور وفي القسم الآخر الشيخ أحمد إبراهيم، وهذان الأستاذان في الذروة العليا من مدرسي علوم اللغة العربية وفنونها في مصر، علمًا وآدابًا وأخلاقًا وحذقًا في التعليم، ثم إنها اشتغلت بالتعليم في المدرسة نفسها، فكانت خير معلمة كما كانت خير متعلمة، امتازت بالذكاء النادر، والجد والاجتهاد، والتنزه عما ينتقد من عادات الفتيات في هذه البلاد، فتم لها بالتعليم ركنان من أركان العلم، أو طوران من أطواره الثلاثة التي لا ينضج عالم إلا بمجموعها، وثالثها الكتابة والتأليف الذي وجهت إليه عنايتها بعد زواجها، واختيارها بنفسها شؤون الحياة الزوجية وتدبير المنزل، ولم ينقصها من الخبرة التي تؤهلها لمرتبة الإصلاح النسائي على وجه الكمال، إلا الحرمان من صفة الأمومة والقيام على تربية الأولاد، فسبحان من تفرد بالكمال، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. ثم إن والدها زوَّجها برضاها من عبد الستار بك الباسل أحد زعماء العرب المصريين وشيوخهم، وهو وأخوه الأكبر حمد باشا الباسل رئيسا قبيلة الرماح المقيمة بجوار الفيوم، وقد امتاز هذان الأخوان في عربان الديار المصرية وغيرهم بالجمع بين فضائل البداوة ومحاسن الحضارة، والتنزه عن رذائلهما، فمن الأولى: الوفاء والسخاء والنجدة والمروءة وقري الضيف وإغاثة الملهوف، ومن الثانية: محبة العلم والأدب وأهلهما والاطلاع على شؤون الاجتماع والعمران، ولهما مشاركة في هذا وما يتعلق به من مسائل التاريخ القديم والحديث والقوانين، زادتها معاشرتهما للطبقة العليا من العلماء ورجال الحكومة والسياحة في أوربة وبعض البلاد الشرقية اتساعًا وصقلاً، ولكن هذه المزايا التي اجتمعت لزوجها وسعة الرزق التي هي في نظر أكثر النساء خير منها ومن النبوغ في أي علم من علوم الدين والدنيا، كان يظن أن سيعارضها ما هو أقوى منها في نظر فتاة مصرية تعلمت التعليم العالي، وهو زي عبد الستار بك العربي من الشملة البيضاء والطربوش المغربي، ذلك بأن وجهة التعليم بمصر أوربية يقصد بها فرنجة المصريين كما قال لورد كرومر، ومن شأن اللواتي يتعلمن ويتربين على هذه الطريقة أن ينفرن من كل ما هو وطني محض من الزي والعادات، ويفضلن كل ما هو تقليد للإفرنج منها، حتى إن بعض بنات الوجهاء المتعلمات لا يقبلن زوجًا لأنفسهن إلا من كان حاملاً لشهادة عالية من أوروبة، لذلك استغرب كثير من الناس رضاء (ملك ناصف) بقرين لها من شيوخ العرب، وإن كان بيته أرقى من بيت أبيها ثروةً، وأوسع معيشةً. كما يرى القارئ هذا فيما ننقله في هذه الترجمة من تأبين تلميذة الفقيدة وصديقتها (نبوية موسى) التي هي تلوها في الذكاء والتحصيل، وما ذاك إلا أن فطرة (ملك) وتربيتها المنزلية وهدي أستاذيها في المدرسة حالا دون إفساد التفرنج للبها، واستحواذ زخرفه على قلبها، وبذلك كانت جديرةً بمعرفة قيمة رجل من كرام أمتها، لم يخطبها إلا لعلمها وحسن تربيتها، ففضلته على الشبان المتفرنجين المتطرسين، المتورنين الذين انسلوا من شرف الصيانة وفضائل الدين. وجدت الفقيدة من قصر الباسل أجمل منظر يتجلى فيه ذوق المرأة وعلمها بتدبير المنزل، ووجدت من عبد الستار أوفى زوج تهنأ معه الحياة الزوجية لأديبة مثلها يتساهمان تفضيل المزايا المعنوية على المظاهر الصورية , ووجدت من حريته الأدبية ما مكنها من نشر أفكارها الإصلاحية، ويقل أن يوجد في المسلمين حتى المتفرنجين منهم من يرضى لزوجه أن تنشر آراءها في الصحف المنتشرة، وتتصدى لمناظرة أرباب الأقلام فيها، بل أكثر البنات اللواتي يتعلمن في مثل بلاد أوربة ينتهي بالزواج اشتغالهن بالعلم فلا يجدن بعده وقتًا للتأليف ولا لإنشاء المقالات للصحف، ولذلك كانت آثار النساء القلمية قليلةً جدًّا بالنسبة إلى عدد المتعلمات منهن في كل أمة إذا قوبلت بآثار الرجال بالنسبة إلى عددهم، ولكن عقيلة الباسل لم تجد من بيتها وبعلها إلا التنشيط على الكتابة والنشر. لآل الباسل هؤلاء ثلاث دور آهلة. (إحداها) : بجوار مزارعهم وقبائلهم من مديرية الفيوم بالقرب من مدينة الفيوم وتعرف بقصر الباسل، وهي سكنهم الأصلي، وفيها يكونون في أكثر أوقاتهم. و (الثانية) : بمدينة الفيوم نفسها. و (الثالثة) : في القاهرة يقيم فيها حمد باشا أيام انعقاد الجمعيات التشريعية التي هو أحد أعضائها، ومن يتعلم من ولده في المدارس، ويختلف إليها هو وعبد الستار بك أيامًا من كل شهر لمصالح لهما في العاصمة، وللقاء أصدقائهما فيها، ويلم بها أزواجهما أيضًا، وقد حُبب لابنة حفني المقام في قصر الباسل لما فيه من اجتماع محاسن الحضارة والبداوة، وصفاء العيشة الخلوية مع رفاه العيشة الحضرية وزينتها، وتسنى لها فيه اختبار حال الفلاحين المقيمين بقرية قصر الباسل، وسكان الخيام من البدو المخيمين بجواره، فكانت تعاشر نساء الفريقين، وتتعرف على حال حياتهن الزوجية، ومن ثم انتزعت لنفسها لقب (باحثة البادية) . ظهر اسم (باحثة البادية) أول مرة في صحيفة (الجريدة) سنة ١٣٢٦ في ذيل اقتراح بناء مدفن لعظماء رجال مصر، فرددنا على هذا الاقتراح في المنار ردًّا دينيًّا رجحنا أن المقترح رجل متنكر فقلنا في أول الرد: نشر هذا الاقتراح بتوقيع (باحثة البادية) وما هو إلا خيال باحث في الحاضرة، أو تمني متفرنج في العاصمة، إلخ (راجع ص٣٨٠ م١١) وقد أخبرني عبد الستار بك من عهد غير بعيد أنها أرادت يومئذ أن ترد على المنار، واستشارته في ذلك فأشار عليها بأن لا تفعل قائلاً: إنك لن تستطيعي أن تجادلي كاتبًا من أئمة الدين في مسألة دينية كهذه ... ثم إنه علم منها بعد ذلك أنها استنبطت من ذلك أنه يكره لها أن تكتب في الصحف مطللقًا، فصرح لها بأن ظنها هذا خطأ، وأنه لا يكره أن تكتب ما ترجى فائدته، فكان هذا بدء حياتها الإصلاحية وخدمتها العامة، فالعامل في هذه الحياة الاستعداد الفطري، ثم دار النشأة وروحها الوالد الذي نبين كنهه في ترجمته، ثم المدرسة وروحها من ذكرنا من الأساتذة، ثم دار الزوج وهو روحها، وقد ذكرنا من أمر هذا العامل الأخير ما يعرف به قدر تأثيره في هذه الحياة، فهذه العوامل هي التي كونت (باحثة البادية) في حياتها التي تتجلى للقارئ في مقالاتها الخالدة وآثارها الباقية، ولما لم يجتمع ذلك لغيرها من بنات مصر في هذا العصر كانت في مسلمات مصر نادرةً شاذةً.
مقالاتها وآثارها القلمية كتبت مقالات كثيرة، ونظمت بعض القصائد والمقاطع من الشعر، وألفت عدة خطب في محافل اجتمع فيها مئات من كرائم النساء في القاهرة، وشرعت في تأليف كتاب في حقوق النساء في الإسلام وفي أوربة لم يتم، وقد نشر أكثر ما كتبت في الجريدة وجمع بعضه في كتاب سمي (النسائيات) وطبع الجزء الأول منه في سنة ١٣٢٨ , فقرظه نفر من الأدباء والعلماء، وقد ذكرت في تأبينها أن آثارها القلمية تدور على بضعة أقطاب، أو تدخل في ستة أبواب: (الأول) : تربية البنات، وتعليمهن في البيوت والمدارس. (الثاني) : المرأة - تأثيرها في العالم - تأثيرها الخاص في زوجها وولدها وأهلها - ما ينبغي لها في كل طور من أطوار حياتها - أحوال القرويات والبدويات والمدنيات - المقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الإفرنجية - الجمال والعادات والأزياء. (الثالث) : الزواج - سنه - حقوق الزوجين والعشرة بينهما - تقصير كل منهما فيما يجب عليه - تزوج المصريين بالأجنبيات. (الرابع) : الحجاب والسفور. (الخامس) : الرجال والنساء - جناية كل منهما على الإنسانية بجنايته على الآخر - وظائف كل منهما - مزايا كلٍّ ومساويه. (السادس) : شجون وشؤون عامة، كوصف البحر، والعيشة الخلوية والجمال، وأقلها شوارد شعرية في الحال الاجتماعية السياسية. وقيمة هذه الآثار ومزيتها التي استحقت به الفقيدة الترجمة في المجلات العلمية والإصلاحية، وتأبين فضلاء الرجال لها في حفلة عامة، هي في نظري أنها إصلاحية جاءت وسطًا بين آراء المحافظين الجامدين على كل قديم، والمتهافتين كالأطفال على كل جديد، وأن الكاتبة مستقلة فيها غير مقلدة. (للترجمة بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))