للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا


استنهاض همم
(٦)
هذا ما كان من أمر المسألة الشرقية في القرون الوسطى، وأما شأنها في
الأعصر المتأخرة، فمُباين جدًّا شأنها الأول، رأى القوم أن الزحف على الشرق
بالقوة، وإعمال السلاح في شعوبه فيه إنهاك للبشر وضعضعة لأسس الاجتماع
الإنساني وهذا مفوت لمقصودهم، مانع مما يتوخونه في قيام دولهم، وراحة شعوبهم
إلى تأسيس الدولة ورفع بنيتها لها، يكون على قواعد وأركان، فيها تكاثر أفرادها
ونمو مواليدهم وانتشار أمور الصناعة، وطرق الزراعة بين أهلها، ودوران دولاب
التجارة فيهم؛ ليكون عاملاً على ترويج المصنوعات، وتصريف المحصولات،
وروح كل ذلك الوئام بين الأفراد والطوائف؛ فيورثهم تضافرًا وتعاونًا على تأييد
صناعتهم وزراعتهم، وصيانة مصالحهم العامة من الاختلال والاضمحلال، فافتتاح
الأقاليم بمقاليد الصوارم، وإخضاع أعناق المماليك بصدور اللهازم، والتغلب على
شعوبها بالحرب وسفك الدم، هادم بنيان الدولة قد عثر (مقوض) لقواعدهم
وأركانها، الحرب تحصد البشر وتمحق أرواحهم، وتوقف دولاب التجارة، وتبطل
حركته، وبوقوفه تتقهقر الصناعة والزراعة، والحرب تشرب قلوب المغلوبين
أَوغَارًا وأحقادًا على الغالبين، وتلوث نفوس هؤلاء بالريبة والحذر من أولئك، وزِِد
على ذلك ما إذا كان في القبيل المغلوب طوائف متضافرة متناصبة، وكان ضلع
القبيل الغالب مع إحدى تلك الطوائف، فإن أخوف ما يخاف على الدولة الغالبة
حينئذ استشراء الفتن في داخليتها، وشبوب نارها بين الشعوب المكونة لهيئتها،
وفوق ذلك كله: مناظرة الدول بعضها لبعض، وتسابقها في حلبة التمدن، وطمع
كل منها في إحراز النصيب الأوفر من الحضارة والعمران، واستتمام النظام
الاجتماعي، فلو تهورت إحداهن وتقحمت حربًا جرت عليها ضعضعة في الداخل،
وضعفًا في الخارج، كان ذلك باعثًا لأخواتها على مد أيدي الطامعين إلى أطرافها،
بل مدعاة لتطلعهن للظفر بقلبها. هذا ما أشعر قلوب الأمم الغربية التخوف من
الحرب، والتهيب لسوء عقابها، وحدا بهم لتنكُّب سبيلها، وسلوك سبل أخرى تؤدي
إلى ما تؤدي إليه الحرب من الفتح، والتغلب بدون أن يعترض سالكها ما يعترضه
في سلوكه سبيل الحرب، وتلك السبل هي شؤون مؤلفة من تعاليم دينية - سرية
وجهرية - ومبادئ فلسفية وأدبية، ووسائل تجارية وزراعية وصناعية، تتمشى
في الشعوب والبلدان، تمشي الوسن في الأجفان، وراء كل هذه الشؤون المعنوية
قوة من الإرهاب والتهويل والتخويف والتهديد، تؤيد تلك الشؤون وتحميها، فإذا
أجزأ ذلك، وكفى في التغلب على الشعب المطموع فيه، وافتتاح بلاده والإعزاز
بالقوة الجهنمية قوة الموزير والمكسيم، فأنت ترى أن تلك الشؤون السلمية المعنوية
التي اعتمدت عليها لدول في قهر شعوب الشرق، وإن لم تكن حربًا، فهي معتمدة
على الحرب معضدة بها، أو الحرب منها بمنزلة الروح من الجسد، هو يتقلب في
وظائفه، ويراوح بين أعماله، والروح تدبره وتسدد حركاته.
منذ اهتدت أوروبا إلى هذه السبل، والشؤون في الاستيلاء والفتح، أعملتها
في المسألة الشرقية، وتغلبت بها على جزء عظيم من ممالك الشرق وأصقاعه،
وأوقعت في فخاخها كثيرين من أقوامه وشعوبه، وهي لا تزال تنصب هذه الفخاخ،
وأمم الشرق لا تزال تقع فيها الواحدة بعيد الأخرى، كأن على البصائر رينًا، أو
على الأبصار غشاوة، ولم تكتب السلامة على واحدة منهن سوى أمة اليابان وربما
كانت مكتوبة أيضًا لأمة الأحبوش، وقد أتينا على تفصيل ذلك أولاً، أما سائر الأمم،
فيختلف قربها وبعدها من تلك الفخاخ باختلاف حسن الإدارة الداخلية في تلك الأمم
وقبحها، وانتظام شؤونها المالية والعسكرية وعدمه، وكثرة تنور أهلها بالعلم
والعرفان وقلته، وهكذا استعمار أوروبا في الشرق بلغ من النكاية في المسلمين مبلغًا
لم يبلغه في سائر أممه على اختلاف أديانها ولغاتها، ونكلت بهم سلطة الأجانب
تنكيلاً تركهم مثلاً وعبرة لكل معتبر غيرهم- إنكلترا تسوس من مسلمي الشرق
سبعين مليونًا ويتلوها هولانده في الجاوه فإنها تسوس ثلاثين مليونًا ثم البلجيك في
الكونغو وتسوس عشرين مليونًا ثم فرنسا وتسوس سبعة عشر مليونًا ولروسيا
وتسوس خمسة عشر مليونًا ثم وثم حتى الجبل الأسود يسوس من المسلمين أربعة
عشر ألفًا.
وبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
ومجموع ما هو تحت سلطة الأجانب من المسلمين يناهز مائتي مليونًا، والذي
لم ترهقه بعد تلك السلطة يشارف مئة مليوناً، وهذه المئة المستقلة منها خمسون
مليونًا مندمجة في إمارات بسيطة هي أقرب إلى البداوة منها إلى الحضارة، ومطوية
في قبائل رحل ضاربة في موامي إفريقيا وفيافي آسيا وجزيرة العرب ليسوا على
شيء من الإدارة، لا نظام يسوسهم، ولا انتظام يقود مقاتلتهم، وأما خمسون مليونًا
الأخرى، فهي موزعة على الحكومات الأربع على هذا الحرص في الحكومة
العثمانية، ثلاثون مليونًا، وفي الفارسية تسعة، وفي المراكشية ثمانية، وفي
الأفغانية أربعة، وإنما كان ذلك خرصًا وتخمينًا؛ لأن عدد السكان في المراكشية لم
يدخل بعد تحت الإحصاء المدقق، وكذا سكان ولايتي طرابلس الغرب واليمن من
ولايات العثمانية [١] .
مهما يكن من سائر الشؤون، فإن الخطاب في الإصلاح الإسلامي، والتكليف
في القيام بمقدماته، والدعوة إلى الشروع فيه؛ إنما هو موجه نحو زعماء وعقلاء
تلك الحكومات الأربع المستقلة [٢] التي تسوسها ملوك وسلاطين، وتشغل مركزًا
سياسيًّا، ويحكم فيها بشريعة ونظام، ولها وزراء وقواد وقضاة، وخرج ودخل
وصادر ووارد.
أما درجات تلك الحكومات الأربع في الانتظام، واتساق هيئة الاجتماع،
فالعثمانية أولاً، ثم الفارسية، ثم الأفغانية والمراكشية. العثمانية أكثر نفوسًا،
وأقوى نفوذًا، وأضخم سلطانًا، وأعظم شأنًا، وأعرق دولة، وأشد صولة، وهي
من سائر العالم الإسلامي بمكانة الدماغ من جسد الإنسان. هذا ما حمل عقلاء الأمة
ونبهاءها الساعين في دعم ما تداعى من بنائها على اللياذ بالخليفة العثماني،
وللصوق بسدته. تراهم متلعين بأعناقهم، شاخصين بأبصارهم، مصيخين بآذانهم،
علَّهم يتلقون من ذلك المقام الرفيع كلمات تكون محورًا تدور عليه الوحدة الإسلامية،
أو قانونًا يرجع إليه العاملون في إصلاح الشؤون.
جدير بالمسلمين أن تتصدى رجالاتهم وساداتهم للتأليف والتقريب بين تلك
الحكومات الأربع، وتوثيق وشائج الاتحاد بينها، وتسعى في إحالة الخلاف والمودة
من الخلاف والمحادَّة. هذه فرصة على مَقربة منهم فليغتنموها، ونهزة أغضى لهم
الدهر عنها فلينتهزوها، ومصلحة عامة يتوقف عليها استقلالهم، وبقاء أمرهم
فليبتدروها، ما لأمراء تلك الحكومات لا يميطون عن أنوفهم تلك الخنزوانة
(الكبرياء) الجاهلية، ويصطلمون من نفوسهم تلك العزة الوهمية؟ ! ليخفضوا لذي
السلطة الكبرى جناح الانقياد والطاعة؛ ليشايعوه في مدافعة تلك المخاطر التي
تحتف ببلادهم، وتهدد استقلالهم؛ ليمالئوه على إصلاح حال المسلمين، وتوحيد
متفرقهم، والتحلئة (الدفع) عن حرضهم؛ علَّهم بذلك يجددون للأمة عِزَّها،
ويرجعون إليها سالف مجدها؛ فيستوجبون من الله جزاء جليلاً، ومن التاريخ ثناء
جميلاً. ما لهم لا يأتسون بأمراء الشام؟ ! سالت عليهم الفجاج بشعوب الإفرنج؛
فالتفوا حول أميرهم الأكبر، وتلقوا تلك السيول المنحدرة -غمرة بعد غمرة -بعزائم
الأبطال؛ ففلُّّوا عزمها، وبَدَّدوا نظامها. ما أخوفني عليهم أن يتخاذلواتخاذل أمراء
الأندلس؛ فيفشلوا- لا قدَّر الله فشلَهم - ويصيبهم من الدواهي مثل ما أصابهم، ومن
هنا نلفت إلى ما كان اعترَضنا به في غضون الحديث أحد الحاضرين، وهو قوله:
كيف يكون انحلال عقد تلك الحكومات إذا لم نتفق وهل يسلم لواحدة منها استقلالها؟
فنقول:
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))