للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: صالح بن علي اليافعي


أسباب ضعف المسلمين وعلاجه
كتب رفيق بك العظم مقالة (هذا أوان العبر) في حال المسلمين , فكان لها
من التأثير في نفوس نبهاء المسلمين أن انتدبت جريدة (تربيت) الفارسية الغراء
التي تصدر في طهران إلى ترجمتها , ثم جاءنا في بريد الهند الماضي رسالة مطولة
من أحد فضلاء حيدر أباد الدكن يثني فيها على (الرفيق) بما هو أهله من الغيرة
والإخلاص والفعل، وينتقد رأيه في جعل مزج السياسة بالدين هو السبب في
ضعف المسلمين , ويذكر ما عنده من الرأي في ذلك بغاية الأدب , ويعرضه على
فضلاء المسلمين في مصر وفي سائر الأقطار ليؤيدوه أو ينتقدوه. ولما كان هذا
البحث أهم المباحث التي أنشئ المنار لأجلها , وكان صاحب هذه الرسالة من أحسن
الكاتبين فيه أدبًا وبيانًا نشرنا مقالته كما نشرنا مقالة الرفيق. وقد قسمنا مقالة
الفاضل الهندي إلى قسمين أحدهما: في بيان الداء وأسبابه , والثاني في علاجه.
قال حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم نحمده ونستعينه
جناب سيدي محمد رشيد رضا مالك مجلة المنار الفاضل والعلامة العامل الذي
أيد الله به الدين، وجعل وجوده نعمة ومِنَّة على المؤمنين , فنشكر الله على هذه
المنحة، ونحمده على هذه النعمة.
بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإني محبكم في الله حقًّا وصدقًا ,
وأسأل الله أن يزيدكم من فضله ويثيبكم على سعيكم في إحياء السنة وخدمة الأمة ,
وإني أرسلت إليكم هذه الرسالة فأرجو من فضلكم أن تدرجوها في المنار , وإن
رأيتم تحسينًا فلكم الفضل , على أنه يمكن أن تكون عليكم مشقة. ولكن في نصح
المسلمين ومحبة السنة والأمة لا أراكم تتوقفون، ولا تعوقكم أي مشقة , وإن أحببتم
أن تجيبوا بجواب خطي فذلك يكون فضلاً وكرمًا من حضرتكم.
والذي ساقني إلى كتابة هذه الرسالة أني رأيت في أثناء مطالعاتي الجزء
الثامن من المجلد السابع من مجلة المنار التي هي مُنى الأبرار، وقرة أعين الأخيار،
رسالة عنوانها (هذا أوان العبر) أنشأها الأخ الصالح الغيور رفيق بك العظم
أفصح فيها عن حالة المسلمين بما يفتت الأكباد، ويصدع الجماد، وهو لَعْمرالله
كلام من فؤاد مليء حمية وغَيْرة وطنية، ودل على حسن طوية، وإخلاص نية.
وإني لا أقصر ثنائي عليه فقط، ولا أنسى الشكر لكثير من إخواننا المصريين
الذين لا يزالون يحررون الرسائل، وينبهون الغافل. والأخ رفيق بك المعظم جعل
موضوع رسالته البحث عن سبب ضعف المسلمين، وانحلال روابطهم وتدليهم إلى
حضيض الجهل، ثم ما هو مانع للمسلمين عن الترقي ومجاراة الأمم المتمدنة
ورأيته أبدى من رأيه على ما يعتقد أن سبب ما ذكر هو مزج العرب للدين بكل
شيء من أمور الحياة الدنيوية وأخصها حياة الأمم السياسية , والأمة الإسلامية
استسلمت وصارت خاضعة لأولئك الولاة بحكم الدين حتى تأصل فيهم روح
الخضوع المطلق والطاعة العمياء لأولئك الأمراء المستبدين الذين يسومون الأمة
الخسف , ولو أن العرب في بداية الأمر وضعوا الدين جانبًا، والسياسة الاجتماعية
جانبًا، وقلدوا الأمم المتمدنة في ذلك العصر كالرومان لما سقطت الأمة الإسلامية
هذا السقوط. وبالجملة فلا نجاة إلا أن يجتمع المسلمون ويضعوا الدين جانبًا
وسياسة الملك جانبًا.
فهذه خلاصة رسالته , ولا ريب في سقوط المسلمين عن عرش مجدهم
وانتشارهم إلى حالة الهمجية عن معاقل الاتفاق، وشرههم فيما بينهم على الشقاق،
حتى صدق فيهم قوله تعالى: {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (الحشر: ١٤) بل المسلمون قلوبهم شتى , ولا تحسبهم جميعًا لتجاهر بعض
لبعضهم بالعداوة. أحرجهم الزمان، وأراهم العبر بالعيان، وهم لاهون، فيالله
العجب ‍‍! ! إلى متى هذه الغفلة , والتردي في هذه الغواية , والتكاسل عن الجد.
والرفيق أبدى رأيه بقصد إصلاح قومه ووضعه للنقد والاختيار فشكر الله سعيه
و (إنما الأعمال بالنيات , وإنما لكل امرىء ما نوى) . والإنسان يبذل جهده ويصلح
نيته، وليس عليه أن لا يخطئ. وحيث إني ظهر لى غير ما ظهر له، ودلني
عقلي على عكس ما أبداه أحببت أن أبدي رأيي , وأضعه أيضًا للتمحيص والنقد
والاختبار فإن رآه المسلمون حسنًا صحيحًا فذلك فضل الله فليشيعوه، وليبسطوه
بالرسائل , وأرجو من أهل الجرائد أن ينشروه ليطلع عليه العام والخاص {وَذَكِّرْ
فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: ٥٥) وإن كان غير ذلك فذلك شأني ,
وعسى أن يُظهر الله الصواب على يد من أراد فأقول:
(إن من قرأ تواريخ المسلمين عرف ما انتاب هذه الأمة من النوائب
والمصائب التي لا تكاد تثبت لها شوامخ الجبال , وهي كثيرة , وأعظمها تأثيرًا
على جامعة الإسلام أمران ناشئان عن تركهم الدين وإهمالهم إياه؛ أحدهما في
أمورهم الشخصية، والآخر يتعلق بحياتهم الاجتماعية السياسية. بيانه: أن أعظم
سبب لسقوطهم، وتزعزع ملكهم بادئ بدء أن من لم يستحق الخلافة ولم يكن من
أهلها، ولم تجتمع له شروطها، ولم ير أهل الحل والعقد انتخابه لها هاجم أهل
الحق ونازع الحق أهله وأغار عليهم بإثارة الحروب وأعانه من رغب في جمع
الحطام؛ باستمالة الطغام من العوام، وكان ما كان حتى انتهت تلك الحروب الهائلة
التعيسة بانتصار هؤلاء الظلمة لأسباب لا حاجة بنا إلى بسطها، ولو كانت الغلبة
لأهل الحق والعلم والدين والنُهى لما كانت حالة المسلمين ما نرى، ولكن لا ينفع (لو
وعسى) في أمر مضى وانقضى.
ولما رأى هؤلاء المغتصبون أنهم لم يظفروا بما ظفروا به إلا بالقهر , وخافوا
أن يكر عليهم أهل الحق مرة أخرى مالوا عليهم ميلة ظافر غشوم فقتلوا أحلامهم،
وانتهكوا حرمتهم، ووكلت بمن بقي منهم الرقباء والجواسيس , فتفرقوا في البلاد
مختفين لا يبدون ولا يعيدون , يعاقب الواحد منهم أشد العقاب على كلمة يقولها.
يوضح ذلك قول أبي هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءَيْنِ من العلم أما أحدهما: فقد بثثته
فيكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم , أو كما قال) وهو في الصحيح ,
وهؤلاء المتغلبون الغاصبون جعلوا الخلافة ملكًا عضوضًا كما أخبر بذلك رسول
الله صلى الله عليه وسلم في معرض الذم , وعدلوا بها عن منهج دين الله وشرعه ,
واستأثروا ببيت مال المسلمين , واستبدوا بآرائهم معاندة لسنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم وخلفائه - رضي الله عنهم - وعصيانًا لأمر الله في كتابه، وآثروا
الجهلة والفساق بالوزارة والإمارة بجامع التشابه، ولله در القائل: (إن الطيور
على أشباهها تقع) .
فهذه أول مخالفة للدين وقعت في تاريخ الإسلام، وهي سبب سقوط المسلمين
وأعظم مانعٍ صَرَفَ المسلمين عن جميع القواعد والأصول وتفصيلها وترتيبها التي
شرعها الله لهم , وندبهم إليها لتكميل حياتهم الاجتماعية السياسية فبقيت مفرقة كما
أنزلت لا يحيط بها علمًا إلا العاملون الذين مر ذكرهم، وبيان حالهم , ومهملة لا
يحتفل بها الأشرار، ولا يسمحون بنشرها للأبرار، لما أنها مخالفة لتلك الأنفس
الشهوانية، والرغائب الحيوانية.
خاف أولئك المستبدون أن تشتهر تلك الأصول وتعتقدها عامة الأمة فيطالبوهم
بما تقتضيه جبرًا , فبقيت محجوبة في زوايا الإهمال , وبتركها شقي المسلمون،
وسعد بها في دنياهم أهل الغرب، وكانت أكبر الغنائم التي آبوا بها , واستفادوها
من حروبهم ومخالطتهم المسلمين، كما سعدوا أيضًا بفوائد العلوم الفلسفية الطبيعية
من هناك , فكان نصيبهم من علومنا ما نسمع ونرى، ونصيبنا القيل والقال،
وكثرة الجدال كالذي يحمل الأثقال، وكانوا كالمُبَلَّغ أوعى من السامع.
والسبب الثاني جناية على الدين ومخالفة له أيضًا، وهو الذي أقعدهم على
بساط الذل والهوان، وبه يرسفون حتى الآن في مهاوي الخذلان، لا يلوي أحد
منهم على الآخر، وبه كانوا شيعًا متفرقين، وكان السبب الأول كالعدو القوي
الهاجم، وتلاه السبب الثاني يجهز على الجرحى ويعاجل، وهو أعظم رزية، وأشد
بلية، ألا وهو نبذهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم ,
ومع ذلك فهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. جهل مُرَكَّب، وغواية عمياء , وفتنة
دهماء، وإلى الله شكاة رسوله {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ
مَهْجُوراً} (الفرقان: ٣٠) إذ لم يمتثلوا وصيته - بأبي هو وأمي- فيما صح عنه:
(إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي) ورد
بروايات متقاربة المعنى. بل عدلوا عن سبيله , وأكبوا على تقليد الرجال إلى
مذاهب مختلفة، وآراء غير مؤتلفة , والله يقول وهو أصدق القائلين: {إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: ١٥٩) فنستغفر الله،
وحسبنا الله , والعياذ بالله من هذه العاقبة الوخيمة، والتفرق المشئوم الذي يفسد
الدارين , ويشقي النشأتين، في الآخرة براءة نبينا صلى الله عليه وسلم منا وهو
الذي شفاعته أعظم ذخيرة، وفى العاجلة ذهاب الريح والنصر في حياة منغصة
بالتهاجر، وبالجملة فالتقليد جلب علينا كل طامة لو لم يكن إلا فَصْمه عرى الوفاق،
وتهييج الشقاق لكفى. ألا ترى كل فرقة من فرق التقليد تود أن لو سمح الزمان لها
باستئصال الفرق الأخرى وإعدامها من الوجود، ولقد بلغ بهم هذا الشغف إلى أحقاد،
وأثر هذا الاختلاف أشد تأثير على إحساس المسلمين كما هو مشاهد.
وإن شئت تحقيق ذلك؛ فدونك ومذهبًا من تلك المذاهب استخرج منه مسألة
مخالفة للكتاب والسنة فنبه عليها بخصوص كونها من المذهب الفلاني , ثم ادعهم
إلى الحق والعدول عن تلك المسألة. لا ريب أنك إن فعلت ذلك ترى من جماعة
ذلك المذهب العجائب والغرائب، والصياح والناح، والتأولات وسائر التمحلات،
ويقاومونك أشد مقاومة، ويرمونك بكل حجر ومدر , وتعلم حينئذ صدق ما قلنا من
أن هذه التمذهبات أذهبت من المسلمين الإحساس بكل طارق مؤثر , وصرفتهم عن
الالتفات والتوجه إلى ما سواها , ولأجل ذلك لا تكاد ترى من علمائهم فضلاً عن
عوامهم تألمًا أو إحساسًا بما يعانونه ويقاسونه من وطأة الأعداء , واعتصابهم على
بلادنا، وركوبهم كواهلنا الضعيفة، وهؤلاء الأعداء لا يزالون في جد واجتهاد
يسوموننا كل دنية , والمسلمون مع ذلك كله لاهون وغارقون في العماية المظلمة
بتلك الأفكار.
أقرب مثال لهم وأشبه حالة المجنون الذي يلعب به الأطفال ويسومونه النكال،
وهو لاهٍ بما هو فيه، وجسمه في عناء يستوجب الرحمة من الأعداء، بل صرنا
إلى حالة أحرج من حالة هذا المجنون، وتربص بنا كل ذي طمع ريب المنون،
وطوقوا أعناقنا بآصار النكال، وحملوا كواهلنا أنواع الشقاء الثقال، ونحن لا ننبث
باستغاثة، ولا نستطيع شكاية، فهل سمع السامعون أو رأى الراءون أن أحدًا يخاف أو يعجز أن يقول لمن ظلمه: (يا هذا ارحم ضعفي) ، أو (خف الله ولا تظلمني) ،
أو (اعدل في حقي) لا لا لا , لم يبلغ أحد إلى هذا الحد إلا المسلمون في هذا
الزمان، وذلك بسعي سلاطينهم وأمرائهم الذين يجب أن يخلد لهم التاريخ الثناء الجميل
بذكر غيرتهم وشجاعتهم وحسن سياستهم وتمسكهم بأوثق عرى دينهم! !
فسحقًا لهم وبعدًا من أمراء، يا ليت لنا بأكثرهم رجلاً واحدا من سواس الغرب الذين
لو أُعْطِيَ أحدهم الدنيا بحذافيرها ليحط من قدر قومه ولو بكلمة يفوه بها لم
يطاوعه طبعه، فضلاً عن أن يخون أمته، أو يرضى بالدنية لها. اللهم إلا أن يكون
في معرض الخداع لنا ليسوقنا إلى فخه، وبعكس ذلك أكثر أمرائنا ومتولي شئوننا
البطرون المتكبرون على قومهم وبني أوطانهم، ثم تراهم متملقين صاغرين بين أيدي
الأجانب يتسابقون إلى إرضائهم حتى إن أحدهم إذا لاطفه الأجنبي بكلمة،
ولعلها مخادعة يكاد فؤاده يطير فرحًا وسرورًا، ويرى كأنه أوتي مفاتيح جنة الخلد،
ويضحي أمته ووطنه، أفلا يتفكر في عاقبة نفسه وولده، إذا لم يبال بعشيرته وبلده.
هذه الكلمات هي وإن كانت نفثات مصدور لم تتجاوز الواقع , ولا تنس شكر
كثير ممن يدعي العلم والتفقه الذين لهم اليد البيضاء في التهييج بين طوائف
المسلمين الذين يزينون لهم الاختلاف، والتعصب لمذاهب الأسلاف. اللهم إنه عَمَّ
البلاء وإليك المشتكى , فيا أمة الإسلام قد تجاوز الأمر حده وبلغ السيل الزبى , فهل
من إفاقة؟ أليس التقليد أكثف حجاب دون إدراك كل حقيقة، وهل هو إلا عجز،
والعجز علة كل آفة، والعائق عن العلم والعمل، والمانع لكل سعادة شخصية أو
قومية , وفيه نزل قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: ٣١) إنك إذا أمعنت النظر , وطرحت تشكيكات المُتهوِّكين جانبًا ,
وقصدت الإنصاف , ومحضت النصح لله ورسوله ولقومك وإخوانك المسلمين؛ فلا
شك أنك توافقني على ما ذكرت لك من آفات التقليد.
أيها الواقف المنصف المشفق , دونك والنظر إلى أحوال تلك الفرق، وما
صنفوه من الأسفار والأطمار التي استحكم بها هجران النصوص حتى رمت بالأمة
إلى العناد والضغائن والأحقاد، وطوحت بهيكل اتحادهم إلى الزوال والفساد،
صنفت حروفها بسواد الخطأ مع ما فيها من التعقيد والتناقض والاضطراب والخفاء ,
ولو رأيت ما لهم من المختصرات المبهمة العبارات لا تكاد ترى فيها: قال الله،
قال رسوله صلى الله عليه وسلم، بل ولا قول الإمام الذي يزعمون أنهم قلدوه أمر
دينهم. أما تعجب من أصولهم المتضادة، وآرائهم المتناقضة، وطرقهم الوعرة
الضنكة التي تحرج مَنْ أَمَّهَا , وغدوا وراحوا يقترحون على الأمة، يحرمون
ويوجبون بالخرص والظنون، لم يألوا جهدًا في التشديد والتضييق قياسًا واستنباطًا ,
وكناية وقرينة , ومفهومًا وفحوى , وإشارة وتأويلاً إلى غير ذلك مع سلوكهم فيما
ذكر طريقًا معوجًا عن طريق السلف الصالح. اشترطوا على القضاة في القضاء
والسلاطين والأمراء في السياسة شروطًا يصعب التزامها , ويستحيل العمل بها
ولولا خوف الإطالة لذكرت من مخالفتهم الكتاب والسنة , والعقول والفطر،
والسياسة والنظر ما يضحك الثكلى ويمنع من ذكره الحياء.
وبسبب هذا الغلو الذي نهى الله عنه، وذم أقوامًا عليه في قوله: {قُلْ يَا
أهل الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (المائدة: ٧٧) الذي يسميه المقلدة احتياطًا؛
هجرت السلاطين الشريعة في أمر القضاء والسياسة بزعم دعوى أن الشريعة شاقة
وغير مطابقة لمصلحة الزمان، وتركتها عامة الأمة أيضًا في أكثر أحوالها وجميع
معاملاتها، بل أكثر المتفقهة متحيرون تراهم في عدو إلى الحيل يخبطون، ولا
تظن أن هذا الترك قريب العهد , فإنه لم ينقل إلينا التاريخ أن طائفة من طوائف
التقليد استطاعت إجراء شئونها على جميع قواعد ومسائل المذهب الذي اعتنقته ,
فتمذهبهم ليس هو تمذهب عمل واكتساب ثواب، بل اعتقاد وأقوال، ونزاع وجدال،
وتخاذل وافتراق، وضياع ونفاق، وبلاء وشقاق، وكان نتيجة هذا التقليد أن
شوهوا وجه الشريعة الغراء حتى ظن من ضعف إدراكه وعدم إحساسه أن الشريعة
ليست سوى ما بأيدي هؤلاء المقلدة , أو لم يسمع قول الشاعر:
وكل يدعي وصلاً لليلى ... وليلى لا تدين لهم بذاكا
ما درى هؤلاء السلاطين والعامة المساكين أن الشريعة وراء ما خدعوا به من
آراء الرجال، وإنما هي الكتاب والسنة , وما عليه الرعيل الأول , والخلفاء
الراشدون , وهي السهلة السمحة، والرحمة التي لا يزيغ عنها إلا ظالم , وهي في
أعلى رتب المصالح، وما ذكره المقلدة من الإحراج والتضييق لا تأتي به لأن
الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي
عدل كلها ورحمة كلها، ومصالح كلها وحكمة كلها، فما خرج إلى ضد ذلك فليس
منها.
وبالجملة فليس أضر على الأمة من هؤلاء المتفقهة المقلدة الذين هم قذى
العيون وشجى الحلوق وكرب النفوس، وحُمَّى الأرواح، وغم الصدور، ومرض
القلوب. إن استعنت بهم في لمِّ شعث الأمة لم يعينوك , أو دعوتهم إلى الصلح
والإصلاح لم يجيبوك، قد انتكست قلوبهم، وعمي عليهم مطلوبهم، ورضوا
بالأماني، وابتلوا بالحظوظ، وأتعبوا نفوسهم في غير ما شيء، وحيروا العامة
وأضاعوا الأمة.
وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها؟
اللهم إنا من هذين الطائفتين في عناء وشقاء وبلاء، اللهم أصلحهم ووفقهم إلى
ما فيه صلاحهم وصلاح الأمة، ودلهم على التوبة والأوبة إلى الأخذ بالكتاب والسنة،
اللهم جنبنا وإياهم البدع والضلالة , وألف بين قلوب المسلمين.
وما ذكرناه هو التقليد المتأصل، وما سواه فهو فرع عنه. ومن ذلك طوائف
زادت الطين بلة بلية على بلية , تلقبوا بألقاب، واتسموا بسمات؛ فمنهم القبوريون
المحتالون على سلب الأموال. أفسدوا العامة بفتن القبور والاستغاثة بهم في كل ما
قل وجل , يوهمونهم أنهم ينفعون ويضرون حتى في جلب الرزق ودفع الأعداء،
وقد كان تقليد المذاهب المار ذكره فرقهم طوائف وزرافات، وجلب عليهم الآفات،
وسلب منهم صفة التعاون والتناصر , وأمات شعورهم عن المطالبات بحقوقهم.
وفتنة القبوريين والمحتالين وتقليدهم أقعدهم عن اكتساب العلم والجد في رضى
المولى وعبادته والإخلاص له , واتكلوا على الأموات وشفاعتهم، ولهم حكايات
يطول شرحها، وسمعت بعضهم يقول: إن الولي الفلاني يرمي المدافع من قبره
على الأعداء، والعامة إذا سمعت مثل هذه الخرافات آمنوا بها، ووطنوا أنفسهم
على ذلك حتى في الدفاع عن حرمهم ووطنهم , فما بالك يا أخي تظن أنه مع هذه
الفواقر يبقى للأمة الشعور والحياة القومية , فإن بقي لك أمل بعدما عرفت ما هم فيه
من جناية التقليد عليهم فكيف يتحقق ويثبت هذا الرجاء، وقد أتت الطائفة الثالثة
أعني المتصوفة تدعو إلى تقليدها واتباع سبيلها، تدعو إلى الخمول والفقر
والانطراح والاتكال على القدر مع رفض الأسباب , واعتقاد وحدة الوجود بالأذواق
والكشوفات التي لم يشموا رائحتها , ولم يتصوروها لا بحدها ولا برسمها , ولكن
يحكى ويروى أنها حصلت لأسلافهم، ونحن لا نذكر أموات المسلمين إلا بخير،
فإنهم قدموا على ما قدموا عليه , وإنما كلامنا في الأحياء بقصد إصلاح الأمة،
وعسى أن الله يلقي في قلوبهم نورًا ويصلح شأنهم.
وبينما نحن نصيح بالويل والثبور ونتململ تململ الممرور، من مصائب
تراكمت علينا، ونئن وراء حجب التقليد التي هي كظلمات في بحر لجي يغشاه
موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض، نترجى ونتعلل
بلعل وعسى منتظرين بارقة لطف ونجاة تكون على أيدي شباننا المتخرجين في
المدارس الغربية والتعاليم الأوربية؛ إذ عاد إلينا أكثرهم بصفقة المغبون , فآبوا
إلينا ونحن على ما ترى وتشاهد من الضَعْف وانحلال الروابط الاجتماعية
والفقر المدقع , وأحوج ما نكون إلى العلوم الحديثة الغربية النافعة , ولم يبق فينا من
الخلال القومية إلا التمسك بلغتنا واللباس الصوري الظاهري , وبعض رسوم عادية ,
فرجع أولادنا وشباننا من هناك وقد بدلوها تقليدًا للغربيين , ولم يستفيدوا غير هذا
التبديل , ولم يفيدوا قومهم إلا أنهم شرعوا يطالبونهم بمحو هذا الشعار الظاهري ,
وبعده تحتجب الأمة وراء حجاب العدم بالكلية , يا ربنا يا غياث المستغيثين، إنا
مسنا الضر وأنت أرحم الراحمين.
أيها الشبان , إن من ذهبتم إليهم ودخلتم مدارسهم يعدون شعار أممهم الظاهري
أنفس الأشياء وأهمها , يسترخصون في المحافظة عليه الأنفس والأموال، فهم
الرجال والله هم الرجال، فهلا قلدتموهم في هذا الشعور والغيرة , وهلا شعرتم
وعرفتم ما عرفوه وشعروا به من منافع هذا الشعار وأسراره! ! إني وكلت
التفصيل في هذا المقام إلى عقولكم آه آه، وا حر كبداه من هذا العدو القاسي الغشوم ,
لقد افترسنا هذا التقليد في كل مكان وزمان أعدمه الله ومحا رسومه. فيا أمة
الإسلام هل من نهضة تنتصفون بها من هذا العدو وتبيدونه , فالنجاء النجاء مادام
فينا رجاء.
إلى هنا تم ما أردته من بيان أسباب سقوط الأمة الإسلامية , وعلة تقهقرهم
عن مجاراة الأمم المتمدنة في هذا الزمان , والأخ رفيق غفل عن ذلك. وقوله: إن
العرب خلطوا الدين بكل شيء من شئون الحياة ... إلخ، خلاف الواقع , وإنما
أصابهم ما أصابهم بحيدتهم عن الدين , وإهمالهم لتعاليمه خصوصًا ما يتعلق منه
بالملك وحياة الأمم , وأغرب من ذلك تمنيه لو أن العرب سلكوا بالخلافة والملك
مسلك من جاورهم في تلك الأزمنة من الأمم المتمدنة بزعمه كالرومان وغيرهم ,
وهذه أيضًا غفلة منه حفظه الله.
بيانه أن تلك الأمم لا توجد لديها قوانين سياسية كافية مهذبة متكفلة بكبح كل
متعهد، وردع كل طاغ بحكم المساواة بين الكبير والصغير , والمأمور والأمير ,
وطريقة ملك العرب الإسلاميين مع اختلالها، ومخالفتها الدين في كثير من أحكامها
وأعمالها هي أقوم وأعدل مما كان بأيدي تلك الأمم. يؤيد ذلك ما نقل إلينا التاريخ
من مهاجرة كثير من تلك الطوائف , ورغبة الآخرين ورضاهم عن ملوك العرب
أكثر من رضاهم عن ملوك بلادهم. غاية ما ينقل عن أولئك الأقوام والأمم الغابرة
أنه كان بعد كل فترة من الزمان يقوم بين أظهرهم بعض حكماء يوالون الخطب
والمواعظ , ويهيجونهم إلى الحماسة الدفاعية والهجومية، ومن وراء ذلك تفرقهم
إلى إيالات وإمارات صغيرة أكثرها غير معترف بسيادة أو تابعية لملك تلك الأمة ,
وبعض يعترف له ببعض السيادة والتابعية مع عدم الانتظام وكمال العدل، بل كان
استبداد السلاطين والأمراء هو السائد، وليس لأممهم ورعاياهم إلا التسليم , وعليهم
الطاعة العمياء , حتى إن الواحد من تلك السلاطين كان يلقي بأمته إلى التلف
والحروب لينال بعض شهواته الحيوانية من امرأة كحرب كسرى، وحشده جنده
على بني شيبان. وأسوأ حالاً منهم ملوك النصارى , وتلاعب البابوات والأحبار
والرهبان بهم أشهر من أن يذكر , فما بالك بالهند وملكهم الأوثار أو النائب عنه
وتقسمهم إلى تلك الطبقات المشهورة لديهم. أما ملوك الصين فهم في معتقدهم أبناء
السماء. هذه هي الأمم المعروفة بالملك في الزمان القديم , وإنما يسميهم بعض
الناس مهذبين لما لهم من الاجتماع على ملك بالنسبة إلى أيام الجاهلية , أما بالنسبة
إلى ملوك الإسلام فلا. برهانه أن تلك الأمم لم تثبت أمام المسلمين في كل شئون
الحياة , وذلك ببركة بعض القواعد الدينية التي عملوا بها حينًا وتركوها حينًا. أما
سياسة أوربا الحديثة الاجتماعية الملكية , فأكثرها مأخوذة من دين الإسلام وموافقة
له، ولذلك كانت نسبة نظام من تقدم ذكره بالنسبة إلى النظام الحديث أشبه بنسبة
التوحش إلى التمدن.
وكأني بمكابر وحسود لدود , أو من عذره الجهل يستبعد اقتباس النصارى هذه
المعارف عن دين الإسلام، وأقول: يا هذا , إن سابقة النصارى في الملك
وعراقتهم فيه قبل الإسلام حتى الآن أمر مُسَلَّم , والتاريخ شاهد بأنه ملك عضوض
مشوه بالاستبداد , ومكدر بالفتن والاختلاف، ومختل بالجهل والظلم، ولم يكن لديهم
شيء مما بأيديهم الآن، وانظر كيف حصل لهم ما هم فيه، وما سببه , ومتى كان
بدؤه. فلقد ثبت وتقرر لدى كل ذي لب بالبديهة، ومن أقوال كبار النصارى أنهم لم
تحصل لهم هذه المعارف والتقدم في السياسة إلا بعد الحروب الصليبية، ومخالطتهم
المسلمين , وأخذ أفراد منهم العلوم عن علماء الإسلام وحكمائه، وحينئذ ترجموا
القرآن وكثيرًا من الكتب العربية وغيرها، وهذبوها وقاموا يعلمون أقوامهم ,
وصبروا على المحن والنكال، والشدائد والأهوال، محبة لأوطانهم وبني جلدتهم
وأهل ملتهم، وبذلك نالوا مرادهم وبلغوا ما بلغوا، وحتى الآن ترى كثيرًا من
فلاسفتهم، وحكمائهم الممتازين بالعقل ومعرفة التاريخ لا يزالون يحبون العرب ,
ويعترفون لهم بمنة عليهم مع اختلاف الدين، وبعكس ذلك بعض طوائف الإسلام
ليس للعربي لديهم قيمة. وقد يقال: إذا كان دين الإسلام قد أتى بأكمل التعاليم
السياسية والاجتماعية , وأن السلاطين المسلمين تركوها لعدم مناسبتها لطبائعهم
الشهوانية؛ فما بال الخلفاء الراشدين لم يجمعوها ويرتبوها ويفرعوا عليها , وهل
عملوا بها أم لا؟
ويقال في الجواب: إن مثل هذا الاعتراض يمكن أن يقال في أشياء كثيرة،
والجواب عن بعضها هو الجواب بعينه عن باقيها , كأن يقال أيضًا: ولِمَ لَمْ يجمعوا
أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم , ولِمَ لَمْ يشرحوها , ولِمَ لَمْ يفسروا القرآن، ولم
لم يرتبوا أصول الفقه إلى غير ذلك مما اعتنى بجمعه وتدوينه المتأخرون، وذكر
الجواب عن ذلك العلماء في شروح الحديث عند ذكر البدع , وجوابهم هناك هو
جوابنا عن هذا الافتراض، ولنا أجوبة أخرى ليس هذا محل ذكرها، أما الشق
الثاني وهو أن الخلفاء هل عملوا أم لا؟ فيقال: لَعَمْرُ الله إنهم عملوا وأرشدوا
فجازاهم عن الإسلام والمسلمين خير جزاء وسيأتى لنا نقل بعض سيرتهم.
((يتبع بمقال تالٍ))