للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد عبده


ما أكثر القول وما أقل العمل [*]
لحضرة الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده الشهير

من أخس الأوصاف وأدناها أن يقول الإنسان ما لا يفعل، وأن يدل غيره على
ما ضل هو عنه، وأن يَعِيب على الناس ما لا يَعِيبه هو على نفسه، وذلك أن مَنْ
كانت هذه صفته فهو جاهل من وجه ومعترِف بنقصه من وجه آخر، وخبيث
المقصد دنيء الهمة من الوجه الثالث.
أما جهله: فلأنه إذا ادّعى بما ليس فيه من علم أو فضل مع كون الناس لا
يرون أثرًا ظاهرًا لعلمه أو فضله بمعنى أنه لم يؤلف تأليفًا نفيسا مثلاً ينتفع به عموم
الناس، ويعترف بنفاسة ما فيه العقلاء والمتبصرون من أي أمة، ولم يكشف حقيقة
ولم يحل مشكلة، وإذا اعتقد أن سامعيه يصدقونه فيما يدعيه فقد جهل أن النفوس
مجبولة على تطبيق المسموعات على المشاهدات وواقع الأمر، فإن لم تجدها مطابقة
رمت بها في وجه قائلها، فتنقلب دعواه مقتًا عليه، ويسقط من قلوب الناس أجمعين،
إذ لم يروا له أثرًا يفيدهم سوى أن يخبر عن نفسه بأوصاف لا حقيقة لها. وكذلك
إذا أرشد إلى غاية هو متوجه صوب ضدها، ويظن أن الناس يسترشدون بإرشاده،
فهو لا محالة مُطْبِق الغفلة مركَّب الجهل، إذ يعلم أن الأفعال تؤثر في النفوس
أضعاف ما تؤثر الأقوال، فإن القول عند النفس يحتمل التصديق والتكذيب، فتتردد
في مفهومه، فلا يقودها إلى العمل إلا بعد تكرار وتذكار، أما الفعل فهو أمر مشهود
ينطبع في النفس أشد انطباع فتندفع إليه خصوصًا إن كانت فيه لذة معجَّلة. وإن
عاب على غيره وصفاً هو موجود فيه، فقد جهل أن ذكره لعيب الغير ينبه الأذهان
للنقص القائم بنفسه، فإن المتكبر مثلاً إذا ذم الكبر في غيره فقد ذم نفسه من حيث
هو لا يشعر، فهو جاهل بنفسه وما يعود عليها وهو ظاهر.
وأما اعترافه بنقصه وعجزه: فإنه لم يصدر عنه ذلك (أي الدعوى بما ليس
فيه، وترغيب الناس فيما لا يرغبه لنفسه، أو فيما ليس بمتصف به، بل هو
منحرف عنه وذكره لمثالب الغير وهي فيه) إلا لأجل أن يبين للسامعين كماله
وفضله، ويظهر لهم وصولهم لما يهديهم إليه، وخلوه من النقص الذي يلوم عليه
الغير، حتى يعظّموه ويقوموا له بقضاء بعض حاجته، حيث علم أن الكمال الذي
يدعيه هو مَناط التعظيم وجلْب المنافع، وكأنه بذلك ينادي على نفسه بأنه لم يبلغ من
ذلك شيئاً؛ لأنه لو بلغ الكمال الذي يدعيه لكانت نتائج ذلك الكمال ناطقة برفعة قدره،
شاهدة بعلو مقامه، سواء ادّعى ذلك عن نفسه أو لم يدّع، وسواء نقص غيره أو
كمل، ولم يكن هناك داع لمدحه نفسه أو ذمه لغيره، بل تكون آثار فضله فاعلة في
النفوس جاذبة لها إليه بذاتها، فمن تكلف الإطراء على نفسه بوصف من الأوصاف
الفاضلة أو رَامَ إظهار كماله بالحط من قدر غيره، فذاك معترِف بأنه خال من
الفضيلة، حيث لم تشهد له الحقيقة، فاضطر إلى النداء بالكذب ليقنع السامعين بأنه
كذلك.
وأما خبث مقصده ودناءة همته: فلأن مَن هذه صفته لا يريد أن يكون ذا
فضيلة قط، ولا يبتغي الوصول إلى كماله، ولكنه يطلب عيشاً حيثما اتفق، فإذا
جلس إلى بعض البسطاء أو غيرهم طلب التلبيس على عقولهم، ليقرر في نفوسهم
أنه متصف بالصفة التي يذكرها عن نفسه أو يرشد إليها، وأنه خالٍ من العيب الذي
يسبّ به غيره ليوقّروه، فيكتسب منه مساعدة على بعض أغراضه الخسيسة، أو
يستفيد منهم حطامًا يسد به بابًا من أبواب نَهْمَتِهِ وشَرَهِهِ، فهو في ذلك بمنزلة
المشعبذين أو المختلسين أو السارقين، ونحو ذلك من كل ذي حياة خسيسة لجلب
الأموال، ولا يختلف عن هؤلاء، لا بالاسم فقط حيث يقال: إنه غش الناس بحكاية
الكذب، وهو المسمى في عرفنا (بالفشْر، ويقال لصاحبه: فشّار) .
فالقول الذي لا يعضده الفعل يحسب من أردأ الأوصاف وأقبحها؛ لأنه يشعر
بوجود أوصاف تشهد البداهة بقبحها، ومن الأسف أن هذا الوصف يوجد في كثير
من أهالي بلادنا، بل في الغالب منهم، بل لا يوجد القائل الفاعل إلا قليلاً جدًّا
(وإننا نخجل من تسجيل مثل ذلك في الجرائد، ولكن أي فائدة في إخفاء عيب فينا
عرفه الغير منا، فحق علينا أن نذكّر به لعله تنفع الذكرى) .
إننا إن طرقنا المجالس الخصوصية في بواطن البيوت والأندية العمومية في
الأماكن العامة لا نعدم قائلاً عن نفسه: إنه قرأ من العلوم معقولها ومنقولها، وطالع
الكتب العالية، ووقف على المباحث الجليلة، وكشف بواطن الدقائق الخفية،
واستطلع الأسرار، وكان مع ذلك مشهورًا في زمن الاشتغال بالفطنة والذكاء، ووَقْد
الفكرة، وقوة الحافظة، ونحو ذلك. وآخر يقول: إنه بلغ من الاقتدار على الإقناع
في الجدل، والإفحام عند المخاصمة، وتفهيم الطالب عند الاستفادة حدًّا لا يصل
العالمون إلى غباره، وإن له من طرق الإقناع والإفهام ما لا يتيسر لغيره معرفتها،
وإنه يُحْيِي بكلامه الأذهان الميتة، ويحشر إليها صور المعلومات، ويودع فيها
أسرار الكائنات.
ولو سألت كل واحد من الذين يظن فيهم وصف العلم والتعليم لرأيته يحدث عن
ذاته بكل الذي قلناه ويقول: لو كان الناس يسلكون هذا المسلك الذي أسلكه لانتشر
العلم وعمت المعرفة.
لكننا إذا رجعنا إلى الواقع ونفس الأمر رأينا أن التآليف والتصانيف مفقودة،
وإن وجد منها شيء كان ناقصًا، إما من جهة المعنى، وإما من جهة اللفظ، بحيث
لا تدل عبارته على ما قصد منه، فيكون كعدمه، والطالبون للعلوم على اختلافهم
قاصرون عن إدراك ما أضاعوا عمرهم فيه، ودليلنا على ذلك: احتياجهم دائماً إلى
غيرهم، وعدم قدرتهم على الاستقلال بعمل يعملونه في نفس العلم أو الصناعة التي
تعلموها، فتارة يحتاجون إلى الأجانب، وأخرى إلى بعض الوطنيين (وربما نبيّن
هذه الجملة في وقت آخر) .
ومن الناس من إذا ذاكَرْته في المنافع العامة والمصالح الكلية أخذ يشرح
غوامضها ويبيّن الواجب فيها والطرق الموصِّلة إلى جلب النافع ورفع الضار،
والوسائل المؤدية إلى تقويم حال الأمم وارتفاع شأنها، من رفع منار العدالة وبث
روح العلم، وتقرير المساواة، وما شاكل ذلك، ثم إذا فُوّض إليه أمر من تلك
المصالح رأيته أبعد الناس عن الخير، وأقربهم إلى الشر، واستنكف من المساواة
واستهجن معنى العدالة، وإن كان يعبر من نفسه بلفظها، وسار مع أغراضه
وشهواته، وجعلها قانونًا يُتّبع، ويعد كل ذلك حقًّا، وهو في درجة وعظه الأولى لم
يخجل ولا يتلعثم له لسان في النصح ودعوى معرفة الحق، ولو أن أحدًا عارضه
بحق في أي جزئية عقب ترغيبه في قبول النصح والمساواة لرأيته يتذمر ويتضجر
ويود أن يفتك بمَن يناقضه في بعض آرائه، ويهدي إليه نُصحًا في بعض أعماله.
ومنهم من يقول: إن كل مصيبة ألمت بالنوع الإنساني لم يكن منشؤها إلا
التباغض والتحاسد، وتفرق الكلمة والميل إلى المنافع الشخصية وعدم الاكتراث
بمنافع العامة , ونحو ذلك من الأقوال الصحيحة المسلّمة، ولو أنك لاقيت كل يوم
ألف شخص لرأيته يُقرّ بذلك ويعترف به، مدعيًا أنه يميل كل الميل إلى الاتحاد
والائتلاف، وإنما تأتي النفرة من غيره، ثم لو أتى إليه مُطالب بحق في وقت
المذاكرة لرأيته يعد هذه المطالبة أمرًا كبيرًا، وإن كانت بغاية من اللطف والإنسانية،
والْتَوى من الغيظ التواء الثعبان. ولو دعي إلى إغاثة ملهوف أو إزالة مكروه عن
بعض إخوانه أو الداخلين تحت إمرته رأيته يتعلل ويعتذر، أو يتمنع ويستكبر ويقول:
(ليس هذا من اختصاصي) ، ولو طلب إلى تأسيس أمر خيري يفيد الزراعة أو
الصناعة، أو يساعد على التربية الحقة، وجدته يستصغر ذلك ويُسفّه آراء طالبيه
ويقول: ماذا يعود على شخصي من ذلك، وما لي وللعامة، دعهم في شأنهم يرزقهم
الله من غيري. كأن جنابه يظن أن المحبة والاجتماع والألفة التي يدّعيها ويميل إليها
يجب أن تكون له من الغير لا في مقابلة منفعة ولا جزاء لدفع مضرة، بل لا بد أن
ينفعه الناس وهو لا ينفعهم! ! وما أجهلَ أمثال هؤلاء السفهاء وأضلَّ رأيهم (ومن
العجب أنهم كثير جدًّا) .
ومنهم من يُرشد إلى العدل ويدعو إلى الإنصاف، ولكن إذا عرض له حق في
طريق منفعة خاصة له داس الحق برجله طلبًا للوصول إلى غايته، وكأنه يعد ذلك
من قبيل الإنصاف الذي يدعيه أو أضربَ عن النصح والرشاد إلى وقت آخر.
ومنهم من ينتقد على الظَّلَمة ومرتكبي الجرائم وفاسدي الإدارة وسيئي التدبير،
ثم تراهم واقعين فيما ينتقدونه على الغير، كأن محل الانتقاد أن يكون الفعل صادرًا
عن سواهم، أما إذا كان صادرًا عنهم فقد اكتسب الحسن من ذواتهم المقدسة.
فأمثال هؤلاء الذين ذكرتهم لا يعرفون في العالم قبيحًا ولا حسنًا ولا صحيحًا
ولا فاسدًا، وإنما هي ألفاظ ورثوها نطقًا ولا يتفهمونها حق الفهم، وأَلِفُوا استعمالها
في مواقع مخصوصة، فهم يستعملونها كما سمعوها بدون أن يعلموا لها حقيقة،
ووجودهم في الهيئة الاجتماعية شؤم عليها، وهم في رتبة الحيوانية الأولى، لا
يعترفون بالحقائق الثابتة، بل لا يرون حسنًا إلا ما يصل إلى إحساساتهم الظاهرة من
اللذائذ الوقتية، فإذا مضى وقتها ذهلت أذهانهم عنها، ولا ينتبهون لحسنها إلا إذا
وردت عليهم مرة أخرى وهكذا، ولا يرون قبيحًا إلا ما يصل إلى إدراكاتهم من
المؤلمات الوقتية، كذلك فإذا زال ألمها غفلوا عنها كأنها لم تمسهم، فإن رأوها لاحقة
بغيرهم لم يعدوها مؤلمة ولم ينظروا إليها نظر الآسف المستنكر، فيختلف عندهم
حسن الشيء وقبحه، بالإضافة إلى أنفسهم تارة وإلى غيرهم تارة أخرى، وليس
عندهم صورة ثابتة لماهية الحسن وماهية القبيح، ولا حقيقة النافع أو حقيقة الضار،
وإنما هي أهواؤهم يعبّرون عنها بالألفاظ المطنطنة كالمصلحة العامة والمنفعة
العمومية والحقوق الوطنية، وما شاكل ذلك من المحفوظات الخالية عن المعاني،
يلوكونها بألسنتهم، ومع ذلك فهم لا يَسْلَمون من شر ما يقولون، فجهلهم لا محالة
يعود عليهم بعاقبة بئست العاقبة.
ولكنا لا نحب ذلك ونود أن يكون الفعل أكثر من القول، وأن يكون كل شخص
من أبناء بلادنا صغيرًا كان أو كبيرًا مُجِدًّا في نيل الفضيلة الثابتة التي يلهج
بتحسينها، وإجراء مقتضاها حتى تكون بذاتها شاهدًا، عدلاً على أهلية صاحبها لما
يقول، وتنتشر الأعمال الصالحة المنطبقة على الشرائع الحقّة، فتسير المصالح على
صراط مستقيم، وينال كل شخص حظه الحقيقي من ثمرات أتعابه الآتية على وجه
منتظم، فيعود النفع على العامة والخاصة، أما الفخفخة وكثرة اللغو، فإنها من شدة
العجز لا تعيد ولا تبدي والله الموفق.