بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسل الله. أما بعد فلا خلاف بين أحد من المسلمين أن أسفار أنبياء بني إسرائيل قد بشَّرت بالمسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام فلا ننكر على النصارى كثيرًا مما يستشهدون به من العهد القديم على نبوة عيسى وكثير من أحواله وأخباره، والذي ننكره عليهم إنما هو استشهادهم بالعهد القديم على صلبه وألوهيته. فتتميما لبحثي السابق في (القرابين والضحايا) [١] أردت أن آتي هنا على أعظم حجج النصارى من كتب اليهود على صلب المسيح وألوهيته وأُظْهِر بطلانها واحدة بعد أخرى، ثم آتي ببعض الدلائل على فساد كتاب العهدين وأختم مقالي ببيان أن التوراة والإنجيل الحاليين - وإن كان قد دخلهما التحريف والتبديل - لا يزالان يشتملان على كثير من البشائر الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تصديقًا لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الأعراف: ١٥٧) . ولا يخفى على الباحثين أن أساس الديانة المسيحية إنما هو العهد القديم وما يستشهدون به منه على عقائدهم ولولاه ما كانت لهم حجة واحدة على عقيدة من عقائدهم التي يخالفوننا فيها، فعلى العهد القديم مبنى اعتقادهم وهو أساس دينهم؛ ولذلك كان البحث في هذه المسألة ونقضها بالدلائل نقضًا للدين المسيحي الحالي كله من أساسه، ولولا اعتداؤهم علينا في ديننا ما تعرضنا لهم بشيء من مثل هذا فهم البادئون، والبادئون هم الظالمون، فنقول وبالله تعالى وحده نستعين: (الفصل الأول) فى بيان فساد ما يستشهدون به على الصلب في العهد القديم (برهانهم الأول) قالوا: إن النبي دانيال أخبر في كتابه عن صلب المسيح وأن ذلك كفارة لذنب أمته وأنه خاتم النبيين ولا نبي بعده، ومع أن اليهود ينكرون مسيحنا إلا أن هذا الكتاب لا يزال عندهم وهم يعتقدون صحته [٢] وهاك عبارة النبي دانيال في هذه المسألة. قال في الإصحاح التاسع من كتابه: إن جبرائيل قال له (٩: ٢٤ سبعون أسبوعًا قضيت على شعبك وعلى مدينتك المقدسة لتكميل المعصية وتتميم الخطايا، ولكفارة الإثم، وليؤتى بالبر الأبدي، ولختم الرؤيا والنبوة ولمسح قدوس القديسين *٢٥ فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعًا يعود ويُبنى سوق وخليج في ضيق الأزمنة *٢٦ وبعد اثنين وستين أسبوعًا يقطع المسيح وليس له وشعب رئيس آت يخرب المدينة والقدس وانتهاؤه بغمارة وإلى النهاية حرب وحزن قضى بها ٢٧ ويثبت عهدًا مع كثيرين في أسبوع واحد وفي وسط الأسبوع يبطل الذبيحة والتقدمة وعلى جناح الأرجاس مخرب حتى يتم ويصب المقضي على المخرب) وقبل تفسير هذه العبارة نأتي هنا على نبذة تاريخية في هذه المسألة فنقول: اعلم أن الله تعالى سلط على اليهود بُخْتنصر ملك بابل بسبب عصيانهم وتمردهم فحاربهم عدة مرات وأخذ في أول مرة بعضهم أسرى إلى بابل وفيهم دانيال النبي وفي آخر مرة سبى أكثر الشعب وأخذ الملك صدقيا وقتل أولاده وأحرق الهيكل المقدس وخرب المدينة وكانت مدة هذا السبي سبعين سنة، وكان إتيان بختنصر إليهم في المرة الأخيرة سنة ٥٨٨ قبل الميلاد وفي سنة ٥٣٦ ق. م. أذن كورش (وهو مؤسس المملكة الفارسية) برجوع اليهود من بابل وكان ذلك في السنة الأولى من ملكه فلما رجع اليهود إلى أورشليم شرعوا في بناء الهيكل وفي بناء بيوت لهم وتوفي كورش بعد أن حكم ٧ سنوات فقط وقد تم بناء بيت الله (الهيكل) في السنة السادسة من ملك داريوس (راجع سفر عزرا ٦: ١٥) ، وبعد ٦٩ سنة من صدور أمر كورش برجوع اليهود إلى أورشليم لبناء بيت الله وسكناهم فيها. ولد لليهود في بابل رجل صالح تقي يدعى (نحميا) ولما كبر عُين ساقي الملك أرتحتشستا ولما بلغه أن سور أورشليم متهدم وأبوابها لا تزال محروقة بالنار حزن وتكدر (راجع سفر نحميا ١: ٣) وبكى ودعا الله كثيرًا ولما رآه الملك كئيبًا حزينًا أرسله الملك إلى أورشليم لبناء سورها وعينه حاكمًا عليها وكان ذلك في سنة ٤٤٥ ق. م. وعمره نحو ٢٣ سنة وكمل هذا السور في ٥٢ يومًا وصار عزرا الكاتب يعلمهم شريعة موسى ليعملوا بها واحتفلوا بأعيادها وأول عيد كان عيد المظال ومدته سبعة أيام في الشهر السابع (نحميا ٨: ١٨) . وحكم نحميا في أورشليم ١٢ سنة وبعد ذلك عاد إلى بلاد فارس إلى حين، وفي مدة غيابه خالف الشعب شريعة الله وتزوجوا بالنساء الوثنيات (نح ص ١٣) ولما رجع إليهم أصلح هذه الأمور وبقي فيهم مصلحًا إلى أن مات أو قتله بعض أعدائه (راجع ص ٦ من كتابه) والراجح أن عمره كان ٦٢ سنة فإن آخر عمل عمله كان في السنة الخامسة عشرة من حكم داريوس نوثاس أي سنة ٤٠٨ ق. م. ثم مات سنة ٤٠٥ ق. م. وبعد موته لم يعين ملك فارس على أورشليم أحدًا من اليهود؛ لأن بلادهم صارت جزءًا من ولاية الشام فكان الحبر الأعظم يمارس الأمور السياسية والدينية معًا من قبل والي الشام وبعد مدة الفرس صارت أورشليم إلى اليونان واستقلت زمنًا في عهد المكابيين وهم كهنة من سبط لاوي ومن عشيرة هارون ثم خضعت للرومان وفي أيام الرومان سنة ٧٠ بعد الميلاد حاربهم (تيطس) بعد أن كان طلب منهم أن يسالموه ويعاهدوه ولا يأخذ منهم خراجًا سبع سنين وكان أمر بإبقاء الهيكل فأخذ أحد الرومانيين نارًا وألقاها في الهيكل فاشتعل الخشب وأمر تيطس أن يوقفوا النار ولكن تهافت الرومان على النهب والسلب والتخريب وبعد أن شتتوا اليهود منعوهم عن السكنى في أورشليم وبقي هذا المنع مدة إلى أن رفع ببذل المال فرجع إليها حينئذ كثير من اليهود وحسنوها وشيدوها. وكان قد بلغ الإمبراطور أريانوس أن اليهود يحصنون المدينة ليخرجوا عن طاعته فأرسل عساكره فقتل أكثرهم وخرَّب المدينة وجعلها مساحة واحدة وفلحها وزرعها ملحًا إشارة إلى إبادتها، وفي هذه الحرب انتهى خراب أورشليم وتلاشت قوة اليهود وانتشروا في الأقطار ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة وكانت هذه الحرب سنة ١٣٢ بعد الميلاد وبذلك تمت نبوة المسيح عليه السلام إذ قال: (لا يترك حجر على حجر) (راجع تاريخ القدس لخليل أفندي سركيس) . ثم دخل الفرس أورشليم سنة ٦١٤ ميلاد وخرجوا منها سنة ٦٢٨ أي بعد أن مكثوا فيها ١٤ سنة منعوا فيها اضطهاد النصارى لليهود فبطل إلقاء قاذورات النصارى في الهيكل عنادًا لليهود وباعوا النصارى الذين في أورشليم لليهود ونزعوا خشبة الصليب من أورشليم وأرسلوها إلى فارس. وفي سنة ٦٣٦ ميلادية أخذ المسلمون القدس وطهروه وبنى عمر رضي الله عنه مكانه المسجد الأقصى وصار اليهود في حِمى الإسلام واستراحوا من ظلم المسيحيين وصاروا أحرارًا في دينهم يسوسهم الإسلام جميعًا بعدله ورحمته، وصار هذا المسجد معبدًا للمسلمين ولمن يدخل في دينهم من أهل الكتاب ونجت أورشليم من الخراب وعاد إليها المجد والعمران والإكرام وكثرت ذبائح المسلمين فيها في عيد الأضحى تذكارًا لحادثة إبراهيم خليل الله وتمت نبوة حجي حيث قال: (٢: ٦ قال رب الجنود: هي مرة بعد قليل فأزلزل السماوات والأرض والبحر واليابسة ٧ وأزلزل كل الأمم ويأتي مشتهي [٣] كل الأمم فأملأ هذا البيت مجدًا قال رب الجنود: ٨ لي الفضة ولي الذهب يقول رب الجنود: ٩ مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من (مجده) الأول قال رب الجنود: وفي هذا المكان أعطي السلام يقول رب الجنود: فمن تخريب الرومان لأورشليم وتشتيت اليهود سنة ١٣٢ إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم سنة ٦٢٢ تكون المدة ٤٩٠ سنة ولا يخفى أن الهجرة النبوية هي مبدأ التشريع الإسلامي ومبدأ عظمة النبي وظهور أمره وأيضًا من سنة ١٣٢ إلى دخول المسلمين أورشليم سنة ٦٣٦ تكون المدة ٥٠٤ سنين فإذا طرحنا منها ١٤ سنة وهي مدة الفرس التي فيها استراح اليهود من ظلم الرومانيين والمسيحيين تكون مدة الظلم والاضطهاد الخالصة هي ٤٩٠ سنة كان فيها اليهود في أتعس الحالات وأسوأها فكأنه بعد ٤٩٠ سنة من تشتت اليهود عظم شأن الإسلام وظهر أمره وأيضًا بُني الهيكل وعاد المجد لبيت الله وأُنقد اليهود من الظلم والاضطهاد وصاروا يرتعون حول هيكلهم في حمى الإسلام وحريته. هذا وقبل البدء في تفسير نبوة دانيال أقدم مقدمة أخرى وهي أن الأسبوع في اللغة العبرية والعربية معناه سبعة فهناك أسبوع أيام وأسبوع شهور وأسبوع سنين والأسبوع من الطواف هو سبع مرات وهكذا والقرينة هي التي تعيِّن المراد ثم إن أعظم أعياد اليهود ثلاثة: عيد الفطير وهو أسبوع أيام، وعيد الأسابيع وهو بعد سبعة أسابيع من الأيام، وعيد المظال وهو أسبوع أيام أيضًا والسنة اليوبيلية كانت بعد سبع مرات سبع سنين. واليوم من أيام قضاء الله وعقابه لليهود بسنة كما في سفر العدد ص ١٤ عد ٣٣) وبنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة ٣٤ كعدد الأيام التي نجستم فيها الأرض أربعين يومًا للسنة يوم (أما في غير ذلك فاليوم هو اليوم المعتاد. وإذا قيل للمسلمين مثلاً) : بعد خمسين عيدًا من أعيادكم يحصل لكم كذا وكذا (كان المعنى بعد خمسين سنة؛ لأن أي عيد من أعيادنا لا يتكرر في السنة الواحدة، وكذلك عند اليهود فإذا قيل لهم: (بعد خمسين فصحًا) كان المعنى (بعد خمسين سنة) ولما كان أعظم أعيادهم أسبوع أيام جاز أن يقال لهم: (بعد خمسين أسبوعًا) أي من هذه الأسابيع العيدية يحصل كيت وكيت والمعنى بعد خمسين سنة وعليه فالأسبوع في مقام القضاء والجزاء غيره في مقام الفرح والسرور والأول بمعنى أسبوع سنين والثاني بمعنى أسبوع أيام من أسابيع الأعياد وهي لا تتكرر في السنة الواحدة فبعد أسبوعين منها أو ثلاثة مثلاً يراد به بعد سنتين أو ثلاثة؛ لأن كل أسبوع منها يقع في سنة واحدة. إذا علمت ذلك فاسمع الآن معنى نبوة دانيال: كان دانيال مع الأسرى في بابل وكان حزينًا جدًّا لأجل حالة أمته وكان يعلم أنه لا بد لأمته أن تقضي سبعين سنة في الأسر والذل فكان يسأل الله تعالى دائمًا أن يعيد مجد أورشليم ويعمر خرابها ويبني بيتها ويعتق أمته من الذل والأسر فأخبره الله تعالى بما سيحصل لأورشليم ولأمته وبأنه قضى عليها قضاء آخر أطول من قضاء السبعين سنة فقال ٩: ٢٤) : سبعون أسبوعًا قضيت على شعبك وعلى مدينتك المقدسة) والسبعون أسبوعًا في مقام القضاء والجزاء هي ٤٩٠ سنة كما قلنا قضاها الله تعالى على بني إسرائيل وعلى مدينتهم أورشليم وهي تبتدئ من سنة ١٣٢ التي فيها تلاشت كل قوة لهم وتبددوا في الأرض ولم تقم لهم قائمة ومحيت مدينتهم محوًا تامًّا وتنتهي بسنة ٦٢٢ التي هاجر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبها كمل أمره وعظم شأنه أو سنة ٦٣٦ وهي سنة فتح المسلمين لأورشليم أي بعد إسقاط ١٤ سنة وهي المدة التي استراح فيها اليهود من ظلم النصارى واستراح فيها الهيكل المقدس من إلقاء القاذورات والنجاسات فيه حينما استولى الفرس على بيت المقدس فالمدة من سنة ١٣٢ إلى هجرة المصطفى سبعون أسبوعًا من السنين ومن هذه السنة أيضًا إلى فتح أورشليم سبعون أسبوعًا بعد إسقاط السنين التي استراح فيها اليهود من الظلم والاضطهاد ثم قال: (لتكميل المعصية وتتميم الخطايا ولكفارة الإثم) فالكلمة المترجمة هنا بتكميل المعصية أصلها في العبري يفيد معنى التغطية والستر. والكفارة هي الغفران والستر كذلك والمعنى: أن معاصي اليهود وأعمالهم السيئة تنتهي في مدة السبعين أسبوعًا وتبطل لشدة ضعفهم وتبددهم؛ وذلك أنهم في زمن المسيح عليه السلام كذبوه وعصوه وحاولوا قتله وصلبه وكان يقول لهم كما في متى ٢٣: ٣٢: (فاملئوا أنتم مكيال آبائكم ٣٣ أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم ٣٤ لذلك ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة فمنهم تقتلون وتصلبون ومنهم تجلدون في مجامعكم وتطردون من مدينة إلى مدينة ٣٥ لكي يأتي عليكم كل دم زكي سفك على الأرض من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح - إلى قوله - ٣٨: هو ذا بيتكم يترك لكم خرابًا (فلم يكن ذنبهم أكمل في زمن المسيح عليه السلام. وهذا التعبير العبري قد ورد مثله في سفر التكوين في مقام آخر فقال) ١٥ : ١٦: وفي الجيل الرابع يرجعون إلى هنا؛ لأن ذنب الأموريين ليس إلى الآن كاملاً (وقال في سفر دانيال) ٨: ٢٣: عند تمام المعاصي يقوم ملك جافي الوجه (وبعد زمن المسيح صاروا يملئون مكيال آبائهم بقتل بعض الحواريين واضطهادهم وإخراجهم من مدينة إلى أخرى وإيذائهم المسيحيين وبعد حرب طيطس عادوا إلى أورشليم وحسنوها وشيدوها. ولما ظهر منهم مدعي النبوة كذبًا وهو الذي سمى نفسه (المسيح بن الكوكب) انضموا إليه وأيدوه وفتكوا بكثير من النصارى وجاءهم كثير من إخوانهم المشتتين في الآفاق وحاربوا الرومان فغلبوا وقتل مسيحهم هذا , وأخذ كثير منهم أسرى ومنعوا من الاقتراب من مدينة أورشليم إلا يومًا واحدًا في السنة لينوحوا على خرابها وكان ذلك في سنة ١٣٢ وحينئذ كان قد كمل ذنبهم ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة لشدة ضعفهم وتفرقهم وذلهم وتشتتهم في جميع الآفاق تشتتًا لم ترجع لهم بعده أدنى قوة في أورشليم على الرومان، ففي مدة السبعين أسبوعًا انتهت معاصيهم بعد أن كملت وبطلت آثامهم وأصبحوا أذلاء مضطهدين مبددين معذبين؛ وذلك هو جزاؤهم على ذنوبهم وتكفير لآثامهم الماضية بصفتهم أمة ومن آمن منهم بمحمد عليه السلام غفر له ما تقدم من ذنبه في الدنيا والآخرة قال تعالى في القرآن الشريف: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} (الإسراء: ٧-٨) . ثم قال جبريل لدانيال (وليؤتى بالبر الأبدي ولختم الرؤيا والنبوة ولمسح قدوس القديسين) وهو محمد صلى الله عليه وسلم والبر الأبدي هو الدين الإسلامي الذي بدأ يظهر ويعلو وتُوحى شرائعه العالية بعد سنة ٦٢٠ التي كانت فيها الهجرة النبوية، وبمحمد صلى الله عليه وسلم ختمت الرؤيا والنبوة كما قيل لدانيال، فالسبعون أسبوعًا بدأت بعد أن كمل إثم اليهود سنة ١٣٢ التي بعدها زالت منهم كل قوة وأصبحوا أذلاء وتمت بهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي فتح خليفته أورشليم وبنى بيتها المقدس وعمَّره بعبادة الله، ومنع الظلم والأذى عن اليهود وصاروا فيها أحرارًا إلى اليوم فكأن الله تعالى قال لدانيال: إني سأجيب دعاءك لليهود ولمدينتهم، لكن ذلك بعد أن أقتص منهم على ذنوبهم وأكفرها عنهم بتعذيبهم سبعين أسبوعًا وهو القضاء الآخر الذي قضيته عليهم غير قضاء السبعين سنة التي أسروا فيها في بابل. ثم بدأ الله تعالى يبين له حال أمته وما سيحصل لها بعد نجاتها من أسر بابل إلى حين مجيء هذا القضاء الثاني عليهم. وأنه بعد هذا القضاء الثاني يمكنهم أن يسكنوا في أورشليم حول هيكلهم في حمى الإسلام آمنين مطمئنين ويُبنى هذا الهيكل لعبادة الله تعالى ويعود إليه مجده كما أنبأ بذلك حجي الذي سبقت نبوته هنا فقال جبريل لدانيال: (فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها) وهذا الأمر قد خرج من كورش سنة ٥٣٦ قبل الميلاد برد اليهود إلى أورشليم وبناء هيكلها الذي هو أعظم شيء فيها؛ ولذلك قال: لتجديد أورشليم وبنائها فكأنه إذا بُني الهيكل فقد جُددت أورشليم وبُنيت وعمرت؛ لأنه صرح لهم بالرجوع إليها والسكنى فيها فمن الضروري أن يبنوا لهم فيها بيوتًا فتعود المدنية كما كانت. وقوله (فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر إلخ) يشعر بأن هذا الأمر كان قد خرج في زمن دانيال وعلم به وهذا صحيح فإن دانيال مات بعد صدور هذا الأمر بسنتين أي في سنة ٥٣٤ ق. م. ولو كان هذا الأمر صدر بعد مماته كما تقول النصارى لقال له: (فاعلم وافهم أنه سيخرج أمر لتجديد أورشليم وبنائها ومن بعد هذا الأمر إلخ إلخ) فمن خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها وبناء هيكلها (إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعًا) والمسيح الرئيس هو نحميا الذي ولاه ارتحشتا الملك حاكمًا على اليهود فبنى سور أورشليم وأصلح أمورهم وأقام شريعة موسى لهم وهو أعظم من ولي عليهم بعد السبي بل هو الوالي الوحيد من بيت داود وأول من جدد مجد أورشليم وأعاد إليها رونقها القديم ولذلك قال الله عنه لأرميا ٣٣: ١٥ و١٦: (فى تلك الأيام وفي ذلك الزمان أنبت لداود غصن البر فيجري عدلاً وبرًّا في الأرض في تلك الأيام يخلص يهوذا وتسكن أورشليم آمنة وهذا ما تتسمى به الرب برنا) وسُمي نحميا بالمسيح الرئيس؛ لأنه كان كملك لهم وكانوا يسمون ملوكهم مسحاء، وكذلك الكهنة والأنبياء والرؤساء؛ لأنهم يمسحونهم بالزيت أو الدهن عند ابتداء تعيينهم لخدمة الله أو الشعب (راجع سفر الخروج ٤٠: ١٩ إلى ١٥) وسمي كورش أيضًا (مسيح الرب) كما في أشعيا (٤٥: ١) وقيل في سفر أخبار الأيام الأول ١٦: ٢٢: (لا تمسحوا مسحائي ولا تؤذوا أنبيائي) وقيل في سفر الملوك الأول ٥: ١: (وأرسل حيرام إلى سليمان؛ لأنه سمع أنهم مسحوه ملكًا) أي ولوه وقال في ١ ملو ١٩: ١٦: (وامسح إليشع نبيًّا عوضًا عنك) . وسمي عيسى ابن مريم بالمسيح؛ لأنه أعظم من بعث بعد موسى من أنبياء بني إسرائيل وأفضل من جميع كهنتهم وملوكهم. وقوله (سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعًا) معناه ٦٩ سنة؛ لأن الأسبوع هنا غيره في مقام القضاء والجزاء فيراد به أسبوع الفرح والسرور أي الأعياد؛ لأن أعظم أعيادهم كانت أسبوعية كما سبق وكل أسبوع من أسابيع الأعياد يقع في سنة ولا يتكرر فيها فيكون المراد بالأسبوع السنة كلها فكأن باقي السنة الخالي من الأعياد الأسبوعية لا قيمة له ولا يحسب عليهم. ومن عرف قدر فرح اليهود وسرورهم لخلاصهم من أسر بابل وعودتهم إلى مدينتهم وأنهم حفظوا عيد المظال وغيره في أورشليم كما كانوا يحفظونه من قبل (راجع سفر عزرا الإصحاح الثالث والسادس) علم معنى التعبير عن السنة هنا بالأسبوع كأن السنة كانت تمضي عليهم كما يمضي أسبوع العيد هذا إذا صح أن أصل العبارة كانت كما وصلت إلينا ويجوز أن يكون وقع فيها سهو أو خطأ من الكاتب فكتب هنا بدل سنين وسنة أسابيع وأسبوعًا قياسًا على الجملة السابقة وهي قوله: سبعون أسبوعًا والاعتذار عن مثل ذلك بخطأ الكاتب معهود عند النصارى في ألوف الغلطات الواقعة في كتبهم المقدسة (راجع كتاب خلاصة الأدلة السنية على صدق الديانة المسيحية صفحة ٥٦ - ٥٩ و١٠٢) ولعل في قوله: (سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعًا) إشارة إلى مدة حكم (كورش) فإنه أصدر أمره في السنة الأولى من حكمه ومات بعد سبع سنين ولما كان هذا الملك عادلاً محبوبًا مبجلاً عندهم حتى دعته كتبهم مسيح الرب كما سبق كان جديرًا بأن تعرف مدة حكمه وتمتاز عن غيرها تذكارًا له وإجلالاً لمقامه. وإنما عبر في هذه النبوة بالأسابيع بدل السنين؛ لأن المعتاد في جميع نبوات العهدين أن يوجد فيها مثل هذا الغموض كما قلنا وكون المراد بالأسابيع هنا السنين مسلَّم به عند النصارى واليهود فهو ليس تأويلاً خاصًّا بنا. ومن صدور هذا الأمر إلى ولادة نحميا ٦٩ سنة كما سبق بيانه في النبذة التاريخية. ثم قال (يعود ويُبنى سوق وخليج في ضيق الأزمنة) ومعنى ذلك عندهم بناء نحميا للسور حول أورشليم كما تقدم. وفي الترجمة الإنكليزية بدل هذه الجملة (يعود ويبني الشارع والسور في أزمنة مضايقة) ؛ وذلك لأنهم كانوا محاطين بكثير من الأعداء الحاقدين عليهم المهددين لهم الواشين بهم كما يعلم من سفر نحميا (وبعد اثنين وستين أسبوعًا يقطع المسيح وليس له) أي وبعد ٦٢ سنة من ولادة نحميا يموت أو يقتله أعداؤه كما سبق فعمره كان ٦٢ سنة فقط وقوله: (وليس له) [٤] معناه ليس له ولد أو ليس له وارث فإنه لم يعين عليهم أحد بعده واليًا وكان نحميا من الأشراف ومن بيت داود ومع ذلك لم يذكر في الكتاب المقدس أنه كان له أولاد فهذه العبارة تشبه قوله في سفر التكوين ٣٨: ٩: (فعلم أونان أن النسل لا يكون له) ويحتمل أنه سقط من الكاتب خطأ لفظ (ولد) وكان الأصل (وليس له ولد) وأمثلة سقوط كثير من الألفاظ من الكتاب المقدس كثيرة تراجع في كتاب إظهار الحق في فصل إثبات التحريف بالنقصان. ولنا أن نقول فيها أيضًا نحو ما يقول النصارى: إن نحميا قتله أعداؤه الكثيرون بعد أن فكروا في ذلك كما يفهم من سفره (إصحاح ٦: ١٠ - ١٤) ولم يقتل لأجل نفسه أي في سبيل مصلحته الشخصية ومنفعته الذاتية بل قتل في سبيل المصلحة العامة ونفع الأمة فلم يكن أعداؤه ينقمون منه سعيه في سبيل نفع نفسه بل سعيه في نفع أمته وتقويتها والمحافظة عليها وبناء سور أورشليم وتحصينها ضد أعدائها فهو قتل لأمته ولم يكن قتله لأجل نفسه أي لتحصيل منفعة خاصة به، وبعد موت نحميا كان اليهود حصلوا على شيء مما فقدوه من القوة ولكنهم بقوا في بلادهم خاضعين للأجانب إلا زمنًا يسيرًا إلى أن حاربهم (طيطس) الروماني سنة ٧٠ بعد الميلاد ولذلك قال: (وشعب رئيس آت يخرب المدينة والقدس وانتهاؤه بغمارة وإلى النهاية حرب وخرب قضى بها) وقد خرب القدس (طيطس) وقتل منهم الألوف. كما قال (ويثبت عهدًا مع كثيرين في أسبوع واحد) وفي الترجمة الإنكليزية (لأسبوع واحد) والمراد بالأسبوع هنا أسبوع سنين؛ لأنه ذكر في مقام القضاء والجزاء والمعنى كما قال علماء اليهود أن طيطس طلب منهم أن يسالموه ويقطعوا معه عهدًا ولا يأخذ منهم خراجًا لمدة سبع سنين فخرج إليه كثير من كبراء اليهود فأمنهم وكان ينصحهم بعدم العصيان وأظهر لهم أنه لا يريد تخريب الهيكل، ولما علم العصاة منهم بخروج كبرائهم ضبطوا طرق القدس لئلا يخرج غيرهم وأمر طيطس بإبقاء الهيكل ولكن ألقى عليه أحد الرومانيين نارًا فأحرقه وكان طيطس يسعى في إطفاء النار ولكن الرومانيين كانوا ينهبون ويقتلون ويخربون (وفي وسط الأسبوع يبطل الذبيحة والتقدمة) لإحراق الهيكل وإبادته وقد بدأت حرب الرومان لهم سنة ٦٨ وتم خذلانهم وإحراق هيكلهم في أواخر سنة ٧٠ أي في نحو ٣ سنين فأبطل الرومان الذبيحة والتقدمة في وسط الأسبوع. وكان (يوسيفوس) المؤرخ اليهودي الشهير مع طيطس وينصح أمته ويقول لهم: (إني لست أعجب من خراب هذا البيت وهذه المدينة لكنني أعجب منكم وأنتم تقرءون كتاب دانيال النبي وتعلمون ما ذكره من إبطال الذبيحة وزوال التقدمة وترون ذلك قد صح وثبت) فلم يسمع عصاة اليهود له وهذا يدل على أن المراد بما ذكر في كتاب دانيال هو ما قلناه هنا، وكذلك قوله: (وعلى جناح الأرجاس مخرب حتى يتم ويصب المقضي على المخرب) . وقرئ في بعض النسخ العبرية وفي الترجمة السبعينية (وفي الهيكل رجسة الخراب) وفي ترجمة الكاثوليك (تقوم رجاسة الخراب وإلى الفنا المقضي ينصب غضب الله على الخراب) وقال المسيح عليه السلام كما في إنجيل متى (٢٤: ١٥: فمتى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي قائمة في المكان المقدس إلخ) فكل ذلك يدل على أن المراد بما ذكر في نبوة دانيال هو حرب الرومان لليهود لا صلب المسيح الذي يدعي النصارى أنه أبطل به الذبيحة والتقدمة فإنها لم تنته بعد صلبه بل كان اليهود يحافظون عليها حتى خرب الهيكل وأحرق فبطلت حينئذ على أننا لا ندري لماذا يبطل الصلب الذبيحة والتقدمة فإن كانت تعمل قبله رمزًا إليه فلماذا لا تعمل بعده للتذكير به؟ فإن قيل: إنها بعد الصلب لم يبق لها فائدة في غفران الذنوب قلت: وكذلك هي قبل الصلب كما يزعمون فإن الغفران لم يكن حينئذ لأجلها بل لأجل الصلب المنتظر كما يدعون (راجع مقالة القرابين والضحايا) . وبعد حرب سنة ٧٠ بمدة قليلة عاد اليهود إلى أورشليم وبنوا وشيدوا ولا يبعد أنهم أقاموا محرقات في الهيكل، وإن كان خربًا كما أقامها الذين أتوا من بابل قبل بنائهم للهيكل الذي كان أحرقه بختنصر وخربه كما في سفر عزرا (٣: ٦) ولكن بعد حرب سنة ١٣٢ محيت مدينتهم وتشتتوا في الأرض ومنعهم الرومان من الاقتراب من أورشليم، وبعد سبعين أسبوعًا قضيت عليهم وعلى مدينتهم جاء الإسلام فبنى بيت المقدس وأمن اليهود من ظلم المسيحيين وإيذائهم لهم وانصب غضب الله على المخرِّب (دولة الرومان) فأزال ملكها المسلمون من الأرض المقدسة وغيرها. وفي قوله: (وانتهاؤه بغمارة وإلى النهاية حرب وخرب قضى بها) إشارة إلى دوام الحرب مدة طويلة فإنه بعد ٧٠ سنة أتى الرومان سنة ١٣٢ وأهلكوا اليهود وشتتوهم ومحوا مدينتهم محوًا تامًّا. أما قول النصارى: (إن السبعين أسبوعًا) تبتدئ من صدور أمر أرتحشتا لنحميا بالرجوع إلى أورشليم لبناء سورها فغلط لعدة وجوه. ١- إن نص عبارة دانيال أن الأمر كان لبناء أورشليم وبناء السور ليس بناء لأورشليم فإن أورشليم كانت بنيت قبل نحميا؛ لأن هيكلها بني وبنيت بيوت اليهود حوله للسكنى فيها ولم يبن نحميا سوى السور كما هو ظاهر من كتابه والدليل على أن البيوت كانت مبنية قوله في كتابه ٣: ٢٨: (وما فوق باب الخيل رممه الكهنة كل واحد مقابل بيته) وفي هذا الإصحاح يذكر بيوتًا أخرى، فالبيوت كانت مبنية قبل مجيء نحميا ولذلك قال ١: ٣: (وسور أورشليم متهدم وأبوابها محروقة بالنار) فهو أصلح السور فقط وأبوابه وأما قوله للملك ٢: ٣: (والمدينة بيت مقابر آبائي خراب وأبوابها قد أكلتها النار) فالمراد به سورها وإنما أورده كذلك مبالغة ليرثي الملك له وليشفق عليه فيرده إليها. ٢- قوله: (من خروج الأمر لتجديد أورشليم) يشعر بأن هذا الأمر يعلمه دانيال وهو الواقع كما بينا وعلى قول النصارى يكون حصل بعده وما كان يعلمه وهذا يخالف مفهوم عبارته. ٣- إنهم اختلفوا في تاريخ صدور هذا الأمر فقال بعضهم: إنه صدر من أرتحشتا لنحميا سنة ٤٤٤ أو سنة ٤٤٥ وقال آخرون: سنة ٤٥٤ فعلى القول الأول تكون نهاية السبعين أسبوعًا سنة ٤٦ بعد الميلاد أو سنة ٤٥ وفي هذه السنة كان قد مات المسيح؛ لأن عمره كان ٣٣ سنة وعلى القول الثاني تكون نهاية السبعين أسبوعًا سنة ٣٦ ميلادية وهي بعد موت المسيح بثلاث سنين. ٤- قوله (من خروج الأمر إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعًا) قال فيه صاحب كتاب الهداية إنه فصل السبعة أسابيع وحدها لأنها مدة بناء أورشليم وهو خطأ؛ لأن سور أورشليم تم في ٥٢ يومًا ولم يبن نحميا غيره (نح ص ٦: ١٥) ٥- قول دانيال: (يعود، ويُبنى سوق وخليج في ضيق الأزمنة) صريح في أن المراد بالمسيح هنا هو نحميا فقد حصل ذلك في زمنه. ٦- قوله: (وبعد ٦٢ أسبوعًا يقطع المسيح) لا يفهم أيضًا معناه على قولهم ؛ لأنه لم يقطع بعد مجيئه باثنين وستين أسبوعًا وتفسيرهم لها في غاية الركاكة والتعسف كما لا يخفى على من نظر كتبهم. ٧- قوله: (وشعب رئيس آت يخرب المدينة والقدس إلى قوله: ويثبت عهدًا مع كثيرين في أسبوع واحد وفي وسط الأسبوع يبطل الذبيحة والتقدمة إلخ) صريح فيما ذهبنا إليه وفي حمله على المسيح عيسى عليه السلام تفكيك للعبارة وقلب لجُملها بالتقديم والتأخير ومع ذلك فالمسيح لم يبطل الذبيحة والتقدمة كما بينا ولم يثبت عهدًا مع كثيرين لأسبوع أو في أسبوع؛ لأن مدة نبوته كانت ثلاثة سنين فقط. ٨- من تأمل في هذا الإصحاح كله علم أن دانيال كان يطلب من الله أن يرأف بأورشليم ويرحم أمته فجاءه جواب جبريل على قولنا بأنها ستُعَمَّر من تاريخ صدور الأمر إلى حين تخريب الرومان لها وفي هذه المدة يعين نحميا (وهو المسيح الرئيس) فيحصِّنها ويبني سورها، وبعد تمام تخريب الرومان لها تمكث سبعين أسبوعًا على تلك الحالة ثم يأتي البر الأبدي لأمته ويغفر ذنبها ويمسح قدوس القديسين (محمد) وهو الذي تعيد أمته لها العمران والمجد، وأما على قول النصارى فيكون جواب جبريل لدانيال أن مدينتك ستمكث سبعين أسبوعًا وبعدها تخرب خرابًا أبديًّا فأي الجوابين هو الأنسب لطلب دانيال ودعائه وصلواته؟ وقوله: إن السبعين أسبوعًا قضيت عليهم يشعر بأنها أسابيع عذاب وخراب كما هو قولنا لا أسابيع راحة وعمران كما هو مقتضى قول النصارى، والخلاصة أن تفسير النصارى لعبارة دانيال ركيك ومتكلَّف فيه وغلط وفيه من التعسف والخلط والخبط ما لا يخفى على بصير. (برهانهم الثاني) : قالوا: إن أشعيا النبي أخبر بحادثة الصلب وبحمل المسيح ذنوب الناس وبتقديم نفسه كفارة عنهم وذلك حسبما ورد في الإصحاح الثالث والخمسين من سفره. ونقول: إن هذا الإصحاح متصل بالإصحاح الثاني والخمسين الذي قبله وكلاهما في موضوع واحد لا علاقة له ألبتة بالمسيح عليه السلام وموضوعهما أمر بني إسرائيل إلى بابل فهما نبوءة عن حصول الأسر وعن نجاة بني إسرائيل منه قال ٥٢: ١: (استيقظي استيقظي البسي عزك يا صهيون البسي ثياب جمالك يا أورشليم..... انحلي من ربط عنقك أيتها المسبية ابنة صهيون ٣ فإن هكذا قال الرب مجانًًا بعتم وبلا فضة تفكون ٤ لأنه هكذا قال السيد الرب: إلى مصر نزل شعبي أولاً ليتغرب هناك ثم ظلمه آشور بلا سبب ٥، فالآن ماذا لي هنا يقول الرب: حتى أخذ شعبي مجانًا إلى قوله ٨:.. .. عند رجوع الرب إلى صهيون ٩ أشيدي ترنمي يا أورشليم؛ لأن الرب قد عزى شعبه فدى أورشليم ١١ اعتزلوا اعتزلوا اخرجوا من هناك لا تَمَسُّوا شيئًا نجسًا اخرجوا من وسطها تطهروا يا حاملي آنية الرب ١٢ لأنكم لا تخرجون بالعجلة ولا تذهبون هاربين؛ لأن الرب سائر أمامكم وإله إسرائيل يجمع ساقتكم ١٣ هوذا عبدي يعقل ويتعالى ويرتقي ويتسامى جدًّا) والمراد بالعبد هنا شعب إسرائيل فإن الكتاب المقدس يتكلم عنه كثيرًا كشخص مفرد فمن ذلك قوله في سِفْر أشعيا هذا ٤١: ٨: (وأما أنت يا إسرائيل عبدي يا يعقوب الذي اخترته نسل إبراهيم خليلي.. .. . وقلت لك أنت عبدي اخترتك. (وقوله ٤٣: ١) يقول الرب خالقك يا يعقوب وجابلك يا إسرائيل.. .. . - ٢ إذا اجتزت في المياه فأنا معك وفي الأنهار فلا تغمرك ٣ لأني أنا الرب إلهك قدوس إسرائيل مخلصك جعلت مصر فديتك - ١٤ كما اندهش منك كثيرون. كان منظره كذا مفسدًا أكثر من الرجل وصورته أكثر من بني آدم) وذلك إشارة للشعب ولتشوهه في بلاد الغربة وهو أسير ذليل ولما أُخذوا لبابل مات كثير منهم ومن رجع من أولادهم كان منظره متغيرًا ٥٣: ٢ (نبت قدامه كفرخ وكعرق من أرض يابسة) وهذا إشارة لآبائهم الذين كانوا في التيه فأبناؤهم الذين حضروا إلى الأرض المقدسة نبتوا في الأرض اليابسة كما قال أرميا النبي ٢: ٦ (الذي أصعدنا من مصر الذي سار بنا في البرية في أرض قفر وحفر في أرض يبوسة ٧ وأتيت بكم إلى أرض بساتين لتأكلوا ثمرها) وهذا لا يفهم له معنى في حق المسيح عليه السلام. ثم قال ٥٣: ٢: (لا صورة له ولا جمال) فلما أتوا من التيه إلى الشام كانت صورتهم متغيرة كتغيرها بعد أسر بابل من الذل والفقر والمشاق وغير ذلك ٥٣: ٣ (محتقر ومخذول من الناس) لأنهم كانوا أسرى أذلاء ضعفاء وقوله ٦ والرب وضع عليه إثم جميعيا ٧ ظلم أما هو فتذلل (يفسره قول النبي أرميا الذي شاهد بنفسه حادثة أسرهم إلى بابل فقال في مراثيه ٥: ٧: (آباؤنا أخطئوا وليسوا بموجودين ونحن نحمل آثامهم ٨ عبيد حكموا علينا. ليس من يخلص من أيديهم ١٠ جلودنا اسودت كتنور من جرى نيران الجوع) وهذا كقول أشعيا فيما سبق لا صورة له ولا جمال إلخ ١١ (أذلوا النساء في صهيون العذارى في مدن يهوذا) وقوله: ظلم هو كقوله في الإصحاح الذي قبله ٥٢: ٤: (ثم ظلمه آشور بلا سبب) وقوله: (كشاة تساق إلى الذبح) معناه أن ملك بابل ساقهم وهم أسرى كما تساق الشاة إلى الذبح وقد مات أكثرهم هناك من الاضطهاد والتعذيب والقتل والجوع والتعب وغيره مما حل بهم. ثم قال ٥٣: ٨: (وفي جيله من كان يظن أنه قطع من أرض الأحياء أنه ضرب من أجل ذنب شعبي) وقد سبق تفسير ذلك من مرائي أرميا ٩ (وجعل مع الأشرار قبره ومع غني) لأنهم كانوا يدفنون مع الوثنيين وهم أغنياء في بابل مدة سبعين سنة، وأما المسيح فدفن وحده في قبر جديد في بستان لم يدفن فيه أحد قبله (يو ١٩: ٤١) ولم يكن معه أحد من الأشرار ولا من الأغنياء كما قال أشعياء عن بني إسرائيل مدة أسرهم هذه ١٠: (أما الرب فسر أن يسحقه بالحزن) وصحة الترجمة أراد وفي نسخة الكاثوليك (رضي أن يسحقه بالعاهات إن جعل نفسه ذبيحة إثم) والنص العبري هكذا (أراد الرب أن يضربه بالحزن؛ لأنه جعل نفسه آثمًا) وهذا مثل ما سبق في مرائي أرميا وقال أشعياء أيضًا ٥١: ٩: (اثنان هما ملاقياك) وذلك خطابًا لأورشليم (من يرثى لك؟ الخراب والانسحاق والجوع والسيف. بمن أعزيك؟ ٢٠ بنوك أعيوا اضطجعوا في رأس كل زقاق) وقد لاقوا كل ذلك من ملك بابل فخرب أورشليم ومات منهم كثيرون بالقتل والجوع وغيرهما. ثم قال ١٠: (يرى نسلاً تطول أيامه) إشارة لرجوعهم إلى وطنهم وتناسلهم فيه. وأما المسيح فلم يكن له نسل حتى تصح هذه العبارة فيه. ثم قال: (وعبدي البارّ بمعرفته يبرر كثيرين. وآثامهم هو يحملها) وقد حصل ذلك فاضطهد البار منهم وعذب وأسر بسبب ذنب الأشرار منهم. قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} (الأنفال: ٢٥) أي تعم الصالح والطالح ويؤخذ البريء بذنب المذنب في مثل هذه الأحوال. ويصح أن يكون المراد أن الشرير منهم إذا أطاع الصالح وتاب واستقام تمحى ذنوبه فكأن الصالح حملها ورفعها عن عاتقه أي أزالها عنه بهدايته له. ثم إن الله تعالى في مثل هذه الأحوال ينجي الأشرار ولا يهملهم إلا لأجل إكرامًا للأبرياء الذين ظلموا معهم وأخذوا بذنبهم فكأنهم حملوا آثامهم عنهم وقد قال في أرميا ٥٠: ٣٣: (إن بني إسرائيل وبني يهوذا مظلومون وكل الذين سبوهم أمسكوهم) وقال أيضًا أر ٣٣: (وأرد سبي يهوذا وسبي إسرائيل.. . - ٨ وأطهرهم من كل إثمهم وأغفر كل ذنوبهم) وقال أر ٥٠: ٢٠: (فى تلك الأيام يطلب إثم إسرائيل فلا يكون وخطية يهوذا فلا توجد؛ لأني أغفر لمن أبقيه) فأسرهم إلى بابل وهم مظلومون طهرهم من الذنوب والآثام فحملت عنهم وغفرت كلها والحامل لها هم المأسورون المسبيون. وقوله ١٢: (وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين) صحة ترجمته (وللعصاة يدعو) أي يدعو الله لهم بالتوبة والهداية. فالكلام كله في شعب إسرائيل ولا علاقة له بالمسيح عليه السلام ومما يؤيد ذلك قوله فيما سبق: (ضرب من أجل ذنب شعبي) فإن أصله العبري (ضربوا من أجل ذنب شعبي) بالجمع؛ لأن الكلام في بني إسرائيل ولكن أبى النصارى إلا أن يترجموها بالإفراد ليحملوها على المسيح تحريفًا منهم للكلام وكذلك قوله: (أحصي مع أثمة) ينطبق على بني إسرائيل أكثر من انطباقه على المسيح فإنهم عُدُّوا في بابل مع الكفرة الوثنيين، وأما المسيح فقالوا: إن ذلك إشارة لصلبه مع اللصين وكذلك قال مرقس في إنجيله ١٥: ٢٨ مع أن لوقا يقول ٢٣: ٤٢: إن المسيح قال لأحدهما: (إنك اليوم تكون معي في الفردوس) فكيف يكون هذا آثمًا فحينئذ لم يكن معه آثم سوى واحد فقط ولكن أشعياء يقول (وأحصي مع أثمة) فلذا قلنا: إنه أظهر في قولنا منه في قولهم على أن صلب اللصين عجيب غريب؛ لأن شريعة موسى لا توجب القتل على السارق إلا إذا سرق إنسانًا ولا توجب عليه الصلب وإنما يعلق على الخشبة بعد موته (راجع خر ٢١: ١٦ و٢٢: ١ وكذا تث ٢١: ٢٢ و٢٣) والشريعة الرومانية لا يوجد فيها الصلب للصوص وهم أحياء بل كان الجلد عندهم عقاب السارق. فكيف صلب هذان اللصان وهما أحياء؟ وبحسب أي شريعة كان ذلك؟ ؟ وكيف يجمع بين قول إنجيل مرقس ١٥: ٣٢: إن اللصين كانا يعيران المسيح وقول لوقا ٢٣: ٣٩ - ٤٣ إن الذي عيره واحد منهما؟ فإن قيل: إنهما عيراه في أول الأمر ثم تاب أحدهما. قلت: هذا تلفيق واختراع لم يرد في الإنجيل ما يشير إليه بل يفهم منه خلافه. وجملة القول أن الإصحاح الثاني والخمسين والثالث والخمسين لا علاقة لهما بالمسيح مطلقًا وهما مختصان بشعب إسرائيل. وما في الإصحاح الثالث والخمسين من التعبيرات والأفكار المتعلقة بالفداء وحمل الآثام وعقاب البريء بذنب المذنب حمله اليهود المنتصرون في مبدأ المسيحية كبولس وأضرابه إلى ديانتهم الجديدة فأدخلوا فيها هذه العبارات والأفكار وطبقوها على المسيح ثم توسعوا فيها شيئًا فشيئًا حتى وصلت عقائدهم إلى ما نعرفه عنهم اليوم ومما ساعد على انتشارها بين الناس وجود أمثالها عند الأمم الوثنية من قديم الأزمان كما أثبته صاحب كتاب (العقائد الوثنية في الديانة النصرانية) فأفكار اليهود في الخلاص من مصر ومن بابل تحورت في المسيحية وولدت عقائد الصلب والخلاص والفداء فيها وبعد أن كانت هذه العقائد في مبدأ المسيحية صغيرة كما في الأناجيل فإن مؤلفيها كانوا يفهمون أن المسيح يخلص شعبه من خطاياهم (متى ١: ٢١) : شبت ونمت حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في رسائل بولس (راجع مثلاً الإصحاح الخامس من رسالته إلى أهل رومية) وصار الخلاص لجميع البشر من ذنب أبيهم آدم ولم يقل ذلك المسيح ولا مؤلفو الأناجيل: ثم توسعوا في هذه الأفكار وهذه الخيالات حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم مما نسمعه منهم وتقرؤه في كتبهم التي صدّعوا رءوس العالم بها لإعجابهم بهذه العقائد التي لا تروق إلا لهم ولا تعجب إلا عقولهم. (برهانهم الثالث) : المزمور الثاني والعشرون وخصوصًا قول داود عليه السلام فيه ١٢: (أحاطت بي ثيران كثيرة. أقوياء باشان اكتنفتني إلى قوله ١٦: ثقبوا يدي ورجلي ١٧ أحصى كل عظامي. وهم ينظرون ويتفرسون فيّ ١٨ يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون) وفي النسخة العبرية بدل (ثقبوا يدي ورجلي) قوله: (كأسد يدي ورجلي) ولذلك قال البروتستنت: إن الكلمة المترجمة هنا (بثقبوا) يراد بها أيضًا كأسد. والسيد داود عليه السلام يشير في هذا المزمور إلى حادثة وقعت له وهي مذكورة في سفر صموئيل الأول (إصحاح ٢٩ و٣٠) وكانت هذه الحادثة مع العمالقة في صقلغ وكان معه من بني إسرائيل جماعة ومنهم من أرضهم في باشان وهم الذين هموا برجمه لما سبيت نساؤهم وأولادهم (١ صمو ٣٠: ٤-٦) وقد سبيت امرأتاه أيضًا فبكى هو ومن معه بكاء مرًّا ولكنه تشدد بالرب إلهه ودعاه بهذا المزمور. فقوله: (أقوياء باشان اكتنفتني) هم الذين كانوا معه من بني جاد ومن بني منسي؛ لأن أرضهم في باشان وهم الذين قالوا برجمه وقد سماهم ثيران (مز ٢٢: ١٢) وقوله بعد ذلك: (جماعة من الأشرار اكتنفتني) هم العمالقة الذين سبوا زوجتيه ولا بد أنهم أخذوا ملابسه معهم أيضًا ولذلك قال ١٨: (يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون) وقوله: (كأسد يدي ورجلي) إشارة لشجاعته وشدته وقد نصره الله على العمالقة واسترد منهم كل ما أخذوه فأي علاقة لهذا بالمسيح؟ نعم إنهم اخترعوا له أشياء تشبه بعض ما ذكر في هذه الحادثة ليطبقوها عليه فقالوا: إن العساكر اقتسمت ثيابه يوحنا (١٩: ٢٣ و٢٤:) مع أن المسيح ما كان يلبس شيئًا فاخرًا لتقشفه وزهده ولا يعقل أن الولاة أعطوه وهو محكوم عليه لباسًا نفيسًا حتى تهتم العساكر بقسمته بينهم ولكن النصارى كما قال السيد جمال الدين (فصَّلوا ثوبًا من العهد العتيق وألبسوه للمسيح) فضلوا وأضلوا هداهم الله. (يتلى) ((يتبع بمقال تالٍ)) ... ... ... ...