للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المقال الثامن
البُهيتة الثالثة: ما سماه تكذيب سجود الشمس

هذه هي البهيتة الكبرى التي افترتها علينا مجلة مشيخة الأزهر وسمتها
(عظيمة العظائم) لتذكرنا من حيث لا يدري محررها بقوله تعالى فيما دونها من
الخوض في حيث الإفك {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ
وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (النور: ١٥) وكل جريمة تصغر وتتضاءل
دون ما سماه (تكذيب الله ورسوله وتجهيلهما) وقد أكثر من إعادتها وتكرارها في
الجرائد حتى كدنا نظن أنه صدق نفسه في اختلاقها أو خدع الناس فصدقوها،
والكلام فيها من وجوه:
(١) صيغة الفرية ومفهومها.
(٢) مأخذها من تحريف مقال لنا في نصر السنة ودحض الشبهات عليها قلبه
إلى ضده.
(٣) عبارتنا التي حرفها وزعم أنه نقلها بنصها وفصها.
(٤) عبارة المفتري المحرف بنصها.
(٥) رأي الأستاذ الإمام في أمثال هذا العالم.
(٦) جوابنا عن حديث الشمس.
(٧) أقوال العلماء المتقدمين في استشكاله والجواب عنه.
(١) صيغة الفرية ومفهومها:
قال المحرر بعد افترائه علينا الإفتاء بحل صلاة التلاميذ المسلمين مع النصارى
بالكنيسة وقد أخرنا الكلام عليه ما نصه باختصار، ولكن بدون تصرف:
(بل وصل الأمر من اجتهاد مجتهدنا.... أن اجترأ على تكذيب رسول الله
صلى الله عليه وسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم عن أبي ذر من أن الشمس
تسجد تحت العرش وقال: إن الأنبياء لا تعرف هذه العلوم، ولو كان رشيدًا لم
يضق صدره بذلك ولوسعه إيمانه بالغيب، فإن لم يسعه إيمانه بالغيب، فكان ينبغي
أن يسعه علمه بسعة لغة العرب وكثرة مذاهب البيان فيها، فإن ضاق علمه كما
ضاق إيمانه فما كان ينبغي أن تضيق سياسته وهي التي وسعت الشرق والغرب.
وبيان ذلك أنه كان يستطيع أن يقرر في الحديث ما قرره العلماء في قوله تعالى
حكاية عن الأرض والسماء ( {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: ١١) .
ثم قال ما أذكره عملا بقول العلماء: حاكي الكفر ليس بكافر، وإنه لتقشعر منه
جلود المؤمنين:
(وكان ينبغي إذ لم يتسع صدره ولا إيمانه، ولا علمه لشيء من ذلك أن تتسع
سياسته لحسن المخرج منه بأية وسيلة غير تجهيل النبي صلى الله عليه وسلم ولو
أن يرمي البخاري أو غيره من رواة الحديث بالخطأ والكذب ولا يتعرض لرسول
الله، فقد كان تكذيبهم أهون من تكذيبه صلى الله عليه وسلم فما أضيق دينه وعلمه
وسياسته) اهـ بحروفه وما فيها من أدبه مع الرسول الأعظم الذي يدعي تعظيمه
و.. .!
وقد شعر خلافًا لطبعه بأن الذين ابتلاهم الله بقراءة مجلة الأزهر لا يصدقون
هذه الفرية فزعم أنه ينقل لهم عبارة صاحب المنار بنصها وفصها ولكنه نقل لهم
عبارة قصيرة مقتضبة منها كمن ينقل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ} (النساء: ٤٣) دون ما بعده من الآية. وستعلمون أيها المسلمون من
بياني لما نقله ولأصله ولما قررته في هذه المسألة أي الفريقين أضيق دينًا وعلمًا.. .
أصاحب المنار أم هذا العضو في هيئة كبار علماء الأزهر؟ وتعلمون درجة
صدق المشيخة في مجلتها ومقدار أمانتها على العلم والدين، وصدقها في إرشاد
المسلمين في جرأتها على ما تقدم وعلى قولها في آخر هذه المقالة نعوذ بالله منها ثم
من الشيطان الرجيم [١] :
(فالشيخ إذا مخطِّئ لله ورسوله، مكذب للقرآن والسنة، وإن شئت فقل مجهل
لهما!) نعم شعر بأن الناس يكذبونه ولكن لم يشعر بما يستلزمه هذا الطعن في كلام
كتب سنة ١٣٢٧ في مجلة المنار أي منذ ٢٣ عامًا من الطعن في علماء الأزهر في
سكوتهم عن الإنكار عليها وهي تخاطب علماء الإسلام وغيرهم في كل سنة بما
يجب عليهم من بيان ما يجدون فيها من خطأ، أفلا يلزم من سكوتهم هذا وقوع
الطعن عليهم في دينهم وعلمهم؟ بلى لو كانت المجلة صادقة، أما وهي مفترية
فإنما يقع ذلك على من أنكر الحق المعروف ونطق بالباطل والزور ومن أقره وهو
قادر على منعه.
يفهم كل من قرأ عبارة هذه المجلة أن صاحب المنار رأى في الصحيحين حديثًا
فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشمس تسجد تحت العرش فاعتقد صحة
سنده أي عدالة رواته وصدقهم وسلامته من كل شذوذ وعلة، وإنما كذب خبر هذا
السجود فيه لأنه لم يكن عنده من العلم باللغة ولا من الإيمان بالغيب ولا.. و.. .
ما يحمله على تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه حقيقة ولا مجازًا وقد
رأيتم أدب هذه المجلة في التعبير عن هذا المعنى المفترى والبهتان الجريء.
(٢) مأخذ التهمة من مقال في تأييد السنة والدفاع عنها.
إنني ذكرت حديث أبي ذر في مسألة الشمس في المجلد الثاني عشر من المنار
في سياق الأحاديث المشكلة وطرق الحل لمشكلاتها من مقال طويل في تأييد السنة
كان حكمًا فاصلاً في مناظرة تلو مناظرة في أصل الإسلام أو أصوله، وفي النسخ
وأحاديث الآحاد هل هي من الدين أم لا؟ دارت هذه المناظرات في أثناء أربع
سنين فجعل البهَّات المفتري نصرنا للسنة ودفاعنا عنها تكذيبًا وكفرًا لصاحبها صلى
الله عليه وسلم ولكتاب الله الذي نطق بسجود كل شيء لله عزوجل، والعياذ بالله من
بهتان من لا يخاف الله.
ذلك أن البحاثة الشهير المرحوم الدكتور محمد توفيق صدقي كان كتب مقالاً
عنوانه (الإسلام هو القرآن وحده) وقد نشر في المجلد التاسع من المنار تحديًا
للعلماء ولا سيما علماء الأزهر أن يردوا عليه فكبر ذلك عليهم، وقال بعضهم
لبعض: إن صاحب المنار هو الذي يريد أن يجذبنا إلى المناظرة معه، وأمسكوا عن
الرد عليه، حتى جاءني من قال لي: إن فلانًا من العلماء يريد الرد على الدكتور إذا
كنت أنت لا ترد عليه، فقلت: وإني لا أرد عليه ولكنني قد أحكم في المناظرة أخيرًا
إذا احتيج إلى حكمي.
فرد العالم الذي أخبرني عنه على الدكتور بمقالين رد عليهما الدكتور أيضًا ثم
حكمت في المسألة حكمًا نشر في الجزء الأخير من المجلد التاسع، فكتب الدكتور
اعترافًا برجوعه عما أقنعته بأنه كان مخطئًا فيه. ونشرت خطابه هذا في صفحة
١٤٠ من مجلد المنار العاشر ثم كتب مقالاً آخر عنوانه: النسخ في الشرائع الإلهية
أنكر فيه وجود النسخ في القرآن مطلقًا وزعم أن السنة القولية (الأحاديث) قد نُسخ
بعضها بالقرآن وبعضها بالسنة ولم يبق منها شيء يجب العمل به غير موجود في
القرآن.
ونشرنا هذا المقال في الجزء التاسع من مجلد المنار العاشر وطالبنا العلماء
بالرد عليه بشرط التزام ما يليق بالعلماء من الأدب والنزاهة واحترام المناظر. فلم
يتصدَّ أحد من علماء الأزهر للرد عليه ولكن رد عليه العلامة الشيخ صالح اليافعي
من علماء الحضارمة المقيمين في حيدر آباد الدكن الهند بست مقالات نشرت في
ستة أجزاء من المجلد الثاني عشر من المنار وقد حكمني المتناظران فحكمت بينهما
بمقال أيدت به السنة وشرعية العمل بالأحاديث القولية بشرطه.
(٣) عبارتنا التي حرفها البهَّات المُفتري:
بينت في تلك المقالة مسألة (أحاديث الآحاد والدين) ثم مسألة (أحاديث الآحاد
تفيد العلم أو الظن) بما لم أعلم أن أحدًا سبقني إلى مثله في نصر السنة في التفرقة
بين اليقين اللغوي الشرعي، واليقين المنطقي الأصولي. وانتقلت من هذا إلى بحث
ما يوثق به وما لا يوثق به من الروايات، وما انتقده المحدثون من أحاديث الشيخين
البخاري ومسلم بجرح كثير من رواتهما وغلط بعض متونهما وذكرت بعض المتون
التي حكموا بالغلط فيها، ومنها حديث شريك عند البخاري في المعراج إذ صرح بأنه
رؤيا منامية وخالف غيره من رواة البخاري في مسائل أخرى فيه وحديث مسلم (خلق
الله التربة يوم السبت) إلخ، وحديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وثلاث سجودات
في كل ركعة وغير ذلك ثم قلت ما نصه:
وجملة القول في الصحيحين أن أكثر رواياتهما متفق عليها عند علماء الحديث
لا مجال للنزاع في متونها ولا في أسانيدها، والقليل منها مختلف فيه وما من إمام
من أئمة الفقه إلا وهو مخالف لكثير منها، فإذا جاز رد الرواية التي صح سندها في
صلاة الكسوف لمخالفتها لما جرى عليه العمل، وجاز رد رواية خلق الله التربة يوم
السبت إلخ لمخالفتها للآيات الناطقة بخلق السموات والأرض في ستة أيام وللروايات
الموافقة لذلك - فأولى وأظهر أن يجوز رد الروايات التي تُتخذ شبهة على القرآن
من حيث حفظه وضبطه وعد ضياع شيء منه (كالروايات في نسخ التلاوة)
ولا سيما لمن لم يجد لها تخريجًا يدفع الشبهة كالدكتور محمد توفيق صدقي وأمثاله
كثيرون ومثلها الرواية في سحر بعض اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ردها الأستاذ
الإمام ولم يعجبه شيء مما قالوه في تأويلها لأن نفس النبي صلى الله عليه وسلم أعلى
وأقوى من أن يكون لمن دونه تأثير فيها، ولأنها مؤيدة لقول الكفار {وَقَالَ الظَّالِمُونَ
إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الفرقان: ٨) وهو ما كذبهم الله فيه بقوله بعده:
{انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (الإسراء: ٤٨) .
ومثل هذا وذاك ما خالف الواقع المشاهد كرواية السؤال عن الشمس أين تذهب
بعد الغروب؟ والجواب بأنها تذهب فتسجد تحت العرش، وتستأذن الله تعالى
بالطلوع إلخ. وقد سَأَلَنا عنه بعض أهل العلم من تونس ولما نجب عنه لأننا لم نجد
جوابًا مقنعًا للمستقل في الفهم. فالشمس طالعة في كل وقت لا تغيب عن الأرض
طرفة عين كما هو معلوم بالمشاهدة علمًا قطعيًّا لا شبهة فيه، فإذا قلنا إنها يصدق
عليها مع ذلك أنها ساجدة تحت العرش لأنها خاضعة لمشيئة الله تعالى ولأن كل
مخلوق هو تحت عرش الرحمن، إذا قلنا هذا أو أنه تمثيل لخضوعها في طلوعها
وغروبها وهو أقرب، فهل ينطبق على السؤال والجواب انطباقًا ظاهرًا لا مراء فيه؟
اللهم لا.
(ولكن هذا النوع من الحديث على ندرته في الصحيح قد يُخرَّج بعضه على أنه
من باب الرأي في أمور العالم. والأنبياء لا تتوقف صحة دعوتهم ونبوتهم على العلم
بأمور المخلوقات على حقيقتها ولم يقل أئمة الدين إنهم معصومون فيها كما يدل عليه
الحديث الصحيح في تأبير النخل، ولكن يستثنى الأخبار عن عالم الغيب فهم
معصومون فيه) اهـ.
هذه هي عبارتنا بنصها وفصها التي استند إليها البهات المحرف في اتهامه إيانا
برد حديث عمر في رجم الشيخ والشيخة وأنه كان آية من القرآن ورد حديث سحر
اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم وحديث سجود الشمس وتكبيره للأمر بأنها
وردت في الصحيحين، ونحن إنما ذكرنا هذه الأحاديث وغيرها كحديث المعراج
وحديث صلاة الكسوف وحديث خلق السموات والأرض في سبعة أيام من باب
التمثيل للأحاديث المشكلة التي تتعلق بموضوع المناظرة التي حكمنا فيها بما بينا به
مزية الصحيحين وأن ما انتقده المحدثون والمتكلمون والفقهاء وردوه من أحاديثهما
قليل لا ينافي تفضيلهما على غيرهما، وقد ذكرناها بموضوعها لا بنصوصها بل
لم نذكر حديث عمر في الرجم مطلقًا؛ لأن المقام مقام التمثيل لما انتقده بعض
المتناظرين بالإجمال، ولم نذكرها لاستئناف انتقاد عليها أو استشكال لها من عند
أنفسنا، ولا لأجل الأجوبة عنها فإن هذا قد بيناه في مواضع أخرى من المنار
وتفسيره، ولكل مقام مقال، من تفصيل وإجمال، وهذا معهود في جميع الكتب،
فكيف ينكر مثله الصحف؟ ولكن باغي العنت بطرق المغالطة في الجدل، يجعل
حكاية خصمه لقولٍ مذهبًا له، وسكوته عن بيان شيء في غير موضع البيان حجة
عليه فيما بينه في موضعه مع تجاهله ذلك البيان، وياليت محرر مجلة الأزهر
يكتفي بمثل هذه المغالطة ولا يفتري عليه الكذب البواح ويرميه بالبهتان.
وقد صرحنا في ذكر حديث الشمس بأن وجه الإشكال فيه هو مخالفة الواقع
المشاهد له وهو كون الشمس طالعة دائمًا لا تغيب عن الأرض طرفة عين، لا
السجود الذي زعمه وافترى علينا تكذيبه، على أن شراح الصحيحين وغيرهم
استشكلوا الأمرين وأجابوا عنهما بما سنذكره بعد، ونحن صرحنا بأن الشمس يصدق
عليها أنها ساجدة تحت العرش دائمًا بالمعنى الذي أثبت القرآن فيه سجود كل شيء لله
عزوجل من الكواكب والشجر والنبات وغير ذلك، وذكرنا توجيهًا آخر لسجودها
وهو أنه (تمثيل لخضوعها في طلوعها وغروبها لمشيئته تعالى) وهو عين المراد من
قوله تعالى عن السموات والأرض {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: ١١) الذي قال
المفتري أنه كان في استطاعتنا ولم نفعله لأن اللغة ضاقت علينا، فلم تضق علينا سعة
اللغة بل ضاقت عليه سعة الصدق فافترى علينا، ولكننا قلنا أن سجود الشمس بهذا
المعنى أو ذاك لا يرفع الإشكال بمخالفة مضمون الرواية للمعلوم بالقطع من مشاهدة
وأدلة علمية على كونها لا تغيب عن الأرض كلها طرفة عين.
وقال العلماء قبلنا مثل قولنا كما سنبينه في المبحث السابع من هذا الرد وأما
قولنا: (ولكن هذا النوع من الحديث على ندرته في الصحيح قد يخرج بعضه على
أنه من باب الرأي في أمور العالم) إلخ فالمراد به النوع المخالف للواقع المشاهد،
ولا تدل العبارة على أن حديث الشمس المذكور من هذا البعض، بل تدل على أنه
ليس منه من وجهين، أحدهما: أنني قلت أنني سئلت من قبل بعض علماء تونس
عنه، وأنني إلى الآن لم أجب عن هذا السؤال لأنني لم أجد جوابًا مقنعًا للمستقل
بالفهم وسأشرح هذا المعنى بعد ولو كان حديث الشمس عندي من هذا البعض لكان
جوابي للسائل أنه كحديث تأبير النخل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:
(أنتم أعلم بأمور دنياكم) وما في معناه ولم أرجئ الجواب.
الوجه الثاني: أنني استثنيت من هذا النوع من الأحاديث الواردة في أمور
الدنيا التي لا تنافي عصمة الأنبياء ما إذا كان الإخبار عن عالم الغيب، والطاعن
يقول إن حديث الشمس منه، وهو مع رؤيته بل علمه بهذا الاستثناء يفتري علي
أنني قست حديث سجود الشمس على حديث تأبير النخل، وأنني قلت أنه من العلوم
التي لا يعلمها الأنبياء ولم أقل هذا، فهو لم ينقل شيئًا من تفسيري للسجود ولا من
حصري للإشكال في ذهاب الشمس وغيبتها عن الأرض ولا من سكوتي عن جواب
السائل عنه، ولا من استثناء جعله من قبيل الإخبار عن أمور الدنيا دون أمور
الدين والإخبار عن عالم الغيب. مع أنه زعم أنه نقل عبارتي بنصها وفصها ليؤيد
بهذه الفرية تلك المفتريات كلها، ثم قال: إنه ينقل محصلها، وهو ينقض وعده بنقلها
بنصها وفصها، ولعل غرضه منه أن أكثر قراء مجلتهم لا يفرق بينهما فيتوهم أنه
صادق أمين في نقله لها، وهذا نص عبارته:

(٤) عبارة المفتري المحرِّف بنصها:
(وإني أحس منك بامتعاض شديد غيرة على المقام النبوي، ولعلك تستبعد
صدور ذلك من الشيخ أو لا تصدقه، فلننقل لك عبارته بنصها وفصها وما طعن به
على أحاديث كثيرة في البخاري غير هذا الحديث، ثم ترقى من تكذيب الرواة في
تلك الأحاديث إلى تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث) .
(قال مناره الصادر في آخر رمضان سنة ١٣٢٧ صفحة ٦٩٧ من مجلد
السنة المذكورة ما نعرض عليك محصله لتحكم فيه، وليتضح به الموضوع الذي
نحن فيه، فإنه كالمقدمة له: رد الأحاديث التي في البخاري وغيره الناطقة بأن آية:
الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة، كانت قرآنًا يتلى [٢] وأن عمر قال
ذلك بمجمع من الصحابة ولم ينكر أحد عليه أحد، وهو معروف لا مراء فيه،
ويستند حضرته في ذلك الرد إلى ما تعرف منه مقدار علم الشيخ وتفكيره. يقول:
إن ذلك لو تم لكان يتخذ شبهة على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعدم ضياع
شيء منه! ولم يفرق الشيخ بين النسخ الذي يكون من قِبَل الشارع ولا يُعرف إلا
من جهته ولا يكون إلا في زمنه بإرشاده وتبيينه، وبين التفريط في القرآن وضياع
شيء منه. ثم رد الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في سحر النبي صلى الله
عليه وسلم رد ذلك بتمويهات وخيالات لا نطيل بها.
ومثل هذا وذاك ما خالف الواقع المشاهد كرواية السؤال عن الشمس أين تذهب
بعد الغروب والجواب عنه بأنها تذهب فتسجد تحت العرش وتستأذن الله تعالى
بالطلوع الخ إلى أن قال: فالشمس طالعة في كل وقت لا تغيب عن الأرض طرفة
عين كما هو معلوم بالمشاهدة علمًا قطعيًّا لا شبهة فيه، أي: فكلام النبي كذب لا شبهة
فيه) اهـ.
هذا ما عزاه إلى ذلك المقال بعد زعمه أنه ينقل العبارة بنصها وفصها ثم
محصلها وكلاهما كذب ظاهر من نقلنا لها بحروفها. فهو لم يذكر إلا عبارة مقتضبة
ناقصة منها لم تبلغ أربعة أسطر وما ذكره من محصل ونص كله كذب وباطل كما
علمت وزاد ما لا ذكر له فيها كحديث الرجم، فهكذا يكون صدق العلماء وأمانة
النقل عند أحد هيئة كبار علماء الأزهر ومحرري مجلته الرسمية، أم هكذا يكون
فهم الكلام بطريقة المناقشات الأزهرية.
رحم الله الأستاذ الإمام الذي كان يقول في أمثال هؤلاء العلماء أنهم يتعلمون
كُتبًا لا علمًا، وقد بين مراده من هذا في رسالة التوحيد بعد بيان خلاصة تاريخ علم
الكلام الذي لا يزال أمثال هذا الرجل يتناقشون في بعض كتبه التي لا يفهمون من
مواقفها ومقاصدها إلا ما قرره الإمام في قوله:
(٥) رأي الأستاذ الإمام في أمثال هذا العالم:
(ثم جاءت فتن طلاب المُلك من الأجيال المختلفة وتغلب الجهال على الأمر،
وفتكوا بما بقي من أثر العلم النظري النابع من عيون الدين الإسلامي فانحرفت
الطريق بسالكيها، ولم يعد بين الناظرين في كتب السابقين إلا تحاور في الألفاظ أو
تناظر في الأساليب، على أن ذلك في قليل من الكتب اختارها الضعف وفضلها
القصور.
ثم انتشرت الفوضى العقلية بين المسلمين تحت حماية الجهلة من ساستهم،
فجاء قوم ظنوا في أنفسهم ما لم يعترف به العلم لهم، فوضعوا ما لم يعد للإسلام
قِبَل باحتماله. غير أنهم وجدوا من نقص المعارف أنصارًا، ومن البعد عن ينابيع
الدين أعوانًا، فشردوا بالعقول عن مواطنها، وتحكموا في التضليل والتكفير،
وغلوا في ذلك حتى قلدوا بعض من سبق من الأمم في دعوى العداوة بين العلم
والدين، وقالوا لما تصف ألسنتهم الكذب: هذا حلال وهذا حرام، وهذا كفر وهذا
إسلام. والدين من وراء ما يتوهمون، والله جل شأنه فوق ما يظنون وما يصفون،
ولكن ماذا أصاب العامة في عقائدهم ومصادر أعمالهم من أنفسهم بعد طول الخبط
وكثرة الخلط؟ شر عظيم، وخطب عميم) اهـ.
(٦) جوابنا عن الإشكال في الحديث:
عُلم مما تقدم أننا ذكرنا مضمون حديث الشمس في ذلك المقال مع أحاديث
أخرى من أحاديث الشيخين المشكلة من باب التمثيل لإثبات قلة أمثالها في
الصحيحين ولم يكن من موضوع المقال إيراد ألفاظها ولا الحكم في المشكلات، ثم
إننا بينا في موضعين من المنار رأينا في الإشكال، بما يبرئ الرسول صلى الله
عليه وسلم من كل ما عصمه الله منه، كما أشرنا إلى ذلك في المقال الأول من بياننا
هذا للأمة.
إجمال ذلك أنني وجدت أن أصح رواياته التي اتفق عليها الشيخان هي ما
أخرجاه من طريق الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر هكذا بالعنعنة
وإبراهيم التيمي قال الحافظ في التقريب: ثقة ولكنه يرسل ويدلس، فهذه علة في
سند أصح روايات الحديث تبطل الثقة بها، ولمسلم رواية من طريق أخرى ذكر
فيها الراوي سماع إبراهيم من أبيه مع عنعنته ولم يعتد بها البخاري، وثَم روايات
أخرى لا يصح شيء منها سنذكر بعضها، ولذلك عدت فاعتمدت إعلاله من ناحية
متنه.
وبيان ذلك أنه في أمر غيبي يكثر خطأ الرواة في أمثاله ويختلفون في فهمها
فيروونها بالمعنى الذي فهموه وكثيرا ما يكون فهمهم خطأ، وأكثر الأحاديث المروية
بالمعنى لا بلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر الاختلاف في ألفاظها ومعانيها
حتى الأمور الحسية التي يفهمها كل أحد كالطهارة وصفة الصلاة، فإذا لم يجد شُرَّاحها
وجهًا وجيهًا للجمع بينهما حملوها على تعدد ما وردت فيه حتى قال بعضهم بتعدد
المعراج لكثرة الاختلاف والتعارض في رواياته.
وقد بينت وجوه الدفاع عن الأحاديث المشكلة بالتعارض وغيره في مواضع من
المنار وتفسيره أهمها الكلام في أشراط الساعة ولا سيما أحاديث المهدي والدجال
فإن التعارض والتناقض فيها كثير جدًّا.
وإنني أنقل للأمة هذين الجوابين بحروفهما مع عزوهما إلى مواضعهما من
المنار والتفسير لتأكيد تكذيب مجلة الأزهر في زعمها الذي تقدم:
الجواب الأول في علة السند
جاء في الصفحة ٧٢٥ من مجلد المنار الثاني والعشرين وفي حاشية ص ٢١١
من جزء التفسير الثامن ما نصه:
(ومن هذه الأحاديث في الباب حديث أبي ذر جندب بن جنادة الذي يعد متنه
من أعظم المتون إشكالاً فهو يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: أتدري أين
تذهب الشمس إذا غربت؟ قال: قلت: لا أدري، قال (إنها تنتهي دون العرش فتخر
ساجدة ثم تقوم حتى يقال لها: ارجعي، فيوشك يا أبا ذر أن يقال: ارجعي من حيث
دخلت، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل) وهذا الحديث رواه
الشيخان من طرق عن الشعبي عن إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي عن أبيه عن
أبي ذر وهو - أي إبراهيم - على توثيق الجماعة له مدلس، قال الإمام أحمد: لم
يلق أبا ذر، كما قال الدارقطني: لم يسمع من حفصة ولا من عائشة ولا أدرك
زمانهما، وكما قال ابن المديني: لم يسمع من علي ولا ابن عباس. ذكر ذلك في
تهذيب التهذيب وقد روى عن هؤلاء بالعنعنة، فيحتمل أن يكون من حدثه عنهم غير
ثقة) . اهـ.
وأعني بهذا أن روايته عنهم مرسلة ولم يذكر من حدثه بها فثبت أنه يرسل
ويدلس كما قال الحافظ في التقريب، ومن كان هكذا لا تقبل روايته بالعنعنة فهذه
علة في أصح أسانيد الحديث تبطل الثقة به مع عدم الطعن في البخاري ولا في
الأعمش ولا في إبراهيم التيمي أيضًا.
الجواب الثاني في علة متن الحديث
جاء في باب فتاوى المنار في ص ٦٧١ مجلد ٢٤ ما نصه:
(س ٢٦) من صاحب الامضاء المدرس في مدينة تطوان في المغرب الأقصى
الحمد لله وحده من تطوان في ٢٧ شوال ١٣٤١ فضيلة أستاذي الوحيد، وملاذي
الفريد، أستاذ العالم ومفتيه ومرشده السيد محمد رشيد رضا سلام على تلك الذات
وتلك الروح الطاهرة من قلب يتأجج بنار الأشواق ويضطرم في سعير البعاد، غير
أن ثلج ماء عين مناركم قد يطفئ شيئًا من ذاك اللهيب، ويخمد سعيرها عندما يهيم
الفكر في استحسان تلك الدرر اليتيمة، والتمتع بتلك المعاني الوحيدة الفريدة.
سيدي وسندي، أرجو من فضيلتكم الجواب على صفحات المنار الأغر عما
يأتي من المقرر عند علماء الجغرافية أن الأرض لها دورتان يومية وسنوية، وأن
الليل والنهار والفصول ينشآن عن هاتين الدورتين للأرض ويقتضي هذا أن الشمس
ثابتة والله تعالى يقول {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس: ٣٨) فأرجو من
فضيلتكم جوابًا كافيًا شافيًا كما هو شأن فضيلتكم بحيث لا يبقى في النفس ولو كانت
جاحدة أدنى مخالفة، حفظكم الله وأطال حياتكم، وبارك في عمركم وعمر أنجالكم
الكرام، مدى الليالي والأيام، من الداعي لفضيلتكم بذلك تلميذكم وصديقكم.
... ... ... ... ... ... ... محمد العربي بن أحمد الخطيب
(ج) إذا كان ما ذكره السائل من المقرر عند علماء الجغرافية فإن من المقرر
عندهم وعند علماء الفلك أيضًا أن الشمس تدور على محورها كغيرها من الأجرام
السماوية، وأنها تدور هي والكواكب السيارة التي حولها حول نجم آخر مجهول
يعدونه المركز لها، وبلغنا عن أحد المعاصرين من هؤلاء العلماء أنه حقق حديثًا أن
مجاميع الشموس كلها أو العالم كله يجري في الفضاء لغاية مجهولة، وتجدون هذا
البحث ما عدا القول الأخير في مقال طويل للدكتور محمد توفيق صدقي رحمه الله
في المجلد الرابع عشر من المنار، وتجدون فيها رأيًا عزاه إلينا إذ تلقاه عنا وهو أن
لجميع العالم المؤلف من هذه الشموس والكواكب مركزًا واحدًا هو مصدر التدبير
والنظام لها وهو عرش الرحمن تبارك وتعالى راجع (ص ٥٩٠ و ٥٩١ ج ٨) منه
ونحن قد استنبطناه من عرض مذهب الفلكيين على قوله تعالى {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} (يونس:
٣) فجريان الشمس ثابت بالاتفاق فإن دورانها على محورها يسمى جريانًا،
دورانها مع مجموعها المعلوم حول نجم مجهول على قولهم - كدوران المجاميع
الشمالية حول نجم القطب الشمالي - يسمى جريانًا أيضًا، وأولى منه وأظهر سيرها
مع بقية العالم الذي قال به بعض المتأخرين كما ذكر في تقويم لفلامريون المشهور.
على أن الجريان يستعمل استعمالاً مجازيًّا في السير المعنوي، كما يقال: جرى
القضاء بكذا، ولك أن تقول الآن: إن أوربة تجري في تنازع دولها لحرب أخرى شر
من الحرب الأخيرة.
وأما المستقر الذي تجري الشمس إليه أو له، ففيه وجهان، أحدهما: أنه ما
ينتهي إليه أمرها بخراب عالمنا هذا التي هي ركن نظامه فيكون جريانها كجريان
غيرها بمعنى قوله تعالى في أول سورة الرعد {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ
تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ
الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (الرعد: ٢) وهو بمعنى ما روي
عن قتادة قال: تجري لمستقر لها: لوقتها ولأجل لا تعدوه، ثانيهما: أنه مستقر
نظامها لا أجلها وهو النجم المجهول عند علماء الفلك والعرش على رأينا ويؤيده حديث
أبي ذر في كون مستقرها تحت العرش، والحديث قد روي بألفاظ مختلفة
أظهرها أخصرها وهو ما رواه الجماعة إلا ابن ماجه وغيرهم عنه قال سألت رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس:
٣٨) قال: (مستقرها تحت العرش) وبعض ألفاظه مشكل في ظاهره جدًّا ورواته
أقل، وهو ما ذكر فيه سجودها لله تحت العرش واستئذانها، وإن فسر بمعنى
خضوعها لإرادته كقوله {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن: ٦) .
والراجح عندنا أنه روى بالمعنى فأخطأ بعض الرواة في فهمه فعبر عنه بما
فهمه والله أعلم. وسنعود إلى هذا البحث في وقت أوسع ومجال أوسع إن شاء الله
تعالى. اهـ.
وحاصل هذا الجواب المختصر الذي وعدت بالرجوع إليه لأجل تفصيله عندما
تسنح الفرصة ويتسع المجال كما تقدم آنفًا أن الحديث مروي بالمعنى وهو في أمر
غيبي أخطأ بعض الرواة في فهمه كما أخطأوا في أمثاله ولا سيما أحاديث الدجال
المتعارضة المتناقضة فليراجع تفصيلي لها ولأمثالها من شاء في تفسير قوله تعالى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} (الأعراف: ١٨٧)
الآية من ص ٤٨٩ ٥٠٧ ج ٩ تفسير.
وأما العبرة للأمة الإسلامية في هذا الجواب فهو أن من كبار علمائها الرسميين
في هذا العصر من فقد الصدق في القول، والأمانة في النقل، والفهم لمسائل العلم مع
استباحة التكفير للخصم، وأن قصارى علمهم مشاغبات ومغالطات في الألفاظ
وتحريف لها وإيراد للاحتمالات فيها كما تقدم آنفًا عن الأستاذ الإمام.
((يتبع بمقال تالٍ))