(٢) بينما كانت السيارة تُسام سوء العذاب، وتقاسي مرارة الاغتراب، وحرارة الخيبة والاكتئاب، إذ هبطت السيارة الثانية في تلك العاصمة النائية، وطفقت تنادي بصوت رفيع: (عفة واستقامة للبيع) ! ، هل من طالِب فيُعطَى طِلْبته، هل من راغب فينال رغيبته؟ ! فما سمعها إنسان إلا تخيّل أنها مختلة الشعور، فرت من البيمارستان، ولكن استلفت إليها الأنظار جمالها الباهر، وما يلوح عليها من مخايل الوقار والكمال الظاهر، فأحاط بها الناس إحاطة الهالة بالقمر، والأكمام بالثمر، معتقدين صِدق لهجتها، ونفاسة سلعتها، فقالت الأغنياء: لو كانت دُورُنا كبيرة كدُور آبائنا الأولين لاشترينا منها هذا المتاع الثمين، واخترناه في مخازنها الكبيرة، واحتكرناه إلى وقت الضرورة، ولكن مخازن بيوتنا اليوم صغيرة، لا تكاد تسع أثاثنا وبضاعتنا الكثيرة، فكيف نضم إليها من الأزواج (أي: الأصناف) ، ما لا يُرْجَى له رواج؟ ! لا سيما ونحن مضطرون إلى إهماله، أو الوقوع في سوء استعماله، وقالت الفقراء: بماذا نشتري هذا المتاع الفاخر؟ ، الذي هو زينة أرباب الغنى والمظاهر، وحِلْية الكبراء، ومفخر الأمراء، بل ومِعْرَاج العُبّاد الناسكين، يرقون فيه إلى مقامات الأولياء المقربين، وإذا تكلفنا تحصيل ثمن العفة والاستقامة، وإنه لأمَرّ مما يجرعنا الفقر من الضجر والسآمة، فهل يصدق هؤلاء الناس بأننا ملكنا هاتين السلعتين النفيستين، ويعترفون لنا بأننا صرنا أعِفَّاء مستقيمين؟ ، كلا، بل يقولون: إننا نُسمِّي عجزنا عن تناول الشهوات عفة، وإننا ما استقمنا على الطريقة إلا مُكرَهين، وبلجام الفقر مكبوحين، وقالت النساء: إذا اشترينا العفة والاستقامة، فإننا نرجع بالخيبة والندامة؛ لأن هؤلاء الرجال الأشرار لا تحظى عندهم إلا منهتكات الأستار، فما لم تتبرج إحدانا تبرج الجاهلية، وتتجلى لهم بأبهى مجالي الزينة الصناعية - لا تجد فيهم خاطبًا، ولا تلقى منهم راغبًا، فإذا اشترى الرجال فإنَّا مشتريات، وإذا عفّوا واستقاموا فإنا نكون عفيفات نزيهات؛ فالرجال قوّامون على النساء، لا النساء قوّامات على الرجال، ولا نستطيع أن نكون على نقيض ما هم عليه في حال من الأحوال، ثم تقدمت امرأة من الأيامى إلى السيارة مستامة، فقالت (المرأة) : هل هذه العفة غالية الثمن؟ ! (السيارة) : لا (المرأة) : ما ثمنها؟ (السيارة) : أربعة وعشرون درهمًا من الصبر، ومخالفة النفس الأمَّارة بالسوء، (المرأة) : هل يؤخذ هذا الثمن دفعة واحدة وتؤخذ به العفة؟ (السيارة) : لا، وإنما يُدفع أقساطًا في مدة طويلة، ولا تتم هذه الأقساط إلا ويرى المشتري العفة ملك يمينه، (المرأة) : إذن العفة غالية جدًّا، ثم غادرتها المرأة وانصرفت وانفضّ في إثرها الجَمع، فلم تجد السيارة بعد انصراف الناس عنها بُدًّا من التطواف والجولان، وعَرض بضاعتها على كل إنسان، فمرت في طوافها ببناء شاهق، قد ازدحمت عليه أصناف الخلائق، ولما سمعت أقوالها، وتعرفت بالفراسة أحوالهم، رأتهم يتبادلون النظر الشزر، ويتعاملون بالدهاء والمكر، كأنهم خصماء، قد أُلقيت بينهم العداوة والبغضاء، فعَرَضت عليهم بضاعتها الثمينة، وأخبرتهم بأنها تُذهب بالحقد والضغينة، فأعرضوا عن التذكرة، كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، وعَلِمت هي من القرائن الحالية، أن البِناء الشامخ هو نظارة العدلية (الحقانية) ، فطافت في أرجاء المكان، ثم دخلت إحدى غرفه بغير استئذان، وإذا هي محكمة النقض والإبرام، ومكان التشريع العام، وإذا بالقضاة فيها يأتمرون، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} (النحل: ١٩) ، فصاحت السيارة: يا معشر الحُكَّام، القابضين على أزِمَّة مصالح الأنام، هل أدُلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، وتنالون بتناولها الفخر العظيم، تتمتعون منها بالنعماء، وتفيضون من بركاتها على الدَّهماء؛ لأن من ربحها العدل في القضاء، والإنصاف بين الخصماء، وناهيكم به عمرانًا للبلاد، وإسعادًا للعِباد، وذلك أن تبتاعوا مني بعض بضاعتي السماوية، التي أرسلني لبيعها رئيس المعبودات العلية وهي العفة التي تقف بالنفس البهيمية موقف الاعتدال، والاستقامة التي ترتقي بالنفس الناطقة إلى أوْج الكمال، ولا ريب أنكم أيها الأكياس، أوْلى بهاتين من سائر الناس. كانت السيارة تتكلم بقوة روحية، وعيناها النجلاوان تنبعث منهما أشعة نورية كادت تخطف الأبصار، وتحقق الاعتبار، فاعترت القضاة الدهشة، وهزَّتهم الرعشة، وعَلتهم الهيبة، وصمَّموا على التوبة، ولولا ذلك لأوقفوها عن المقال، في أول المجال، وبعد أن أتمَّت الخطاب، وسكن من القضاة الاضطراب، ثَابَت إليهم حالتُهم الأصلية، وعادت إليهم خواطرهم العادية؛ فرأوا أنها تدعوهم إلى محو ملكات، وتبديل صفات بصفات، وتسدل بينهم وبين الاستعلاء على الناس حجابًا، وتغلق دونهم من الثروة أبوابًا، فقالوا: إن هذه الفتاة قد هَتكت حرمة النظام، واحتقرت بكلامها الحكام والأحكام، فيجب أن تُُُزَج في أعمق السجون، حتى يأتيها المَنون، وحَكَم الرئيس بهذا الجزاء، باتفاق الآراء، وعهد إلى الشرطة بتنفيذه في الحال، أو تفتدي بمبلغ عظيم من المال، لا من بِضاعتها المُزْجاة، وسلعتها المزجَّاة فأخرجها رئيس الشرطة (قومسير البوليس) ، من الديوان، وانفرد بها في مكان يريد استنطاقها، وتعرّف أخلاقها، وكان ذا فراسة، وصاحب كياسة، وكفى بالتجاريب عِبْرة وتهذيب، ولمّا رأى من كمالها ما رأى، ووقف على حُسن مقاصدها، وإرادتها الخير لبني الإنسان ببيعهم العفة والاستقامة اللتين هما من أهم أسباب سعادتهم، قال لها: (أي بُنية، اختاري لك محلاًّ آخر لبيع هذه البضاعة النفيسة، وإياك أن تمُري بهذا المكان ثانية؛ فإن أهله أعداء العفة والاستقامة، ونسأل الله السلامة!) ، فعقلت ما قال من الكلام، وتقبَّلت نصيحته الأبوية، وانصرفت بسلام. ثم مرت بمكان آخر يشبه الأول في فخامة بنائه، وكثرة اجتماع الناس في فنائه، فخطر لها أولاً أنها ربَّما تلقى في هذا ما لقيته في الأول؛ لشبهه به وقربه منه، ولكن حملتها قوة الأمل، وشدة الثبات على العمل - وهما سبب كل نجاح، وعُنوان كل فلاح - أن تمازج أهله، فمازجتهم، وأن تساومهم فساومتهم، وابتدأت بقوم جلوس على الأرض، يشتغل بعضهم بمحاورة بعض، فقالت لهم: هل من مريد للعفة، هل من راغب في الاستقامة، فإنني كُلفت باستبضاعهما؛ لأجل بيعهما، فطفِق بعضهم يضحك منها مغربًا، وبعضهم يسخر منها مستغربًا، وقال لها أحدهم: أيتها الفتاة السليمة النية، الصادقة الطوية، إن العفة والاستقامة قد أوقعتانا في الحسرة والندامة، وإن تيارهما هو الذي قذف بنا في هذا المكان؛ حيث نقاسي الذل والهوان، فقال له آخر: دعْ عنكَ هذه الفتاة الحمقاء، لقد كان عندي هذا المتاع. وكنت أحافظ عليه جهد المستطاع. ولولا أنني ألقيته في قاع البحر. لأهلكني الذل والفقر. وقد فاض عليَّ بتركه معين الثروة والغنى، ونلت بعده غاي المُنى، أترقى في الوظائف العالية، وأتقلب في الرتب السامية، وأتحلى بالوسامات الزاهية، وإذا عزلت أجيء هذا المكان، مملوء الجيب بالأصفر الرنَّان، فلا يمر عليَّ شهران، إلا وأنال أقصى ما في الإمكان، ولولا توبيخ الضمير على ترْك ذلك الإكسير، لكنت أنعم بَالاً مِن كل أمير، وأطْيب عيشًا من كل وزير، ولكنها خواطر تمر مرَّ السحاب، لا تداني ذلك البؤس والاكتئاب، وما أنا بمجنون، فأعود إلى ذلك الهون، بابتياع الاستقامة والعفاف، من هذه الفتاة الكاملة الأوصاف، ثم التفتَ إلى السيارة، وقال لها: أنصحك - أيتها الفتاة المسكينة - أن تذهبي بسلام قبل أن يَحُلّ بك الانتقام، فأنت الآن مع المعزولين، وإياك وإيَّا الموظفين، وإذا بالمكان (نظارة الداخلية) ، والذين كلَّموها هم من الموظفين المعزولين (كالمديرين والمأمورين) جاءوا ينتظرون وظائف تخلو من عُمَّالِها؛ ليطلبوها لأنفسهم، فتذكرت السيارة ما لَقِيت من النِظَارة الأولى، وما كانت ناسية، وقالت - في نفسها -: ما أشبه الليلة بالماضية، وانْسَلَّت من النظارة حزينة، ثم طافت قليلاً في المدينة، تَعْرِض البضاعة بالثمن الزهيد، راجية أن تَحْظَى برجل رشيد، فوجدت الناس في سلوكهم، على دين ملوكهم، فخرجت من المدينة خائفة تترقب أن يلحقها العذاب المهين، وتوجهت إلى الملأ الأعلى وهي تقول:] رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ [ ... (القصص: ٢١) . (وللكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))