بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وبعد، فقد تم للمنار أربع سنين ودخل بهذا الجزء في السنة الخامسة. ولم ينس القراء أن فواتح السنين الخالية وخواتمها كانت تكتب بمداد الصبر والتبرُّم، على صحائف الأمل والتعلل، لِمَا لقيناه من معارضة أنصار الجهل، ومناهضة الذين ألفوا الذل، وما تحملناه من مناصبة الظالمين، ومغاضبة المقلدين، مع العناء الكبير، وقلة العون والنصير. ولو كان هذا المنار مُنْشأ لأجل الكسب، وابتغاء الرزق، لقوّضته أنواء المناوأة والمناكدة، ودكته رياح المماكرة والمكايدة. ولو قصد به التوسل إلى الوظائف والمناصب، والتوصل إلى الرتب والرواتب، لنال منها ما أراد، أو نالت منه ما تريد. ولو كان الغرض منه الرياء والفخر , وحسن السمعة والذكر , لتلاعبت به الأهواء , وعبثت به أيدي الزعماء والرؤساء , فأمالته عن الطريقة , وصرفته عن طلب الحقيقة. كلا والله ما كان شيء من ذلك ولن يكون {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: ٨٨) . صرحت في فاتحة السنة الأولى بأنني كنت في هذا العمل بين يأس ورجاء يحركني الباعثان , ويتنازعني العاملان , وفي خاتمتها بأن غوغاء الناس سلقونا بألسنة حداد , ورمونا بسهام الانتقاد , ولم تكن السنة الثانية بأمثل من الأولى , ولا بأقل بلاءً وأكثر قبولاً. وقلت في فاتحة السنة الثالثة: إن المنار قد انتشرت تعاليمه. ولم أقل: إنه زاد هو انتشارًا. وقلت: إن الكُتَّاب والخطباء قد تداولوا مسائله. ولم أقل: إنهم كانوا أعوانًا له وأنصارًا , بل صرحت بأنهم كانوا (بين مخطّئ ومصيّب ومنتقد ومجيب , وهكذا يكون الأمر في أوله وستتجلى الحقيقة للناس إن شاء الله عن قريب) . وكتبت في فاتحة السنة الرابعة أنه قد نما النمو الطبيعي المقدر له من أول نشأته (أي: التدريجي البطيء) ولقي صاحبه من الألاقي بعض ما لقي الذين تصدوا للإصلاح من قبله، وصبر كما صبروا {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: ٢٤٩) نعم إننا كنا نمزج هذه الشكوى بشكر العلماء , والاعتراف بفضل الفضلاء، الذين تقبلوا المنار بأحسن القبول، ورأوه من بواعث إحياء الأمل وحصول المأمول، مع الإيماء إلى قلتهم، والتبرم من عدم نجدتهم. هذا مجمل تاريخ المنار من أول نشأته إلى سنته الرابعة التي كان آخرها خيرًا من أولها وخاتمتها أفضل من فاتحتها، ولم ينس القراء أننا اعترفنا فيها بتضاعف قراء المنار، وكونه صار موضع الثقة في جميع الأقطار. ونزيد تحدثًا بالنعمة فنقول: لقد خشعت بفضل الله تعالى أصوات المشاغبين، وأعرض الناس عن جهل المعارضين، فخنست شياطين الوساوس، وطاشت سهام أرباب الدسائس، وصار لنا من مستحسني العمل في السر، من يدعو إليه في الجهر، ومن المتبرمين منه، من يناضل دونه ويدافع عنه، فلنا أن نقول الآن تحدثاً بالنعمة: إننا انتقلنا من مقام الصبر إلى مقام الشكر. فأما الصبر: فلا بد للداعي إلى الحق من الاعتصام به ولذلك قرن الله تعالى التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ومن فوائد الصبر الظفر وحسن الجزاء قال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: ٩٦) وقال عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: ٢٤) بل وعد سبحانه أهل الصبر، بمضاعفة الجزاء والأجر، فقال: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} (القصص: ٥٤) . وأما الشكر: فقد وعد الله تعالى صاحبه بالمزيد من النعمة والأمن من العذاب فقال عز شأنه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: ٧) وقال جل ثناؤه: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} (النساء: ١٤٧) فنسأله تعالى أن يوفقنا للشكر على الآلاء (ما وفقنا للصبر على البلاء) فإن الشكر مقام عزيز؛ لأن من شأن الإنسان أن تُبطره النعمة ويشغله الغرور بها عن الشكر عليها، ولذلك قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ: ١٣) . الشكر هو: معرفة النعمة للمنعم تعالى والثناء عليها وصرفها في إقامة سننه وموافقة حكمته وموجبات محبته، ومَنْ شَكَرَ اللهَ شَكَرَ مَنْ أحسن العمل مِن عباده، فقد روى أحمد وأبو داود وابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) لهذا نشكر لأولئك الأفاضل الذين انتدبوا للدعوة إلى المنار والسعي في نشره عملهم، ونعرف لهم فضلهم، ونشكر أيضًا للمشتركين الكرام الذين يؤدون الحقوق في أوقاتها وفاءهم، ونعترف بالسبق بالفضل، لقوم سبقوا بالبذل؛ فأدوا قيمة الاشتراك عن السنة الخامسة قبل دخولها حتى إننا لم نقبل ذلك من بعضهم إلا بعد الإلحاح منهم والإصرار. ونرجو من سائر المشتركين الفضلاء أن يبادروا إلى حسن الأداء، فإنه من يُشكَر له، خير ممن يُصْبَرُ عليه، ونحمد الله تعالى أن أكثر قراء المنار، من المصطفين الأخيار فمنهم العلماء الفضلاء، والأمراء والوزراء، والقضاة المقسطون، والمحامون البارعون، ونظار المدارس وأساتذتها، والأذكياء النابغون من تلامذتها، وذوو الشهامة من الضباط المصريين، ونعِد الجميع بأننا سنبذل الجهد في زيادة الفوائد، وتحرير المسائل، والبحث عن أقرب الوسائل لنهضة المسلمين، ومنفعة جميع الشرقيين، بل نرجوا أن يكون عملنا خدمة للناس أجمعين. ونسأل الله أن يحفظنا من عثرة القلم، وزلة القدم، وأن يلهمنا السداد، ويوفقنا للصواب، وأن ينصر سلطاننا، وينير برهاننا، ويحقق آمالنا، ويحسن مآلنا، فهو نعم المولى ونعم النصير، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. ... ... ... ... ... ... ... ... صاحب المنار ومحرره ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيدرضا