للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المحاورات بين المصلح والمقلد

المحاورة الأولى
في حالة المسلمين العامة
السلف والخلف في الإسلام. أيّ سيرتيهما تختار للإصلاح. الإنسان المدني
والإنسان المنطقي. شقاء المسلمين في دنياهم. الدليل على ذلك. الثقة بكتب تقويم
البلدان والجرائد. رواية الكافر. التواتر. قرب قيام الساعة وفساد الزمان. الريب
فيما يروونه في أشراط الساعة. سبب مرض الأمة ترك الشريعة. استحالة إصلاح
المسلمين إلا بالمهدي. متى تقوم الساعة. إنكار المهدي. الإصلاح بإبطال
المذاهب.
نقص على القراء حديث محاورات بين شاب من مريدي الإصلاح الذاهبين
إلى وجوب خروج الأمة مما هي فيه من التقاليد الحادثة في الملة , والرجوع بالدين
إلى بساطته الأولى حيث كان يتناوله رعاء الشاء من كثب بالاقتصار على هدي
الكتاب وصحيح السنة وسيرة السلف , وحذف كل ما زاده الخلف من الغلو في الدين
وتكثير التكاليف , وإبرازها بصور تعتاص على الأذهان , وبين شيخ من
المحافظين على التقاليد التي عليها الأمة من قرون طويلة المعتقدين أن الأخذ
بالكتاب والسنة مخصوص بالمجتهدين , وأنهم قد انقرضوا، ويستحيل وجود
غيرهم , وأن كتب المتأخرين من أموات العلماء خير من كتب المتقدمين وأجمع،
وأفيد في التحصيل وأنفع، ونكتفي بما يرد في المحاورات من بحث الاجتهاد
والتقليد عن الكتابة فيه استقلالاً فنقول:
اجتمع أحد الشيوخ المتفقهين، وأكابر الوعَّاظ المدرسين، بشاب من الناشئة
الجديدة الذين جمعوا بين العلوم العصرية والدينية كما جمعوا بين المال والجاه
بجدهم وكدهم , ولولا ذلك لم يتنازل الشيخ لمحاورته.
نظر الشيخ إلى الشاب فألفاه ضجرًا متبرمًا تلوح عليه مخايل الحزن كأنما
أصابته مصيبة في نفسه أو أهله وماله , فقال له (الشيخ) : ما بالك [١] فإنني أراك
على غير ما أعهد , وإنني أعجب أن أرى مثلك يهتم لشيء من الأشياء , فالحمد لله
خير كثير وصحة جيدة , والله قد وفقك للبر والتقوى والصدقات والمبرات , والكريم
لا يضام.
(المصلح) : مهلاً أيُّها الأستاذ فإنني إنسان ومعنى (إنسان) خلق اجتماعي
يشعر بأنه عضو من أمة يسعد بسعادتها ويشقى بشقائها , وإنني أرى أمتي أشقى
الأمم وأتعسها , فكيف أكون أنا سعيدًا ناعم البال في أمة هذا شأنها من الخذلان
والنكال.
(المقلد) : ما هذا الذي أسمع منك؟ فإنك قد أخطأت خطأً منطقيًّا , وخطأً
دينيًا. أما الخطأ المنطقي فإنك قد عرفت الإنسان بغير تعريفه الذي أجمع عليه
علماء المنطق وهو: (حيوان ناطق) , وأما الخطأ الديني فهو أنك اغتبت
المسلمين جميعًا , وجعلت أمة النبي صلى الله عليه وسلم شقية , بل جعلتها أشقى
الأمم وخالفت الكلمة المجمع عليها بين المسلمين وهي: (أمة محمد على خير) .
(المصلح) : إننا لسنا بصدد تحديد ماهيات الأنواع والأجناس فنذكر تعريف
المنطقيِّ للإنسان وإنما نريد الكلام في موضوع اجتماعي فإذا لم يصح ما قلته في
الإنسان عند المنطقي فهو صحيح عند أهل علم الاجتماع , وأما الغيبة فلا تظهر هنا؛
لأنني لم أحتقر إنسانًا بخصوصه. وأما كون الأمة الإسلامية أشقى الأمم في هذا
العصر فلا يشك فيه إلا من لا يعرف من أحوال العالم شيئًا , ولا يعرف بلاد
المسلمين ومن يحكمهم , وما هم عليه من الجهل والفقر والذل , وكيف يسامون سوء
العذاب في جميع الأقطار وهم وادعون ساكنون. غارُّون آمنون. كأنهم عجماوات
لا يعقلون , أو جمادات لا يحسون ولا يشعرون فهل من العقل وصحة الفكر التي
استفدناها من المنطق أن نكذب المحسوسات اليقينية لكلمات كاذبة سميناها
إجماعية؟
(المقلد) : أنت لم تشاهد أحوال جميع المسلمين فيصح حكمك عليهم , ولم
لا يجوز أن يكون في البلاد البعيدة عنا من له منهم دولة قوية وعز وسؤدد؟ . هذا
إذا سلمنا لك جدلاً أن المسلمين في هذه البلاد أقل من غيرهم من أهل الملل الأخرى
علمًا ومالاً. وكيف نسلم بهذا وإننا نرى المسلمين أغنى من القبط , وأما العلم فليس
عند غير المسلمين علم مطلقًا.
(المصلح) : إن علم تقويم البلدان والجرائد السيارة قد مثلت لنا ما لم
نشاهده من بلاد المسلمين وغيرها حتى كأننا نشاهده دائمًا لا يغيب عنا منه شيء ,
ولكنني أراك غير محيط بعلم ما بين يديك من حال ثروة المسلمين هنا وعلمهم , ولا
أناقشك فيه الآن , فإن غرضي أن تقتنع بأن المسلمين في شقاء؛ ليكون هذا أساسًا
وقاعدة للكلام بيني وبينك.
(المقلد) : كيف أقتنع بكلام لا حجة لك عليه إلا كتب تقويم البلدان وكلام
الجرائد , وكلاهما كذب لا يوثق به فإن مصادره كلها كفرية , والكافر لا تقبل
روايته.
(المصلح) : إن الكافر لا تقبل روايته في موضوع كفره وما يتعلق بإثباته
وإبطال ما يخالفه. وأما ما ليس له غرض في الكذب فيه , وإنما غرضه ومنفعته
في الصدق به؛ لأن فيه فائدته وفائدة قومه فإن العقل يقضي بأنه يتحرى الصدق
فيه لئلا يغش نفسه وأمته , ومن هذا النحو: علم تقويم البلدان , وثم وجه آخر
يجلي لنا تحريهم الصدق في مثل هذا الموضوع , وهو أن كل كاتب يعلم أن
كتابته تنتشر بالطبع , ويطلع عليها أهل العلم بموضوعها فيسلقونه بألسنة الانتقاد
الحداد , والأقوى من هذين الوجهين أن معظم المسائل التي أستند عليها في حكمي
على المسلمين من المتواتر الذي يفيد اليقين , فإن معظم مسائل علم تقويم البلدان
وأخبار الجرائد الشهيرة متفق عليه بين الشركات البرقية والمراسلات البريدية في
جميع بلاد المدنية , ولا يخفاكم أن التواتر لا يشترط في رواته الدين , وإنما آيته
حصول العلم اليقيني به لمن بلغه كما في كتب الأصول.
(المقلد) : يشترط في التواتر أن يؤمن تواطؤ الرواة على الكذب , ولا
يتحقق هذا الشرط إلا إذا لم يكن لأولئك الرواة غرض وهوًى فيما يروونه , فإذا
تحقق هذا الشرط بالنسبة لمسائل علم تقويم البلدان على ما قلت فلا يتحقق في أخبار
الجرائد البرقية ولا البريدية؛ لأن لرواتها ومذيعيها أهواءً وأغراضًا سياسية.
(المصلح) : أنا لا أقول: إن كل ما يروونه حق وصدق , ولا أبرئُهم من
الهوى والغرض مطلقًا , ولكن لا تتوهم أن أهواءهم تخفي الحقيقة , وإنما قصاراها
أن تتصرف فيها بعض التصرف. كالاعتذار والتلطف. كما نرى في برقيات
شركة روتر الإنكليزية في هذه الحرب الترانسفالية , فقد كانت تخبرنا بجميع
انكسارات قومها الإنكليز , وهذا هو الشأن في الاعتماد على رواة شركة واحدة فيما
تتهم فيه فما بالك بما ترويه رواة شركات مختلفة الأهواء والأغراض , وتتفق فيه
مع رواة البُرُد الذين يراسلون الجرائد المختلفة المشارب والمذاهب؟
(المقلد) : إنني بصرف النظر عن صدق الجرائد وغيرها أسلم لك بأن
المسلمين في حال سيئة على الجملة , فإن هذا آخر الزمان , وكل هذه الأحوال من
علامات قيام الساعة , وهي كائنة لابد منها , وستزداد يومًا بعد يوم حتى لا يبقى إلا
لكع بن لكع , وعليهم تقوم الساعة , فلا ينبغي أن نهتم بهذا الأمر ولا أن نحزن له
لأنه مصداق إخبار النبي صلى الله عليه وسلم ويستحيل زواله.
(المصلح) : هذا بعض ما أريد مذاكرتك به , فإن عندي ريبًا في كثير مما
يروونه في الكتب من علامات الساعة , وما سيكون قبلها أقوى من ريبك في أخبار
الجرائد وعلم تقويم البلدان , ولا يسعنا في هذا المجلس أن نبحث في متونها
وأسانيدها , ونبين ما يقبل منها وما لا يقبل , ولكننا لا ننكر على أي حال أن لكل
شيء وقعنا فيه سببًا , وأن لكل مرض علاجًا , فإن الهيئة الاجتماعية كالهيئة
الشخصية تمرض بسبب , وما دام فيها رمق من الحياة لا يأس من شفائها , فما
رأيك أيها الأستاذ في أسباب مرض الأمة الإسلامية العام وما رأيك في علاجه؟
(المقلد) : أما سببه فهو ترك الشريعة عملاً وحكمًا , وليس له علاج؛ لأن
قيام الساعة قريب , وهي لا تقوم إلا على شرار الخلق كما قلت لك إلا أن الملوك
والحكام الذين أفسدوا الدين والدنيا إذا حكموا بالشريعة , وألزموا الناس بالعمل بها؛
يندمل جرحهم وينشعب صدعهم ويصلح شأنهم , وما هم بفاعلين حتى يظهر المهدي
وقد بشرني بعض الصالحين بأنه يظهر في هذا القرن , والساعة تقوم في أول
القرن الخامس عشر واستدل على هذا بقوله تعالى: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} (الأعراف: ١٨٧) فإن حروف بغتة تبلغ بحساب الجمل ١٤٠٧ وبحديث: (إن
أساءت أمتي فلها يوم , وإن أحسنت فلها يوم ونصف) واليوم عند الله ألف سنة ,
وقد أحسنت ولله الحمد , ولذلك جاوزت الألف , وفي أواخر النصف تقوم الساعة.
(المصلح) : أما قولك: إن ترك العمل بالدين والحكم بالشريعة هو سبب
ضعف المسلمين فهو مسلّم عندي , ولكن لي فيه فهمًا ربما كان غير ما تريد. وأما
قولك: إن رجوعهم إلى الشريعة لا يكون إلا بقوة المهدي المنتظر فأنا لا أعتقد
بصحة هذا بل أقول: إن هذا الاعتقاد من أدوأ أدواء المسلمين وأقتل أمراضهم ,
وإن كان فيما قالوه عنه كلمة إصلاح وهي إبطال المذاهب وجعل المسلمين على
طريقة واحدة كما هو أصل الإسلام , وأغرب من هذا استدلالك على قيام الساعة
بالآية فإن هذه الطريقة من الاستدلال ليست معروفة في الأصول , وكذلك الحديث
لا أراه يصح , ثم انصرفا على أن يعودا للكلام بعد أيام.
للكلام بقية
((يتبع بمقال تالٍ))