للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار
غرائب الوسوسة في الطهارة
(س٢٢) مِن صاحب الإمضاء في أسيوط
أستاذي الفاضل:
بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , أرجو الفتوى على ما يأتي:
رجل تردد على غالب محلات الأكل في مدينة من المدن , وكان يتناول أكله
منها بدون أن يغسل يديه المتنجستين , وقد ترك هذه العادة الممقوتة الآن؛ فما
الحكم في مأكولات هذه المدينة؟ وما الذي يعمله ذلك الرجل إذا كانت حرفته
تستدعي وجوده في هذه المدينة , ولا يمكنه الانتقال عنها إلا في أزمنة مخصوصة
وكالإجازات الرسمية مثلاً؟ ومعلوم أيضًا أن سكان المدن لا غِنَى لهم عن تناول
طعامهم من تلك المحلات السالفة الذكر , وبعضهم يأكل منها ولا يغسل يديه عقب
الأكل , ولا يمكن للرجل المذكور أن يستغني عن قضاء حاجته منهم , ولما أعهده
في فضليتكم من شرح معضلات المسائل , والتفاني في خدمة العلم والمسلمين جميعًا
بعثت بهذه إليكم طالبًا من المولى سبحانه وتعالى أن يجزل ثوابكم , ويعظم أجركم
وتنازلوا بقبول عاطر تحياتي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ابنكم المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد البديع مصطفى
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بمعهد أسيوط الديني
(ج) إن الرجل المسئول عن حاله وما يترتب عليها شاذ في عقله وعمله ,
فهو موسوس , والسؤال عن حاله من شواذ مسائل الوسوسة , ويصعب على العاقل
أن يتصور وجود رجل عاقل تكرر منه الأكل في أكثر مطاعم مدينة وهو متنجس
اليدين , ولعل السائل لو ذكر لنا كيف كانت يداه متنجستين في هذه المرار كلها
لجزمنا بأنَّ تنجسها من الوسوسة لا حقيقي.
هذا وإن تنجس اليدين لا يقتضي تنجس الطعام الذي يؤكل بهما , إلا إذا كان
يغمسهما في الإدام المائع كالمرق , وأما تناوله بالملعقة فهو كآخذ الجامد باليد لا
يقتضي تنجس الإناء , وإذا فرضنا أن كان من شذوذ وسوسته غمس يده النجسة أو
يديه في المائعات , وأن أوانيها تنجست بها , فذلك لا يقتضي بقاء هذه الأواني
نجسة , فإن الأواني في المطاعم وغيرها تغسل عقب كل طعام , وطهارة أواني
المطاعم وغيرها , وطهارة الطعام أصل لا يعدل عنه إلا في إناء يعلم أنه تنجس ,
وأنه لم يطهر بعد ذلك بأن رأى النجاسة أصابته , ولم يغب عنه غيبة يحتمل
تطهيره فيها.
وجملة القول في الجواب: إن السؤال ليس من المشكلات , بل هو من أوضح
الواضحات , فأواني مطاعم البلد كلها تعد طاهرة شرعًا وعقلاً وعرفًا , فلا حرج
على الرجل في الأكل منها إذا ارتفع حرج الوسواس من قلبه , ولا خلاف في هذا
بين فقهاء المذاهب المعتبرة , ولكن لهم أبحاثًا دقيقة في بعض النجس بيقين , إذا
اختلط بالطاهرات وما في معناه.
***
أسباب ارتقاء العرب الماضي
وهبوط المسلمين وعلاجه
(س ٢٣-٢٥) مِن صاحب الإمضاء في حمص
حضرة العلامة الفاضل الشيخ رشيد رضا زاده الله رشدًا وأرضاه نوجه لحضرتكم الأسئلة الآتية , آملين أن تنوروا بصائرنا بما آتاكم الله من العلم , مد الله
مناركم نورًا , فليجب الله سؤالكم , وينجح مقاصدكم وأمانيكم:
(١) ما السر الذي جعل العرب الجاهلية - على ما كانوا عليه من التباين
والتنافر والجمود والهمجية - أن يخترقوا قوانين النشوء الطبيعي ونواميس الارتقاء
إلى أن وصلوا درجة الكمال بأقل من جيل؟
(٢) ما هي الأسباب التي أدت إلى هبوط المسلمين من الكمال إلى
حضيض الزوال؛ مع ما كانوا عليه من متانة القواعد الدينية والمدنية الجامعة
لجميع ما يحتاجه البشر من العلوم النافعة والصالحة في كل زمان ومكان , واعتبارًا
من أي تاريخ يبدأ هذا الانحطاط وفي أي التواريخ يتوقف , ثم يعود إلى الهبوط ,
وأسبابه (مختصرًا) ؟
(٣) بأي أصول يمكن معالجة حالة السلمين الحاضرة؟ وأي السبل أنفع
وأقرب للفلاح؟ وأي الأمم والأمراء الحاضرة من المسلمين أكمل استعدادًا لأداء
الخدمات للنجاح العام؟ وكيف يمكن ذلك؟
ولولا أن هذا الموضوع يهم كل مسلم يدق قلبه على تأخر أمته , بل كل
شرقي يتألم من تدنس الشرق , ثم لولا علمنا بأننا ما قصدنا إلا أوثق معهد , وأوسع
دائرة علمية إسلامية شرقية , لما تجاسرنا لتعجيزكم , فعذرًا يا سيدي جزاكم الله عنا
كل خير.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد فوزي
(ج) إن ما قاله السائل الغيور في جاهلية العرب لا يصح ولعله يريد
السؤال عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وتابعيهم من عرب الجاهلية ,
الذين ارتقوا بالإسلام عقولاً وأخلاقًا وحكمة , وعلمًا وعملاً , وعدلاً وسياسة وإدارة
كانوا بها فوق المعهود في تاريخ البشر من نوع ارتقائهم , وفيما ترتب عليه من
الفتح الشريف , وتأسيس ذلك الملك العظيم على أساس العدل إلخ. وقد بيّنا ذلك في
مواضع كثيرة من مجلدات المنار وتفسيره , كما بيّنا أسباب هبوط المسلمين بعد ذلك
وتاريخه وعلاج ما طرأ عليهم من الأمراض الاجتماعية , ولا يمكن تلخيص شيء
من المسائل الثلاث في جواب سؤال ينشر في باب الفتاوى.
وإنما أقول بالإجمال: إنه لا يُصْلِح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها , كما
قال الإمام مالك - رضي الله عنه -: (وذلك ما جاء به الإسلام من إصلاح العقول
بالعقائد الصحيحة الخالية من خرافات الوثنية , وإصلاح الأنفس بالعبادات السليمة
من البدع والآداب والفضائل , وإصلاح حال الاجتماع بوحدة الأمة , وجمع كلمتها ,
وتوحيد وجهتها وتوجيهها إلى طلب العزة والكمال الذي شُرع الإسلام لأجله) .
وأقوى الشعوب الإسلامية استعدادًا لذلك أهل الدين في جزيرة العرب وأهل
أفغانستان , ولكن هؤلاء عرضة للتفرنج الذي يفرق كلمة كل شعب شرقي يفتتن به
في نفسه , ويجعل بعض أهله أعداءً وخصومًا لبعض بأْسُهم بينهم شديد , تحسبهم
جميعًا وقلوبهم شَتَّى , فنسأل الله أن يقيهم شر هذه الفرقة التي قوضت أركان
السلطنة العثمانية , وقطعت أوصال الوحدة المصرية وضعضعت ألباب الطوائف
السورية , فيجب إرشاد عرب الجزيرة إلى جمع كلمتهم بالدين , ولن تجتمع بغيره ,
وإلى العناية مع ذلك بتنظيم القوة الحربية وتنظيم موارد الثروة الداخلية , ثم يجيء
كل ارتقاء تبعًا لذلك , ولا نظام أصلح وأرجى لذلك من نظام الوهابية , إذا أتيح له
ما يحتاج إليه من المساعدة , وكذلك الزيدية في اليمن , فهم فرقة متحدة تحتاج إلى
المساعدة على تنظيم القوة والثروة الداخلية , ويجب أن يتحالف الإمامان فيهما ,
ونحمد الله تعالى أنه ليس ثمة أجناس ولا مال يتخذها الأجانب ذرائع للفساد فيهما.
***
خطيب يأمر المسلمين بالشرك
(س ٢٦) من صاحب الإمضاء في بمبي (الهند) .
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة العالم العلامة والحَبْر الفهّامة سيدي الأجل السيد محمد رشيد رضا
صاحب مجلة المنار المنير لا زال محفوظًا لخدمة الدين الحنيف آمين. أما بعد:
فأرجو إجابتي عما يأتي:
خطب أحد خطباء مساجد بمبي خطبة يوم الجمعة حبذ فيها الاستغاثة
والاستعانة بغير الله؛ كالأنبياء والأولياء والصالحين , وقد جاء بأحاديث عزز فيها
قوله لا أعلم مقدار حظها من الصحة , وكان بودّي أن آخذ نص الخطبة وأرسلها
مرفقة بسؤالي ولكنني لم أستطع , غير أني أظن أنني أحفظ حديثًا واحدًا مما أتى به
ذلك الخطيب بدون إسناد , إذا لم تخني ذاكرتي وهو (اذكر أحب الناس إليك , قال
يا محمداه يا محمداه) , وقد سب وشتم أيضًا عالمًا من كبار علماء المسلمين ألا وهو
المرحوم حسن صديق خان البهبالي؛ لزعمه أنه حرف في فتح الباري الذي طبعه
في مصر على نفقته حديث (أوتيت علوم الأولين والآخرين) وعند انتهاء الخطبة
عاد فكرر كرامات الصالحين ووجوب الاستعانة بهم , واستشهد على ما قال بقصة
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع سارية والقصة مشهورة عند العامة ,
ولكنني لم أعثر عليها في كتب مَن أثِقُ به من المؤرخين.
فما قول سيدي الأجل فيما تقدم؟ اهدنا إلى طريق الحق جعلك الله هاديًّا
ومرشدًا والله يحفظكم والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص لكم ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي خان البنجابي
(ج) الاستغاثة والاستعانة بالمخلوق قسمان:
(أحدهما) ما يكون بين الناس من طلب التعاون والمساعدة في الأمور
الكسبية: كاستغاثة مَن أَشْرَفَ على الغرق أو تردى في بئر أو حفرة بمن ينقذه مثلاً,
وكاستعانة مَن وَقَعَ حِمْلُ دابته بمن يساعده على رفعه؛ فهذا القسم مشروع في كل
عمل مشروع من الواجبات والمستحبات والمباحات.
(ثانيهما) ما يكون فيما وراء الأسباب التي هي من كسب الناس مما يخالف
سنن الله تعالى في خلقه؛ كالاستغاثة بالموتى , والاستعانة بهم وبالأحياء فيما ليس
من مقدورهم وكسبهم: كإنزال المطر , وشفاء المرضى بغير تداوٍ , فهذا القسم
خاص بالله تعالى لا يطلب من غيره , وهو المراد بقوله تعالى في سورة الفاتحة:
{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) ومعناه نستعينك وحدك ولا نستعين غيرك , كما
أن معنى قوله تعالى قبله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: ٥) نعبدك ولا نعبد غيرك؛
فاستعانة غير الله تعالى بهذا المعنى كفر وشرك كعبادة غيره , ومن أمر بذلك كان
آمرًا بالكفر بالله ومخالفة ما كُلَّف جميع عباده أن يخاطبوه به في كل ركعة من
صلواتهم , فهل صار المسلمون في درجة من الجهل بدينهم يؤمهم بها في صلاتهم ,
ويتولى وعظهم في مساجدهم مَن يأمرهم بهذا؟ وإذا لم تكن هذه الاستعانة هي
الخاصة بالله تعالى بنص هذه الآية في أشهر سورة من كتاب ربهم , يحفظها كل
مسلم ومسلمة فما هيه؟ على أن العباد يتحرون اجتناب الاستعانة بالمخلوقين
وسؤالهم حتى في الأمور الكسبية التي أقام الله تعالى بها نظام هذا العالم , وقد ورد
في مناقب الصديق الأكبر - رضي الله عنه - أنه لم يسأل النبي صلوات الله عليه
وعلى آله شيئًا لنفسه قيل: ولا الدعاء. وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم
لابن عباس - رضي الله عنه - (إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)
رواه الترمذي عنه , وقال حسن: صحيح , وقال الحافظ ابن رجب في شرحه: إن
هذه الوصية منتزعة من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥)
وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه على ألا يسألوا أحدًا شيئًا
منهم الصديق وأبو ذر وثوبان - رضي الله عنه - فكان أحدهم يسقط سوطه أو
خطام ناقته من يده وهو راكب , فلا يسأل أحدًا أن يناوله إياه؛ (أقول) : وهذه
درجة كمال , لا يقدر عليها إلا أفراد الرجال , وأما الأولى فيكلفها كل مؤمن؛ لأن
تركها ينافي الإيمان , وفي المسألة أحاديث أخرى في الصحاح وآثار عن كبار
الصحابة والتابعين ومَن دونهم من الصالحين.
والاستغاثة في هذا الباب مثل الاستعانة؛ بل أخص لأنها عبارة عن الضراعة
في الدعاء عند شدة الضيق , التي وصف الله تعالى مشركي العرب بأنهم لا يدعون
غيره عندها , وإنما يشركون به بعد أن ينجيهم منها والآيات في ذلك متعددة.
وقد استغاث المسلمون الله تعالى يوم بدر , ولم يستغيثوا النبي صلى الله عليه
وسلم , بل كان - بأبي هو وأمي - إمامهم وقدوتهم في الاستغاثة , كما أنزل الله
عليه {ِإذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} (الأنفال: ٩) إلخ , وذلك أنهم كانوا قد
قاموا بكل ما قدروا عليه , ولم يبق إلا ما لا يناله كسبهم من أسباب النصر , فسألوا
الله تعالى مستغيثيه , فاستجاب لهم ونصرهم.
ولكنك تجد الألوف من المسلمين الأميين والمتعلمين يعارض هذه الأصول
القطعية من التوحيد بشبهات تلقّاها بعضهم من بعض بالتسليم والتقليد الجهلي ,
وهي إن ما ثبت في الكتاب من حياة الشهداء , وما عليه جمهور أهل السنة من إثبات
كرامات الأولياء يقتضيان جواز دعائهم ودعاء سائر الصالحين , واستعانتهم على
قضاء الحاجات وكشف السوء والنصر على الأعداء , وسائر ما نعجز عنه من
طريق الأسباب وسنن الله في الخلق؛ وهذه الشبهة باطلة من وجوه شرحناها في
التفسير وباب الفتوى وغيره من المنار مرارًا , ومن أخصها أن حياة الشهداء من
أمور عالم الغيب , وكرامات الأولياء من خوارق العادات عند مثبتيها , وقد أجمعوا
على أن كُلاًّ منها يُؤخذ ما صح منه بالتسليم , فليس للمجتهد أن يقيس عليه ولا أن
يستنبط منه حكمًا شرعيًّا , ولو لم يكن معارضًا لنصوص الكتاب والسنة؛ كاستعانة
غير الله تعالى , فكيف إذا كان كذلك؟ وكان المستنبط مع هذا غير مجتهد ولا عالم
كهؤلاء الجهال , وإن كان فيهم معمّمون كثيرون , وأما قصة عمر - رضي الله عنه -
في نداء سارية فقد رواها البيهقي بسند ضعيف , وذكرها السبكي في طبقات
الشافعية.
وأما سب هذا الخطيب للعالم الجليل السيد حسن صديق محيي السنة في بلاد
الهند وغيرها فهو من المعاصي المعلومة من الدين بالضرورة , وأما زعمه أنه
حرّف في فتح الباري فكذب , وهو لم يتول تصحيح فتح الباري , وإنما صححه له
عند طبعه بعض علماء مصر.