للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الحرب أو التحكيم
(سوانح وبوارح)

قال بعض العلماء: إن مَن برع في فن من الفنون يهتدي به إلى سائرها،
ومراده أن بين مسائل العلوم مشابهة، فمن قويت ملكته في مزاولة بعضها سهل عليه
فهم البعض الآخر.
ولدينا الآن مسألة من علم السياسة تشبه مسألة من مسائل النحو، وقد اختلفت
فيها الجرائد السياسية، كما اختلفت النحاة في مسألتهم، المسألة السياسية: مسألة
فشودة، والنحوية: مسألة التنازع، يقول النحاة: إذا تنازع عاملان في اسم فلابد
من إعمال أحدهما؛ إذ يمتنع اجتماع مؤثرين على أثر واحد، كما ثبت في علم
الكلام، واختلفوا في الأولى بالعمل من العاملين، فذهبت طائفة إلى أن العامل الأول
أولى، وقالت أخرى: بل الأولى هو الثاني، واستدل كل فريق بدليل، كذلك
المتكلمون في السياسة اتفقوا على أن الذي يستولي على فشودة واحد، ولكن اختلفوا
في تعيين ذلك الواحد، واستدل كل فريق بما لاح له أنه يؤيد جانبه.
تقرأ في الجرائد الإنكليزية وما على مشربها من الجرائد المصرية أن الحق
واضح في جانب بريطانيا العظمى؛ لأنها فاتحة بمالها ورجالها مع مصر، فهي
شريكة لها في كل بلاد السودان الذي يعتبر ملكًا للفاتحين؛ ولأن السر إدورد
مونسون سفير إنكلترا في باريس أبلغ المسيو هانوتو ناظر الخارجية الفرنسوية
السابق في ١٠ ديسمبر سنة ١٨٩٧ أن الحكومة الإنكليزية لا تسلم لدولة أوروبية
بدعوى تحتل بها جزءًا من وادي النيل وأن وزارة اللورد سالسبوري توافق وزارة
اللورد روزبري على أنه: إذا كانت فرنسا قد أرسلت حملة بأوامر سرية إلى بلاد
اشتهرت دعوانا عليها من زمن بعيد فإننا نعد عملها هذا غير ودي أو (عدائيًّا) كما
قال السر إدورد غراي في مجلس النواب الإنكليزي في ٢٨ مارس سنة ١٨٩٥.
وتقول الجرائد الفرنسوية والجرائد التي على مشربها في مصر وغيرها: إن
توفيق باشا الخديوي السابق قرر إجابة لطلب الإنكليز ترك السودان المصري،
وكتب في ٢٦ يناير سنة ١٨٨٤ إلى غوردون باشا حاكم السودان من قِبله يأمره
بإجلاء الجنود والعمال المصريين من بلاد السودان كلها، فصار بذلك السودان مباحًا
لكل فاتح، كسائر الأراضي الأفريقية المقرر في مؤتمر برلين: أن من سبق إلى
شيء منها ملكه، وقد شرعت الحكومة الإنكليزية تتصرف في السودان المصري من
عام ١٨٩٠، فأخذت زيلع وأعطت هرر لإيطاليا، ولادو لولاية الكونغو، بل
خصت نفسها بالأقاليم الاستوائية الخصبة، وأجرت للكونغو ما شاءت.
فإن كان تصرفها هذا صحيحًا فلماذا لا يكون تصرف فرنسا صحيحًا مثله؟
وإن كانت البلاد لما نزل ملك الحكومة الخديوية العثمانية، فما هذا التصرف وما هذا
الامتلاك والاشتراك بالفتوح الذي تدعيه؟ وأما قولها: إنها لا تسمح لأية دولة
باحتلال أي جزء من وادي النيل، فهو لا يقتضي امتلاكها لوادي النيل وإعطاءها
الحق بالاستئثار به، وإلا لأمكن لكل دولة أن تمتلك من الأرض ما تشاء بكلمة كهذه
تقولها. وقد زعمت بعض الجرائد أن المسيو هانوتو لم يرد على كلمة السر إدوارد
السابقة، لكن الكتاب الأزرق الذي أصدرته الحكومة الإنكليزية من عهد قريب
وضمنته المذاكرات التي جرت في مسألة فشودة بين إنكلترا وفرنسا من شهر ديسمبر
سنة ١٨٩٧ إلى ٣ أكتوبر الجاري مع ملحق فيما دار بين الحكومتين من أغسطس
سنة ١٨٩٤ إلى أبريل سنة ١٨٩٥، قد جاء فيه أن المسيو هانوتو أجاب سفير
إنكلترا (عن بلاغه الذي تقدم) بأن سفير فرنسا في لوندره اعترض على ذلك في
إبانه، وأنه هو رد ذلك القول في مجلس الشيوخ في ٥ أبريل سنة ١٨٩٤، ولم
ترد الحكومة الإنكليزية على رده.
أما نحن معاشر العثمانيين عمومًا والمصريين خصوصًا فنقول: إن حجج
الفريقين داحضة، فالبلاد السودانية هي من الممالك الشاهانية، والخديويون لا
يملكون إخراجها منها، لأن الذي يولي الخديوي على البلاد يحدد له سلطة ليس هذا
منها. فتخلي توفيق باشا عن السودان لا يجعله مباحًا لمن سبق، وغنيمة لمن فتح،
ما لم يُجزه على ذلك السلطان الأعظم إجازة رسمية. وإذا فرضنا صحة التخلي فلا
مندوحة عن القول بأن جميع ما احتلته فرنسا صار ملكًا لها، وكذلك ما أخذته إنكلترا
من زيلع وغيرها وما وهبته جائز صحيح، وما فتح باسم الحكومة الخديوية فهو
للحكومة الخديوية ليس لإنكلترا فيه شيء؛ لأنها لم تكن إلا مساعدة على سبيل
التبرع، ولو كانت شريكة لم يكن السردار (باشا) ولابسًا للطربوش! ! ولم تكن
النفقات كلها من الخزينة المصرية، بل كانت مناصفة وكانت ألف جنيه داخلة في
ضمن الحساب ولم تعط دينًا ويسمح بها بعد ذلك سماحًا.
لكن السياسة ليس فيها حق وباطل وصحيح وفاسد، وإنما هي قوة تفعل
وضعف ينفعل، ولذلك نرى الجرائد الإنكليزية ترمي في الاحتجاج إلى غرض آخر،
وهو أنها تطلب من فرنسا أن تمثل نفسها مكان الإنكليز في مصر، وعاملة عملها
في الاجتهاد بفصل السودان ثم بإعادته، وتعبها في القبض على أزمة الحكومة
المصرية وإدارة مصالحها على الوجه الذي تتحقق به أمانيها! ! أفيسهل عليها
وترضى بعد وشك الوصول إلى الغاية الأخيرة، والحصول على الرغيبة المتوخاة
أن تحول إنكلترا أو غيرها دون مرامها، وتصد سهمها عن غرضها ومرماها؟
لا ريب أن فرنسا إذا تمثلت هذا وتنكبت خطة السياسة واتبعت خطة الإنجيل
الشريف الذي يأمر بما اتفقت عليه الشرائع من عهد كونفوشيوس الصيني إلى الآن
من أن يعامل الناس كل أحد بما يحب أن يعاملوه به، فهي تسلم فشودة للإنكليز
وتترك لهم وادي النيل. ونحن نطلب من إنكلترا أن تعامل مصر والدولة العثمانية
بما تحب أن تعامل هي به إذا فرض أن القوة أمكنتهما من احتلال بلادها.
السياسة وراء الدين والأدب، وليس تقوم عليها حجة أو تنصاع لآية غير القوة،
ولذلك نرى الدولتين الآن تتهيآن للحرب والكفاح، وتعدان الأساطيل العظيمة التي
لا يوجد عند غيرهما مثلها قوة وكثرة. ويظهر أن الفريقين مصممان على عدم
الاقتناع بالمذاكرات الودية، إذ لا حجة قيّمة لواحد منهما تقنع به خصمها، وتعتذر
به الحكومة المنصاعة لأمتها التي تناقشها الحساب، وإنما هما طعمان يتناطحان،
فإذا لم يحل بينهما حائل فلا بد أن ينتهي الأمر بغلبة أحدهما بالقوة.
كل من الدولتين تخاف الحرب لعلمهما بأن خسارتها أكثر من ربحها،
ولا سيما مع الأكْفاء، ولكل واحدة منهما صوارف ليست للأخرى.
أما إنكلترا فانفرادها بعدم حليف لها، وحليفة خصمها أقوى الدول بأسًا
وأصعبها مراسًا، وكون الملكة تأبى أن تختم أعمالها السلمية في عمرها الطويل
بالحرب الهائلة التي يذهل تصورها العقول ويدهش الألباب، وكونها شديدة الحرص
على المال مبالغة في الاقتصاد، وخوفها من خروج مستعمراتها عليها إذا هي
اشتبكت بمحاربة دولة قوية تشغلها عن كل ما سواها.
وأما فرنسا فتعطيل معرضها الذي تستعد له من سنين وفتنة دريفوس التي
أقامت الأمة وأقعدتها، وعدوتها الكبرى ألمانيا.
ومن رأينا أن الحرب ربما كانت مسكنة لحركة فتنة دريفوس؛ لأن المهم
يتلاشى في الأهم، وأن ألمانيا تود أن تقع الحرب بين الدولتين وتبقى هي على
الحياد، حتى إذا ما ضعفتا معًا أمنت شر فرنسا، وطلبها الإلزاس واللورين،
ومعارضة إنكلترا في الاستعمار والتجارة، بل وفرنسا أيضًا، وفي ذلك أعظم نهضة
لها، وماذا تتوقع من التعرض لفرنسا، وروسيا القوية حليفة فرنسا من وراء ظهرها
وفي تعرضها الخطر على أوروبا كلها!
فإذا قلنا: إن الجرائد حمست الأمتين، ونفخت في قلوبهم الحمية، حمية
الجاهلية، وعلمنا أن الحمية وعزة النفس أخوف ما يخاف من أمم أوروبا على
حكوماتها اللاتي لا يمكنها مخالفة الشعب إذا هو طلب شيئًا - فلا جرم أنه لم يبق من
مانع للحرب إلا التحكيم، وهو ما أشارت به بعض الجرائد الروسية.
إذا اتفق الخصمان على تحكيم الدول العظام في المسألة فلمن يكون الفلج
والظفر؟ هل تنصف تلك الدول فتقول لهما: لا حق لكما فأديا صاحب الحق حقه
واخرجا من السودان بسلام وسلماه للحضرة الخديوية نائبة السلطان الأعظم صاحب
السيادة الحقيقية؟ وإذا قالت الدول هذا فهل ترضى فرنسا به والاحتلال الإنكليزي
في مصر على حاله؟ أم تقول: إن هذا التسليم لا يتم إلا بالجلاء عن مصر، وهو
ما تنتظر نهزة مثل هذه لتقوله؟ وهل يرضي اللورد سالسبري المناقشة الأوروبية
في المسألة المصرية بعد ما أكد في الكتاب الأزرق رسميًّا: أنه يأبى مثل هذا كل
الإباء؟ أم تقسم أوروبا السودان بين الدولتين وتسكت عن الاحتلال؟
كل ذلك غيب مجهول ولكن الذي نعلمه أن ميزان سياسة أوروبا الآن في يد
القيصرين العظيمين نقولا وغليوم، والأول حليف فرنسا، والثاني عدوها، ولكنه
صديق جلالة السلطان صاحب مصر والسودان، فإذا كانت هذه الصداقة توازي تلك
العداوة فيترجح السكوت وعدم الميل لأحد الجانبين، لكن ألا يوجد مرجع آخر يجذب
الإمبراطور غليوم ليحصل الترجيح لمن يميل هو له؟ نقول: كان يرجى أن
يستميله القيصر؛ لأن مسالمة وموادة ألمانيا لروسيا من أهم الأسس السياسية التي
أسسها بسمارك وحافظ عليها طول حياته ولم يظهر ما يكدرها من بعده إلا ما نقله لنا
البرق في هذا الأسبوع من أن سفارة روسيا في الآستانة لم ترفع رايتها لقدوم
الإمبراطور كسائر الدول، والسفن الروسية ثمة لم تزين بالرايات والأعلام كغيرها،
فاستوقف ذلك الأنظار وحرك سواكن الأفكار، ولا يزال البرق والبريد ينقلان لنا منذ
عزم الإمبراطور على زيارة الآستانة والقدس أخبار اهتمام روسيا وفرنسا لذلك،
خشية من زيادة نفوذه المضعف لنفوذهما في بلاد الدولة، وحذر من مداخلته في
حماية المسيحيين (وهي أشد عوامل الدولتين في بلادنا) وقد صرحوا بأن شدة
تقرب ألمانيا من تركيا يخل بموازنة الدول! ولعمري لا معنى لهذا إلا توقع المحالفة.
فإذا استطاع مولانا السلطان الأعظم أن يستفيد من هذه الأحوال ما يضمن له
حفظ بلاده بالتوفيق بين ضيفه الإمبراطور وروسيا وفرنسا وإجماع رأي الأربع على
حل عقدة المسألة المصرية - فهو أحكم حكماء السياسة وأشدهم دهاء وأبعدهم غورًا
وأحصفهم رأيًا، وتظهر حكمة سكوته عما جرى في مصر والسودان إلى الآن،
ويُنسي الأمة رزء كريت، وما بين يديه وما خلفه من المصائب والأرزاء، وإن
كانت نتيجة زيارة الإمبراطور شدة نفور روسيا وفرنسا منا في هذا الوقت الحرج
الذي طرقت فيه أبواب المسألة المصرية، ويرجى باتفاق من ذكرنا أن يفتح رتاجها
ويقوم اعوجاجها، وفوز الضيف العظيم بالأمنية ودولة المضيف الكريم بالرزية!
فإنها نتيجة خسيسة، ومغبة تعيسة، وأجدر بمولانا السلطان الأعظم أيده الله تعالى
أن لا ينيل الإمبراطور غليوم شيئًا من رغائبه، إذا هو أعرض عن موافقته على
أجل مآربه، فقد حلب الدهر أشطره، وعرف حلوه ومره، وابتلى نفعه وضره،
وهو خير كفؤ كريم لهذا، شد الله تعالى أزره، ويسر أمره، ورفع ذكره، آمين.