للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأسئلة والأجوبة الدينية

عموم البعثة وعموم اللغة
(١) من أحمد أفندي الألفي في أبي كبير: معلوم أن رسالة نبينا صلى الله
عليه وسلم عامة للناس كافة، فهل من مقتضى ذلك أن يكون عليه الصلاة والسلام
عالمًا بكل لغات واعتقادات وآداب وعوائد من أُرسل إليهم؟ إن قيل لا فبماذا
نجاوب من لا يسلِّم بذلك وقد يجد من العقل معينًا، وإن قيل نعم فما الدليل؟ وإذا
كان القرآن داعيًا الناس كلهم لعبادة الله تعالى ولدينه القويم الذي ارتضاه لهم لئلا
يكون للناس على الله حجة فلماذا نزل باللسان العربي فقط؟ ولماذا حُرِّمت ترجمته؟
وكيف يُطلب من الناس كلهم أن يكونوا مسلمين مع أنهم لم تبلغهم الدعوة إليه؛ إذ لا
مبشرين ولا داعين إليه من أهله؟ ألا يكون هذا عذرًا لمن لم يسلم؟ إن قيل لا فما
هي حجة الله عليهم؟ أرجو الإجابة عن ذلك في المنار بما يزيح الشبهة ويضيء
معه نور الحقيقة لا زلتم حامين حمى الحقائق الإسلامية بقوة البرهان.
(ج) قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: ٤) وقد اختلف المفسرون في المراد بقوم النبي صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم، فقيل: قريش وقيل: مضر وقيل: العرب، وبنوا على هذا أنه كان
يعرف لغات القبائل، ويخاطب أهل كل قبيلة بلسانهم، وزعم بعض من يستحل أن
ينسب إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كل ما يعتقده تعظيمًا، وإن كان لا
دليل عليه أنه عليه السلام كان يعرف جميع اللغات؛ لأنه أُرسل إلى جميع الأمم، وأن
ذلك من معجزاته ليُحَدِّث الناس بما يعلمون، واستدلوا على ذلك بما ذُكر في بعض
الكتب من أنه كلم بعض الفرس وبعض الحبشة بلغتهم، ولو صح ذلك لكتب الدعوة
إلى الملوك بلغاتهم؛ ولكن المنقول أنه كتبها بالعربية بلا خلاف.
معرفة اعتقادات المرسل إليهم وآدابهم وعوائدهم ليست من محل الشبهة؛
وإنما محلها اللغة على أن الله تعالى علَّم نبيه ما اقتضت الحكمة أن يعلِّمه من عقائد
أهل الكتاب المجاورين للبلاد التي بُعث فيها {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (النمل: ٧٦) وكان يعرف ما عليه قومه
بالاختبار، ومتى قامت الحجة على قوم الداعي وعلى الذين يلونهم واهتدوا إلى
الحق، فإقامتها على غيرهم تكون أسهل وقبول هؤلاء لها يكون أقرب لوجهين،
أحدهما أن الناس أميل إلى اتباع ذي القوة والعصبية وقبول الدعوة التي أخذ بها
كثيرون من نوعهم منهم إلى اتباع رجل مفرد يقول إنه مصيب وحده وسائر الناس
مخطئون، وثانيهما أن أهل الكتاب كانوا أشد من سائر الأمم تمسكًا بدينهم وإعجابًا
به. وقد دخل في دينهم كثير من المشركين والوثنيين، فمتى أسلموا فالآخرون أقرب
إلى الإسلام.
الأمور العامة إنما تكون بالتدريج، فلو فرضنا أن نبينا عليه الصلاة والسلام
كان عالمًا بجميع اللغات فهل من الممكن أن يخاطب العرب والروم والفرس والقبط
والبربر والإفرنج والهنود والصينيين وغيرهم من الأمم ويدعوهم ويعلِّمهم الدين في
وقت واحد، كلا وإنما الممكن هو ما فعله النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
ومعاذ الله أن يقصِّر في أداء وظيفته العظمى (التبليغ) أو يدخر وسعًا.
والذي فعله هو أنه بلَّغ الأقرب فالأقرب، أنذر عشيرته الأقربين وأقام الحجة
على قومه أجمعين، وكتب إلى الملوك والأمراء المجاورين؛ لأنه ما من ملك إلا
وعنده من يترجم له جميع ما يكتب إليه؛ ولأن دعوة الملك دعوة لأمته ورعيته؛
ولذلك كتب إلى ملك الروم (فإن توليت فعليك إثم الإريسيين) وكتب إلى ملك مصر
(فإن توليت فعليك إثم القبط) وهكذا.
وههنا يقال: لو أجاب هؤلاء الملوك الدعوة وآمنوا مع أقوامهم، فهل كان
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يعلمهم الدين بلغاتهم أم بلغته العربية؟ فإن كان
يرضى ببقائهم على لغاتهم فهل يأمر بترجمة القرآن، وهل يرجى أن يفهموا الدين
بذلك حق الفهم؟ وإن كان يُلزمهم بتعلم العربية فلماذا لم يعهد هذا الإلزام من
الصحابة ولا من غيرهم من الخلفاء والملوك، وقد كان الأعاجم يدخلون في دين الله
أفواجًا، ولم يُنقل إلينا أن أحدًا من أصحاب السلطة ألزمهم بتعلم العربية، ولم
يشتهر عن الفقهاء القول بوجوب ذلك، والمعروف أن الجميع كانوا يكتفون بإيمانهم
ويتركونهم وشأنهم.
والجواب عن هذا كله يُعْرَف من سير الإسلام مع اللغة في القرون الأولى،
ومن كلمة قالها الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه في كتاب (الأم) فقد بحث في
المسألة ورجَّح وجوب تعميم العربية ووجوب تعلمها على كل مسلم ليفهم القرآن
الكريم الذي هو أصل الدين، أما سير الإسلام مع اللغة فقد كان من العجائب التي لم
يعهد لها نظير في التاريخ، لم يمض على انتشار الإسلام في بلاد الروم والفرس
وبلاد أفريقيا وغربي أوربا إلا زمن يسير حتى علت اللغة العربية على لغات هذه
الأمم، بل نسختها كما تنسخ آية النهار آية الليل من غير مدارس ولا معلمين
ينصرفون إلى تعليم اللغة، فهذا دليل على أن الصحابة الكرام ومن اهتدى بهديهم
من الفاتحين كانوا يلقِّنون الناس الدين على وجه يبعثهم على تعلم العربية من أنفسهم
وما كان ذلك الانتشار السريع إلا بهذا الوازع النفسي الذي يفعل ما لا تفعل
السياسة ولا المدارس، وما أوقف هذا السير إلا ضعف الدول العربية ووثوب
الأعاجم على عروشها، وإفتاء علماء الأعاجم بجواز العبادة وقراءة القرآن والذكر
في الصلاة باللغات الأعجمية.
ومن المسائل المفيدة في هذا المقام أن ما يكون به الإنسان مسلمًا في الجملة
شيء سهل بسيط يمكن إيصاله إلى كل عربي وعجمي في وقت قصير؛ ولكن نمو
الإسلام وفهم ما جاء به من الحكم والمعارف التي ترقي النوع البشري يتوقف على
معرفة العربية حق المعرفة، وفهم المسلمين للقرآن وكونهم أمة واحدة يتحدون في
مقومات الأمم التي يمكن الاتحاد فيها وأهمها الدين واللغة، وهذا الإصلاح
الاجتماعي الذي جاء به الإسلام وهو السعي في وحدة أمم الأرض باتفاقهم في اللغة
والدين، هو الذي توجهت إليه أخيرًا أنظار فلاسفة أوربا ودولها القوية وكل واحدة
منها تبذل الملايين لأجل تعميم لغتها، ولم يكن المسلمون في عصر من الأعصار
متنبهين إلى أنه من واجبات دينهم؛ لأنهم لم يتوسعوا في علم الاجتماع البشري
الذي هو علم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ودين الإسلام فيه أكمل الأديان؛ وإنما
كانت تأتي المسائل الجزئية منه في تضاعيف كلام بعض الأئمة عندما يتكلمون في
الفقه ونحوه، فلا ينتبه لها الآخرون؛ لأن الناس في كل عصر لا يأخذون من الدين
ولا من كتب العلم إلا ما يناسب استعدادهم وأحوالهم الاجتماعية، ولو قال قبل اليوم
أحد إنه يجب السعي في تعميم اللغة العربية وينبغي للعلماء مطالبة حكوماتهم بذلك
لقال الأكثرون إن هذا من الحرج الشديد الذي لا يجب في الدين.
وقد كنت صرحت في مقالات الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة
الإسلامية التي نُشرت في أعداد المجلد الأول من المنار، بأنه لا بد في الإصلاح
الذي يعيد مجد الإسلام من تعميم اللغة، واحتججت على هذا ولم أتجرأ على
التصريح بأنه واجب ديني؛ لأنني لم أكن اطلعت على نص الإمام الشافعي في ذلك
وهؤلاء المقلدون لا يقتنعون بالأدلة والبراهين؛ وإنما يقتنعون بكلام الميتين وإن
لم يكونوا مجتهدين.
أما الدعوة إلى الإسلام فتختلف في هذا العصر عن العصر الذي ظهر فيه
الإسلام من وجوه كثيرة يفهمها اللبيب ويطول شرحها الآن، وعليه فلا بد للمسلمين
وليس لهم دول إسلامية تحمي الدعاة وتنصرهم أن يعتبروا بسير الدول القوية التي
تنصر الدعاة إلى دينها في الدعوة إلى الإسلام فهم أولى بذلك منهم، وقد شرحنا
شروط الدعوة وآدابها في مقالات سابقة، فليرجع إليها السائل ومن شاء في المجلد
الثالث.
وأما من لم تبلغه دعوة الإسلام على وجه صحيح يحرِّك إلى النظر، فليس
بمؤاخذ عند الله تعالى، كما صرح به المتكلمون والله أعلم وأحكم.
***
الفرق بين القرآن والأحاديث القدسية
(٢) من محمد أفندي الصعيدي ماهر في فوه - غربية.
قال بعد إطراء علينا وعلى المنار وتعريض بأدعياء العلم:
أجمعت الأمة على أن القرآن الشريف هو كلام الله تعالى، وكذا الأحاديث
القدسية التي رواها نبينا عليه الصلاة والسلام عن ربه جل وعلا؛ ولكن من يقارن
بين القولين - القرآن والأحاديث القدسية - يرى أن بينهما فرقًا عظيمًا بينًا من
حيث الفصاحة والبلاغة في العبارة والمتانة في التركيب، فقد أجمع الكل على أن
القرآن استوفى شروط البلاغة حتى صار معجزًا يقف بإزاء آياته المعجزات كل
إمام في البلاغة، سواء كان مسلمًا أم غير مسلم خاضعًا عاجزًا ناظرًا إليها بعين
المهابة والإجلال، مقرًّا بأن ليس له في لجَّة هذا البحر الزاخر مسبح، ولا في
ساحله مسرح، بخلاف الأحاديث القدسية فإنه وإن كانت في أعلى درجات البلاغة إلا
أنها ثانوية بالنسبة للقرآن، فإذا كان قائلهما واحدًا وهو الحق جلت قدرته فلماذا لم
يكونا في منزلة واحدة وعلى نمط واحد؟ فإذا جاءنا من أنكر أن تلك الأحاديث من
كلامه تعالى، وادَّعى أنها ليست مروية عنه سبحانه بدليل عدم مماثلتها للقرآن
فبماذا نجاوبه وبأي دليل نقنعه؟
هذه مسألة جالت في خاطرنا فلم نجد بابًا لحلها غير عرضها على غزير
علمكم، وواسع اطلاعكم، فأرجو نشرها في مناركم الزاهر مع الإجابة عليها كما
عودتمونا في مثل هذه الأحوال، والله نسأل أن يديمكم ملجأ للعلم، وعضدًا قويًّا
للدين والملة الحنيفية بمنه وكرمه.
(ج) إنما يفهم هذه المسألة من يفهم معنى الوحي كما ينبغي، وقد تقدم
الكلام عنه في درس الأمالي المدرج في الجزء الخامس بقدر ما يسمح به الزمان
والمكان، ونقول الآن: إن الوحي - وهو كما مر: إعلام لله تعالى نبيه شيئًا بطريق
خفي غير الطرق التي يستفيد بها العلم سائر البشر - له طرق وكيفيات منها أن
يلقي الله في قلب النبي بواسطة مَلَك أو بغير واسطة، معنى من المعاني فيعلم أنه
من الله تعالى لا من الخواطر العادية، فيعبر عنه بلفظ من عنده ويسنده إلى الله
تعالى؛ لأنه هو الذي أوحاه إليه بلا ريب عنده ولا شك، ومن هذا القبيل الأحاديث
القدسية، وذهب بعض العلماء إلى أن كل ما يقوله النبي في الدين منه، أي أنه
وحي وإن لم يسند إلى الله تعالى، وجعلوا هذا مفهومًا من قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ
عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: ٣-٤) وذهب آخرون إلى أن
بعض قوله اجتهاد واستنباط من الكتاب، واختلفوا هل يخطئ في اجتهاده أم لا،
فعلمنا أن للنبي في هذا النوع من الوحي العبارة عنه؛ ولذلك تجوز روايته بالمعنى
بشرطه؛ لأن لفظه ليس منزلاً.
وأما القرآن العظيم فقد نزل على قلبه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بلفظه
ومعناه ونظمه وأسلوبه، فليس له ولا لغيره أن يغير كلمة بكلمة ترادفها، أو يؤديه
بالمعنى، ولهذا كان يعجل بتلاوته ويأمر بكتابته؛ لأنه كان يخاف أن ينسى كلمة
منه أو يذهل عن ترتيبه الذي ألقي في قلبه حتى أمنه الله تعالى بقوله: {سَنُقْرِئُكَ
فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} (الأعلى: ٦-٧) أي فلا تنسى أبدًا؛ لأن هذا
الاستثناء من مؤكدات النفي كقوله تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ مَا
شَاءَ اللَّهُ} (الأعراف: ١٨٨) وقوله عز وجل: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ
السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} (هود: ١٠٧) وبقوله: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ
لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا
بَيَانَهُ} (القيامة: ١٦-١٩) فتأمل كيف سمَّى الله تعالى إيحاءه إليه قراءة منه
سبحانه وتعالى، وإلقاء المعنى وحده لا يسمى قراءة، ويظهر لك الفرق بين وحي
المعنى وحده، ووحي اللفظ مع المعنى بالرؤى؛ فإن الرؤيا الصالحة للأنبياء من
الوحي، وقد يتمثل المعنى للرائي بصورة محسوسة فيعبر عنه بلفظ يناسبه، كما
عبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن اللبن الذي رآه في المنام بالعلم، وقد
يرى الرائي شخصًا يقول له كلامًا يحفظه ويعيه بلفظه أو بمعناه فقط، وما دام
الوحي خطابًا للروح فلا فرق في حقيقته بين يقظة ومنام.
ولما خصَّ الله تعالى هذا النوع من الوحي الذي سماه قرآنًا بهذه الخصوصية،
ولم يجعل للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيه عملاً ولا كسبًا إلا بتبليغه والعمل به
كما أنزل ليكون آية بينة على صدقه ومعجزًا للبشر - والنبي منهم - ومحفوظًا
إلى الأبد جعل له أحكامًا خاصة به، منها حرمة مسِّه للمُحْدِث وحرمة قراءته على
الجنب وحرمة روايته بالمعنى، وعدم جواز الصلاة بغيره، والأجر على تلاوته
لأنها عبادة، حتى ورد أن للقارئ بكل حرف عشر حسنات، وذهب بعض العلماء
إلى حرمة بيعه وبعضهم إلى كراهتها، وهذا القدر كافٍ في الفرق بين القرآن
الكريم، والأحاديث القدسية في الكنه والحكم، والله تعالى أعلم.
***
حكم الأعطار الفرنجية
(٣) من محمد أفندي عباس السمرة ببولاق: هل التطيب بالأعطار الإفرنكية
مع علمنا بأنها ممزوجة بالكحول مبطل للصلاة أم لا؟ نرجوكم إفادتنا بلسان منار
الإسلام ونشكر لكم سلفًا.
(ج) النجاسة هي ما تستقذره الطباع السليمة، وهو قسمان: قسم قذارته
خفيفة كالبصاق، وقسم قذارته شديدة كالبول والغائط وهو النجس، وقد أمرت
شريعتنا الغراء بالنظافة والتطهر من النجاسة، وأكثر أئمتنا وعلمائنا على أن
الصلاة لا تصح من متنجس البدن أو الثوب أو المصلَّى، وقد اختلفوا في تعداد
النجاسات التي يجب اجتنابها في الصلاة؛ لأنه لم يرد نص من الشارع بتحديدها
بالعدد للذين كانوا يدخلون في الإسلام ويتعلمون العبادة الواجبة، ثم ينقلبون إلى
باديتهم التي ليس فيها علماء كحديث الأعرابي المشهور، ولم يكن في زمن التشريع
ولا في أزمنة الأئمة المجتهدين شيء يسمى الكحول فينص فيه شيء؛ لأن علم
الكيمياء لم يكن له وجود، ونسمع عن كثير من الناس القول بنجاسة الكحول
ونجاسة كل ما فيه شيء منه، ويحتجون على هذا بأنه هو سبب الإسكار في الخمر
وهي نجسة عند أكثر أئمة المسلمين وعلمائهم، وهذا الاستنباط والاجتهاد معارض
بوجوه:
(أولها) : أنه لا دليل على نجاسة الخمر نفسها في اللغة، ولا في الكتاب
والسنة وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ
رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (المائدة: ٩٠) لا يدل على نجاستها؛ لأن الرجس مع
كونه ليس نصًّا في النجاسة محمول عليها وعلى الميسر والأنصاب والأزلام، وهذه
الأشياء غير نجسة بالإجماع، هذا ما يقال لمن يسلك في القول بالنجاسة مسلك
الاجتهاد والاستنباط.
(٢) سلَّمنا أن الخمر نجسة تقليدًا للقائلين بذلك من غير أن نعرف لهم دليلاً
مقنعًا؛ لكننا لا نسلِّم أن العلة في نجاستها وجود هذه المادة الكيماوية فيها؛ لأن هذه
المادة ليست قذرة تعافها النفوس السليمة، فتكون هي الجزء النجس، بل هي من
المطهرات التي تزيل ما لا يزيله الماء مع الصابون من الأقذار والنجاسات؛ ولأن
هذه المادة لم تكن معروفة للمجتهدين الذين قالوا بنجاسة الخمر؛ ولأن أحكام دين
الفطرة مبنية على الأمور الظاهرة لجميع أصناف الناس الذين دعوا إليه لا على
دقائق العلوم الطبيعية المختصة بصنف من الناس.
(٣) إذا كانت رجسية الخمرة ونجاستها معنوية، كما هو الظاهر على حد
{إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (التوبة: ٢٨) لتأكيد اجتنابها والبعد عنها، فلا تعلق
لهذه المسألة بالصلاة إلا من حيث اجتناب قرب الصلاة للسكران، وإن كانت
نجاستها حسية كما هو المعروف عن الفقهاء القائلين بذلك بمعنى أنه يجب تطهير
الثوب والبدن إذا أصابه شيء منها فالأمر لا شك تعبدي، والتعبدي لا يبحث في
علته ولا يقاس عليه وإنما يمتثل فيه ظاهر النص.
(٤) إن هذا الكحول يوجد في غير الخمرة من الأشربة والأدوية والأعطار
القديمة غير الإفرنجية وغير ذلك، فإذا كان قولهم إن كل ما فيه مادة الكحول نجس
فعلينا أن نحكِّم الكيماويين في معرفة نوع النجاسة المحرَّمة شرعًا، ونأخذ بأقوالهم
وإن كان لا يسلم لنا شيء من النجاسة.
(٥) إذا قالوا: إن الخمر نجسة العين، فاللازم في اتباعهم اجتناب هذا
الشراب المسكر الذي يسمى خمرًا والتطهر منه، وليس علينا أن نحلل بسائطه
ونقول إن كل عنصر منه يوجد في شيء آخر نحكم على ذلك الشيء بحكمه؛ لأن
جزء نجس العين نجس؛ فإن هذه فلسفة لا تليق بالحنيفية السمحة؛ ولأن الأحكام
إنما هي على هذه المركبات، وهذا العطر ليس خمرًا.
(٦) إن النجاسات المجمع عليها كبول الإنسان وغائطه مركبة من عناصر
كيماوية توجد في كل طعام وشراب؛ وإنما القذارة من التركيب المخصوص على
النسب المخصوصة.
(٧) المعروف في محاسن أصول الشريعة أن الأحكام تدور مع العلل
وجودًا وعدمًا، فإذا حُرِّمت الأشربة المسكرة التي كانت في زمن التشريع وسميت
خمرًا، فلا شك أن الأشربة التي اختُرعت بعد ذلك كالكنياك لها حكمها، وجاء
النص بحِلِّ الخل الذي كان خمرًا، وحكم الأئمة القائلون بنجاسة الخمر بطهارتها إذا
تخللت؛ لأن المفسدة التي كانت في هذا المائع واقتضت اجتنابه قد زالت، فأي
معنى للتضييق على المسلمين بمنعهم من الانتفاع به، وكذلك جلود الميتة إذا دُبِغَت
تطهر للأمن من نتنها وفسادها. وانقلاب العين ودخول النار من المطهرات في
مذهب الحنفية فإذا طُبخ الصابون بالزيت النجس يكون طاهرًا، فكيف لا يكون
العطر الذي فيه الكحول طاهرًا.
(٨) أن الطيب ضد القذر، والنجاسة هي القذارة الشديدة، ومن البلاء أن
نغلو في الدين ونتعمق بالتفلسف فيه؛ حتى نعطي الضد حكم ضده، بل نجعله منه
فهذه الأعطار والطيوب الإفرنجية ليست خمرًا ولا قذرًا، ولا نعرف أيضًا عن أئمة
الدين قولاً بتحريم شيء لعلل فلسفية وتحليلات كيماوية.
(٩) قد ثبت في الكيمياء أن هذا الكحول يوجد في غير هذه الأعطار من
الأكل والشرب والدواء، لا سيما المتخمر منها كالعجين وغيره كما تقدم، فإذا
حكمنا بنجاسة كل ذلك نوقع الأمة في أشد الحرج، والحرج كله منفي بالنص ولا
مرجح للقول بنجاسة هذه الأعطار دون غيرها، هذا وإننا نرى كثيرًا من أهل العلم
يتعطرون بهذه الطيوب بعلة أنها مجهولة الأصل، وأن قول الكيماويين غير معتبر
شرعًا، وعندنا أن قول الكيماويين يقيني؛ لأنه مبني على المشاهدة ومتواتر عنهم
بالنسبة إلى غيرهم.
لا شك أن السائل سألني عن بيان رأيي في هذه الأعطار، وعن مدركي فيه،
وقد بينته له بحسب فهمي في الدين ومعرفتي بأحكامه، فإن أصبت الحق فبتوفيق
الله تعالى وفضله، وإن أخطأت فلا بدع أن يخطئ غير المعصوم، وقد بذلت
طاقتي وجهدي في معرفة الحق، والله غفور رحيم.