للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الديار السورية في عهد الحكومة الدستورية

(بيروت)
جعل ناظم باشا الشهير واليًا على بيروت بعد طلوع فجر الدستور، وكانت
الولاية لا تزال سكرى بخمرة الانقلاب، وأهلها من احتقارالحكومة والافتيات عليها
في هياج واضطراب، فكانت سياسته فيها كسياسته في عهد الاستبداد: سياسة
مداراة للأهالي، حتى كان نفوذ كثير من البحارة والحمالين (الشيالين) في بيروت
أقوى من نفوذه، وجوارهم أعز من جواره، بل ظهر للناس كافة أنه أحوج إلى
حمايتهم منهم إلى حمايته، وقد وافينا بيروت في تلك الأثناء ورأينا منه هذا الضعف،
فتلطفنا في الإشارة إليه بالنصح، مبينين له أن الأهالي مهما ظهر من اعتصابهم
واعتصامهم فيما ليس من شأنهم، لا يقفون في وجه الحكومة إذا أخذت بالحزم،
وعنيت بما هو أول واجب عليها من حفظ الأمن، بل قلنا له: إن الوالي يجب أن
يكون في مثل هذا الطور الذى نحن فيه منفذًا للدستور؛ بضرب من الاستقلال يشبه
الاستبداد، حتى يكون الأهالي معه كمن ورد فيهم أنهم يقادون إلى الجنة بالسلاسل
أي: يلزمون الأعمال التي تقودهم إليها إلزامًا لا محيص عنه. وقد أشرنا إلى هذا
فيما كتبناه عن رحلتنا في مجلد السنة الماضية
ولكن هذا النصح لم يؤثر في نفس الوالي؛ لأنه جرى في المداراة على ما
تعود؛ ولأنه كسائر كبار الحكام قد شعر بثقل مسئولية الدستور، من حيث شعر
أكثر الأهالي بضد ذلك، وظنوا أن الحكومة لم يبق لها عليهم من سيطرة ولا قوة،
فكان حفظ الأمن وإضاعته في بيروت في يد عصائب أولي القوة من عامة الأهالي
الذين يطلق عليهم لفظ (الأبضايات) ، ونحمد الله أن كانت حكومتهم على ما فيها
من الخطر حافظة للأمن العام.
ثم نقل ناظم باشا إلى دمشق الشام بعد إخراج شكري باشا منها؛ وسيجيء
ذكره - وبقي فيها إلى الشهر المنصرم، فأعيد إلى بيروت، وعسى أن تكون حاله
فيها خيرًا من حاله السابقة في بيروت، ومن حاله في الشام، وسنشير إليها.
ثم ولي ولاية بيروت أدهم بك وهو رجل قلم وفكر، لا رجل إدارة وعمل،
بارد المزاج لا يبالي أن يعرف حال البلاد وأهلها، ولا يهمه ما وقع فيها، وإنما
يرى كل الواجب عليه أن ينظر في الأوراق التى تلقى إليه، فيوقع عليها التوقيع
الرسمي الذى كان يتعلمه؛ إذ لم يكن من قبل يعلمه.
قد بينا في المنار من قبل أننا نصحنا له بأن يعيد نفوذ الحكومة إلى نصابه،
ويوقف افتيات عصائب العوام عند حده، ويعني بحفظ الأمن والحرية الشخصية،
وأنه أجابنا بأن هذا لا يمكن ولا يتيسر إلا بعد أن تصلح حكومة الآستانة
نظام الشرطة والشحنة (الضابطة والبوليس) وتنفذه في جميع الولايات،
ولم يكن يعقل معنى قولنا: إن ذلك في استطاعة كل حاكم، وإنه لا يفتقر فيه إلى
إصلاح القوانين ولا تجديد النظام، وإنما يحتاج فيه إلى الحزم ومعرفة حال
الأهالي ونفوذ الحاكم الحازم، وبينا أيضًا أننا نصحنا بمثل ذلك لمتصرف
طرابلس جواد بك، وأنه كان يجيبنا بمثل ما أجابنا أدهم بك الوالي؛ لأن كلا
منهما من أصحاب النظر لا من أصحاب العمل، ولكن المتصرف كان يحيل على
الوالي كما يحيل الوالي على الآستانة.
ظهر بعد ذلك صدق ما قلناه لهما أو لهم، فقد ولي قيادة الشرطة ببيروت أمير
الالاي نجيب بك ففل عصائب المفتاتين، ومنع حمل السلاح، وما كان من إطلاق
الرصاص في الليل والنهار، وقبض على من لم يفر ويغادر البلاد من المحكوم
عليهم، وأرهب جميع الأشقياء، فعرف الأهالي ما لم يكونوا يعرفون من سطوة
الحكومة واحترامها، وكان خير عون له على هذا نافذ بك رئيس الشحنة (مدير
البوليس) .
وولي متصرفة طرابلس الأمير أمين رسلان فعني في أول الأمر بحفظ الأمن،
فتيسر له مع سوء حال الشرطة والشحنة ما كان يراه سلفه متعسرًا، بل مستحيلاً
من منع إطلاق الرصاص، والظهور بحمل السلاح، وإرهاب الأشقياء، والقبض
على كثير من المحكوم عليهم منهم وإلقائهم في السجون، ثم فترت همته في آخر
العهد، وقيل: إنه صار يقبل شفاعة بعض الوجهاء أو المنتسبين إلى بعض
الجمعيات، ولعله لا يدرى أنهم أنصار الأشقياء وأعوان السفهاء وشركاء اللصوص
وسالبي الأمن. وقد انتخب مبعوثًا عن متصرفة اللاذقية وولي مكانه آخر، فهل
يعتبر الولاة والمتصرفون ورؤساء الشرطة والشحنة في سائر البلاد بفعل نجيب
ونافذ وأمين في حفظ الأمن واحترام الحكومة؟
***
(دمشق الشام)
كان والي الشام عند إعلان الدستور شكري باشا، ولعله أضعف ولاة الدولة
عقلاً وفهمًا، وأسوأهم إدارة وأقلهم حزمًا، ناهيك بسوء تصرفه في حادثة آخر
رمضان من العام الماضي، فقد كان فيها آلة في أيدي أعداء الدستور ومثيري الفتنة
ابتغاء قلب الحكومة الدستورية وإعادة العبودية الحميدية، وقد أشرنا إلى ذلك في
سياق رحلتنا السورية في منار العام الماضي فلا نعيده، وقد عزل بتلك الحادثة شر
عزلة.
ثم ولي الشام من بعده ناظم باشا، فلم يأت فيها بإصلاح جديد، بل انتشرت
في دمشق على عهده جمعية (ولقان) الإفسادية؛ التي أطلقوا عليها اسم (الجمعية
المحمدية) تمويها وخداعًا لعوام المسلمين. نشرها مثيرو فتنة آخر رمضان؛
كالشيخ عبد القادر الخطيب والشيخ صالح التونسي وأعوانهما من الوجهاء، ولو لم
يصطلم محمود شوكت باشا بجيش الحرية تلك الفتنة في الآستانة بتلك السرعة التي
أدهشت العالم؛ لظهرت الفتنة في دمشق الشام في أقبح مظاهرها، ولقام عشرات
الألوف الذين دخلوا جمعية الإفساد ينادون بإبطال الدستور وإعادة السلطة الحميدية
باسم الشريعة المحمدية، على حين لم يخذل الإسلام من السلاطين كما خذله
وأضعفه السلطان عبد الحميد، لا سقى الله عهده ولا أرى المسلمين مثله بعده.
***
(حادثة رمضان الماضي في دمشق)
أشرنا في الجزء الماضي إلى هذه الحادثة المشئومة، وقد ظهرت بوادرها في
آخر مدة ناظم باشا، وشاع أن له يدًا فيها، وَأَنَّ ضلعه مع الفاتنين الذين أثاروها،
ولهذه الإشاعة سئل عن ذلك في بيروت فأنكره، وقال: إنه دافع عن كرد عليّ لما
اتهم أولاً بمشايعة جمعية (ولقان) ، وكتب إلى الآستانة؛ إن كان كرد عليّ
ارتجاعيًّا فأنا ارتجاعي، فكيف يتهمه بعد هذه الشهادة بالارتجاع، وشاع أيضًا أن
حسين عوني بك مدير المعارف بالشام، قد مهد لهذه الفتنة في الآستانة تمهيدًا قربها
به من تصور الحكومة، وإن السبب في ذلك حملات المقتبس الشديدة في الانتقاد
عليه وبيان ما في إدارته من الخلل والتقصير.
ويغلب على ظني أنه لو بقي ناظم باشا في الشام لتلافي الفتنة، ولأنقذ من
مخالبها مثل الشيخ عبد الرازق البيطار والشيخ جمال القاسمي وعبد الرحمن بك
اليوسف؛ لأنه يعرف من إخلاص هؤلاء للحكومة الدستورية ما لا يعرفه غيره،
ويعرف ما كان يكيده أكابر المجرمين ودعاة الفتنة من أتباع أبي الهدى وغيره
للشيخين البيطار والقاسمي في عهد الحكومة الحميدية، وأنهم يكيدون لهما الآن بمثل
ذلك، ويريدون أن يجعلوا الحكومة الدستورية كالحميدية؛ آلة لنفوذهم والانتقام ممن
يبغضون من الأخيار والأحرار ومحبي الإصلاح.
ناظم باشا يعرف هذا كله، وكم منع أمثال هذه الفتن والشرور في زمن
الاستبداد، وهو قادر الآن على مساعدة الأبرياء؛ كالشيخين وعبد الرحمن
اليوسف، وإن لم يكن واليًا فقوله مقبول عند الوالي الذي خلفه وفي الآستانة.
أما كرد عليّ فقد أخطأ خطأ لا يبرئه منه أحد، بل رأينا أصدق أصدقائه
يلومه، فالحكومة أجدر بلومه على ما كتب وإن كان بسوء فهم لا بسوء قصد،
ولكن ليس من العدل أن يجعل الرجل جانيًا خارجًا على الدولة، هادمًا للقانون
الأساسي الناطق بأن سلطان العثمانيين هو خليفة المسلمين.
لو كان هذا الأمر مقصودًا لصاحب المقتبس كتبه ليدعو إليه لما أسنده إلى
بلاغ شيخ الإسلام، الذي أرسل ليطلع عليه الخاص والعام، وهو نفسه يتمنى لو
يسبق جميع الجرائد السورية إلى نشره في جريدته، فمن البديهي الذي لا يماري
فيه عاقل منصف أن نشر تلك الفقرة قد كان زلة قلم، لا زلة قدم، وكثيرًا ما تزل
أقلام الكاتبين لكلام الله وكلام رسوله، وآية ذلك أنهم إذا نبهوا أو تنبهوا إلى خطئهم
يبادرون إلى إصلاحه، وكذلك فعل كرد عليّ؛ فأصلح في غده خطأ أمسه، ونحن
قد أصلحنا في الجزء الثامن من هذا المجلد خطأ في آية من كتاب الله وفي تفسيرها
تبعًا لها، وقع في منار العام الماضي، وكتاب الله أعظم من بلاغ شيخ الإسلام،
فهل تعاقبنا حكومة الخلافة على ذلك الخطأ؟ ؟
هل يرضى النبي عليه الصلاة والسلام أن تعاقب حكومة الخلافة النائبة عنه
من يخطئ في خبر معاقبة الجناة في شخصه وعمله، ومورد رزقه، وهو القائل
رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه , رواه الطبراني عن ثوبان
(رضي الله عنه) بسند صحيح.
أي الفريقين يكون طاعنًا في كون الحكومة العثمانية حكومة خلافة؟ أمن يخطئ
في خبر لا يؤاخذه الله ولا رسوله عليه، ولا سيما بعد أن تاب ورجع عنه، أم من
يعاقب من منع الله ورسوله عقابه؟ {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة
: ٢٨٦) .
لقد قرت في دمشق الشام عيون أعداء الدستور الرجعيين، وما زالت راجفة
فيها قلوب الأحرار المصلحين، فليهنأ الرجعيون في رمضان هذا العام بفتنة صاحب
المقتبس، كما هنئوا في رمضان العام الماضي بالفتنة التى أثاروها على صاحب
المنار، وكما هنئوا في عام سابق بالفتنة التي أوقعوا فيها السيد عبد الحميد
الزهراوي، وليقولوا إن شاؤوا: لكل حر عندنا في رمضان فتنة، وإننا نعد لكل
طالب للإصلاح محنة، وإنا لنحن الظافرون في عهد الدستور وعهد الاستبداد، وإنا
لنحن العابثون بحكومة عبد الحميد وحكومة رشاد، ونحن نقول: إن العاقبة للمتقين،
ولا عدوان إلا على الظالمين، وإن الأعمال بالخواتيم.
وما الهنا منكم بمشف نقبًا ... وطالما أشفى الهناء النقبا
فإذا لم ينصف الوالي الجديد القوم فستنصفهم المحكمة العرفية، وإن لم
تنصفهم المحكمة العرفية فسينصفهم الخليفة محمد رشاد بنفسه، ويكون حزب الحق
هم الغالبين، وحزب الفساد والاستبداد هم الخاسرين.
* * *
(مظالمنا في طرابلس الشام)
نحن أقل الناس تعجبًا مما أصاب كرد علي من الظلم؛ لأننا من أوسعهم علمًا
بحظ بلادنا السورية القليل من الدستور؛ لسوء حال الحكام وجريانهم على ما تعودوا
من الاستبداد، وجهل جمهور الأمة بطرق مراقبتهم ومطالبتهم بالعدل، والتظلم من
كل هيئة حاكمة إلى ما فوقها، على ضعف هذه الهيئات كلها في هذا النوع من
الحكم.
وعلمنا هذا بعضه نظري مبني على قواعد علم الاجتماع والسياسة،
وبعضه اختباري بالاطلاع على أحوال الحكام، وبالدخول في المحاكمات بأنفسنا:
ظلمنا في عهد الاستبداد ظلمًا بينًا لا يجهله أحد من حكام بلادنا ولا من
الأهالي، ظلمنا في أنفسنا، وفي أموالنا، وفي أوقافنا، وسبب هذا الظلم هو
أن أحدنا صاحب مجلة المنار، وقد نشرنا في الجزء الماضي ما كتب في جريدة
بيروت الرسمية من اتهام صاحب المنار هو وإخوته بالجناية؛ ليعرف الأجنبي كما
عرف الوطني سبب ظلمنا والاعتداء على حقوقنا. وقد حال الحول على الدستور،
ولم ترجع الحكومة الدستورية إلينا شيئًا مما سلبته الحكومة الحميدية منا فضلاً عما
سلبه الأشقياء؛ لعلمهم برضاها بظلمنا وعدم الانتصاف لنا ممن يعتدي
علينا.
توفي والدنا وجنود الاستبداد محيطة بداره، فمكنت الحكومة الاستبدادية بعض
المتهجمين على الحقوق؛ مما كان في تصرفه من حصة الأموال الأميرية الموجهة
على أجدادنا من سلاطين آل عثمان الكرام المتسلسلة إليه من ذريتهم بغير توجيه
شرعي ولا نظامي، ومن أوقاف مسجدنا أيضًا.
وكنا كتبنا في المنار أن نائب طرابلس في ذلك العهد وجه ذلك عليه مخالفًا
لقانون نظام التوجيهات المصرح بأن ما كان على الرجل من مثل هذه التولية يوجه
بعد وفاته على أكبر أولاده ثم تبين لنا أنه ليس هنالك توجيه صحيح، وأقمنا
الدعوى في المحكمة الشرعية؛ لأن صاحب هذه المجلة هو أكبر إخوته وأرشدهم،
وقد مرت السنة ونائب طرابلس يماطل في الدعوى ويلوي ولا يفصل فيها على
وضوح الحق وظهوره، ولماذا؟ العلة يعرفها كل أحد!
على أنه قرر في أثناء الدعوى أن الحصة الموجهة من السلاطين على أجدادنا
لم توجه بعد والدي على أحد، وأنه رأى أن يوجهها موقتًا على خصمي مع أخ لي
مناصفة؛ إلى أن تنتهي الدعوى التي لا يريد إنهاءها إلا إذا أنا أرضيته، وما أنا
بالذى يرضيه.
نعم.. قرر هذا النائب عبد المجيد أفندي الجعفري أن الحصة المذكورة
(وتسمى حصة السبعة القراريط أو السبعة السهام) لم توجه بعد والدي على أحد،
وأمامه دعوى فيها أن خصمي محمود حسن اعتدى على هذه الحصة عدة سنين،
وأكلها بغير حق، وهو يعلم أنني صاحب الحق فيها كما هو مقرر في قانون
التوجيهات، فكيف وجهها إلى خصمي المغتصب ولم يوجهها إلي؟
السبب في هذا هو أنه حاكم مستبد في حكومة؛ يرى هو أنها أقرب إلى
الفوضى من الحكومة الاستبدادية الماضية، فإذا كان لا يخاف من الله ولا من
الحكومة العليا أن تسأله عن ظلمه وتعاقبه عليه، فماذا يمنعه من تمكين المختلس
لهذه الحصة زمنًا ثم يوجهها عليه توجيهًا موقتًا بعد ثبوت اختلاسه إياها عدة سنين
قبل هذا التوجيه الموقت مؤبدًا!!!
ماذا يخاف عبد المجيد الجعفري بعد أن ثارت عليه طرابلس بِقَضِّها
وقضيضها، وهجم الألوف من أهلها على المحكمة لإخراجه منها أو الفتك به؛
لسوء سيرته، واشتهاره بهضم الحقوق، وانتهاك حرمة الشرع، وبعد أن أرسلت
العشرات من الشكاوي عليه بالبرق إلى مشيخة الإسلام ونظارة الداخلية وولاية
بيروت، وبعد أن أمر شيخ الإسلام بمحاكمته في ولاية بيروت، فكان من رأي
المجلس الذي عقد لمحاكمته الصلح بينه وبين خصمه بعد أن ظهر وجه إدانته
والحكم عليه!! ولماذا؟ لأنه رجل ذو عيال! .
فهل تكون هذه القاعدة متبعة في حكومتنا ومرضية عند أمتنا، ونكون معها
أمة دستورية وحكومة دستورية؟ ؟ لا لا , وهل يكون من ينجو من كل هذا
في عصر الدستور مباليًا بسلب الحق من صاحبه وإعطائه لغيره؟
هذا الصلح أو الإغضاء عن حاكم يعبث بالبشرية ويضيع الحقوق فتعذره
الحكومة؛ لأنه ذو عيال، مدعاة لإفساد الصالح من الحكام فضلاً عن استمرار
الظالم على ظلمه.
تزوج الجعفري على أم أولاده فتاة في الرابعة عشرة من سنها؛ لمجرد التمتع
وهو في سن الستين، ليس في لحيته شعرة سوداء. ولا يبعد أن يتزوج فتاتين
أخريين ويفتح أربع بيوت على قلة راتبه الشهري، وهل يمنعه قلة الراتب من
ذلك، والحكومة الدستورية تبيح له الاستبداد، وهضم الحقوق، والحكم بالباطل
جهرًا، كما نعلم ذلك علم اليقين في قضيتنا، وكما يلهج به الناس في بلادنا.
أستغفر الله، إن الحكومة الدستورية لا تبيح له ذلك بطبيعتها وشكلها، ولكن
ليس عندنا رجال يقيمون هذه الحكومة على قواعدها، على أن المحاكم الشرعية لم
يكن لها حظ من الدستور، فلا الأحكام فيها تجري بالمشاورة كمحاكم مصر، ولا
المشيخة الإسلامية رئيسة هذه المحاكم توجه إليها مفتشين يعقبون أحكام النواب
(القضاة) ، فيقل عبثهم بالشريعة، ولا هي تضع لهم كتابًا كالمجلة يلزمون الحكم
بمسائلة , فإذا طال العهد على هذه الفوضى في المحاكم الشرعية، سقطت قيمة
الشرع من نفوس العامة وبطلت ثقتها به، فنوجه عناية المشيخة إلى ذلك.
***
(حال الفيلق السادس في بغداد)
جاء في جريدة الرقيب البغدادية ما نصه مع تصحيح قليل:
ذكرت رصيفتنا (بغداد) في عددها ٤٨؛ أن قد اجتمع في النادي العسكري
أمراء وضباط الفيلق اجتماعًا عموميًّا، وتذاكروا في أمر الفيلق السادس وانحطاطه
وتدنيه، وكان من نتيجة مذاكراتهم أن بعثوا بتلغراف إلى الصدارة ونظارة الحربية
والداخلية، وقد وقفت على صورته وأدرجته بنصه بالتركية، فآثرنا درج ترجمته
بالعربية، وهذه هي:
إن فيلقنا باعتبار الأعداد هو الفيلق السادس، وهو الحارس الوحيد لقسم مهم
من أقسام الملك العثماني، ولكنه لما توالى عليه من المصائب والرزايا في السنين
العديدة، نزل إلى دركة من السفالة والضعف؛ ولذلك لم تزل الدواهي تتوالى على
أفراده، حتى لو جمعت لبلغت أعظم مبلغ يمكن تلفه في حرب دموية عظيمة بل
أضعاف ذلك، فهذه المصائب أوقعته في المخاطر، وشوشت نظامه لدرجة فوق
العادة.
فاليوم فضلاً عن وجود الأفراد الاحتياطية، يوجد ٢١ تابورًا من الرديف
أيضًا تحت السلاح، ومع ذلك فالأمن العام مختل بصورة لا يمكن أن تليق بالشرف
العثماني، ولا تقوم بشأنه وشوكته.
فالعراق اليوم بكل أطرافه بؤرة مصائب. والفيلق بجميع جهاته كل فرقة منه
توجب الأسف الشديد؛ لما هو فيه من الإزراء، وما هو متصور من زيادته شيئًا
فشيئًا، ولا سبب إلا سوء الإدارة، وقد ترك هذا الفيلق الذى لم يزل في كل دقيقة
يخطو خطوة لهاوية الاضمحلال منذ تأسيس الحكم الدستوري، دون سائر الفيالق
بلا قومندان ولا صاحب ولا رئيس أركان حرب!
فالاعتناء به اليوم لا يوازي عشر ما كان عليه عندما افتتح نجد، أو سكن تلك
الغوائل بأجمعها.
فلو وجد قومندان مقتدر فعال (لا كمن لا أثر له سوى كونه عبئا ثقيلاً على
بيت المال) لتمكن من إعادة شرفه وشوكته وسطوته بهذه القوى المتفرقة الضعيفة.
فبناء على ذلك إن كان ثمة للحكومة العثمانية احتياج إلى هذا الفيلق، أو كان
هذا الفيلق معدودًا من فيالق الحكومة الدستورية، فيجب تعيين قومندان فعال مقتدر،
وكذا رئيس أركان حرب، وكذا أمراء يكونون أهلاً لقوماندانية الصنوف بأجمعها،
وإرسالهم بالصورة السريعة، فإن في ذلك صونًا له من الاضمحلال المحقق والتلف
المحيق به.
إنا لنأسف لعدم وجود مقتدر في هذا الفيلق للقيام بالوكالة لحين وصول من
سيعين له، فلا يقتضي العهد في الوكالة إلى أحد من الموجودين قط، وقد حررنا
ذلك خدمة لصالح هذا الفيلق في الحال والاستقبال، وباسم هذه الخدمة طلبنا ذلك) .
***