للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد توفيق صدقي


مدرسة دار الدعوة والإرشاد
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(٦)

(٤) اللحم:
يؤخذ هذا الصنف من الطعام من الأنعام، والطيور، والحيوانات البحرية،
والمعتاد أكله من الحيوانات البرية هي التي لا تأكل اللحم لحكمة ستظهر في الكلام
على الديدان المعوية فيما يأتي إن شاء الله.
واللحم نوعان: اللحم الأبيض، واللحم الأحمر، فمثال الأول لحم الأرانب،
ومثال الثاني لحم الضأن، والأبيض أسهل هضمًا من الأحمر؛ ولكن الأحمر أكثر
تغذية لاشتماله على جزء من مادة الهيموجلوبين فتكثر الدم، واللحم يشتمل على
جميع الأجزاء الضرورية للجسم تقريبًا، ففيه الماء، والزلال ونحوه من المواد
الآزوتية كالجلاتين، والزنثين (xanthin) [١] ، وغيرهما، وفيه أيضًا الدهن
والمواد الكربوهيدراتية: الجليكوجين، وسكر العنب، والإينوسيت Inosite [٢]
وفيه أيضًا أملاح عديدة منها فسفات البوتاسيوم، وملح الطعام، وغيرها، وكل هذه
المواد تختلف مقاديرها باختلاف الحيوانات المتنوعة، وهي توجد بكثرة عظيمة في
لحم الدجاج، فهو أكثرها تغذية، وفي اللحم أيضًا حامض الساركولكتيك
(Sarcolactic [٣] إذا كان جديدًا فلذا ينفع في الإسكربوط، ويوجد في الخنزير
الشحم بكثرة تفوق سائر أنواع اللحوم الأخرى، فلذا كان أعسر اللحوم هضمًا؛ لأن
الشحم فيه يحيط بأليافه العضلية؛ فيحول دون وصول العصارات الهاضمة إليها
فيتعب المعدة والأمعاء، وقد يحدث منه القيء أو الإسهال، وربما هيأ الزائدة
الدودية للالتهاب؛ ولذلك تكثر إصابتها به في بلاد الإفرنج؛ فإن فساد الهضم من
أسباب هذا المرض.
وكثيرًا ما تكون الحيوانات مصابة بأمراض متعددة مثل الدرن [٤] ، والجمرة
الخبيثة، وأنواع كثيرة من الديدان سنذكرها تفصيلاً فيما يأتي، فلذا يجب أن يكون
الحيوان المأكول سليمًا من كل مرض، ويجب أيضًا طبخ اللحم جيدًا حتى نقتل فيه
الميكروبات، وأكياس الديدان بقدر الإمكان , وأضر ديدان تنشأ من أكل اللحوم هي
الديدان التي تنشأ من أكل الخنزير، وهذه حكمة أخرى في تحريمها، ولا يتوهمن
القارئ أن الطبخ يزيل جميع أضرار اللحوم المريضة، فإنه إذا قتلت الميكروبات
بسبب شدة الحرارة بقيت سمومها، وكلما اشتد الطبخ للتأكد من قتلها زاد تجمد
المواد الزلالية، وعَسُر هضمها، على أن الطبخ قد لا يقتل بعض ميكروبات الدرن
التي تكون في باطن اللحم؛ لأنه موصل رديء للحرارة.
أما لحوم الحيوانات البحرية فمن أسهل اللحوم هضمًا، وقد لوحظ أن الناس
الذين يأكلونها بكثرة أقوياء البينة أصحاء، إلا أنه قد يصاب بعضهم بالجذام فلذا
ظن بعض الأطباء أن الاقتصار على أكل السمك، أو الإكثار من أكل الفاسد المتعفن
منه كالفسيخ مما يهيئ الجسم لقبول هذه المرض الخبيث؛ ولكن ذلك لم يثبت إلى
الآن.
ومن أنواع الحيوانات البحرية، الحيوانات ذوات الأصداف كالبطلينوس،
وهي سهلة الهضم جدًّا، غير أن ميكروب الحمى التيفودية قد يوجد فيها.
ومن أنواعها أيضًا السرطان البحري ونحوه، وهي لكثرة أكلها المواد القذرة
تضر آكليها بذلك وبشدة عسر هضمها، وأجود أنواع السمك هو الذي يصطاد حيًّا
من المياه الجارية النظيفة، والسمك سريع الفساد، فلذا يجب أن لا يترك زمنًا
طويلاً بل يؤكل غضًّا غريضًا، ويعرف السمك الغريض (الطازة) بيبس لحمه،
وبانتصاب ذيله، والسمك الفاسد المتعفن هو من أضر المأكولات؛ فإنه يتولد فيه
من الفساد بعض مواد سمية آزوتية تسمى (Ptomaines) [٥] ، وهي شديدة
الخطر حتى أن كثيرًا من الناس قُتلوا بسبب أكلهم السردين والفسيخ، ومن لم يمت
منهم قد يصاب بالدوار، والصداع، والإسهال، أو القيء، وغير ذلك.
أما البطارخ (وتسمى الصُّعْقُر وهي عبارة عن بيض السمك) فهي أقل فسادًا
من لحمه، وهي مغذية محرضة لشهوة الطعام، ويشترط أن لا يُكْثِر الإنسان من
أكلها في المرة الواحدة، وقيل إن أكلها يمسك البطن، ويمنع الإسهال.
والأسماك ذوات الحرشف هي غالبًا ألذ طعمًا، وأسهل هضمًا من التي لا
حرشف لها لكثرة دهنها، وقذارة المياه التي تعيش فيها، ولذلك حرمت التوارة أكل
ما ليس له حرشف (راجع سفر اللاويين ١١: ٩ - ١٢) ومن أسماك الأنهار ما
يكون سببًا في إصابة الإنسان بدودة شريطية كما سيأتي تفصيله.
ويقال إن أكل الأطعمة الحيوانية الفاسدة مدة طويلة يسبب الإسكربوط، وهو
رأي راجح جدًا الآن، وذلك مثل أكل القديد (البسطرما) .
(جدول تركيب أشهر اللحوم)
المواد ... ... الثور ... العجل الخنزير الحصان الدجاج نوع من السمك
ماء ... ... ٧٦.٧ ... ٧٥.٦ ٧٢.٦ ... ٧٤.٣ ... ٧٠.٨ ... ٧٩.٣
زلال وجلاتين ٢٠.٠ ... ١٩.٤ ١٩.٥ ... ٢١.٦ ... ٢٢.٧ ... ١٨.٣
شحم ... ... ١.٥ ... ٢.٩ ٦.٢ ... ٢.٥ ... ٤.١ ... ٠.٧
مواد كربوهيدراتية ٠.٦ ... ٠.٨ ٠.٦ ... ٠.٦ ... ١.٣ ... ٠.٩
أملاح ... ... ١.٢ ... ١.٣ ... ١.١ ... ١.٠ ... ١.١ ... ٠.٨

(٥) الأطعمة النباتية:
هذه الأطعمة منها ما يؤكل بلا طبخ كالجرجير، والفجل، وغيرهما، ومنها
ما يؤكل مطبوخًا كالبقول وغيرها، وهي في جملتها تشمل كثيرًا من الزلال،
والدهن، والمواد الكربوهيدراتية، والحوامض النباتية، وأملاح عديدة، وفيها مادة
يتعسر هضمها تسمى (السللولوز [٦] ) ، وهي التي يتكون منها جدران خلاياها،
وأخشابها، وغير ذلك من أليافها.
أما زلالها فيوجد بكثرة في البقول كالقمح، والفول، والعدس، والحمص،
ويسمى الزلال الذي يستخرج من القمح باللاتينية - الجلوتين (مادة غروية) ، وهو
لا يوجد فيه بشكله المعروف، إلا بعد أن يضاف إليه الماء؛ فيتحد مع ما فيه من
المواد الزلالية، ويتولد هذا الصنف المخصوص من الزلال، وهو سهل الهضم،
ولذلك كان من الأغذية النافعة المفيدة.
وأما الدهن فهو يوجد بكثرة في بعض الثمار كالزيتون، واللوز، وغير ذلك
إلا أنه يقل وجوده في بعض البقول كالقمح مثلاً.
والزيوت نوعان: ثابتة، وطيارة، فالثابتة هي كالشحم في تركيبها،
ويحصل الإنسان عليها بعصر الحبوب بآلات مخصوصة، وسميت ثابتة لأنها لا
تتطاير.
أما الزيوت الطيارة فهي مركبة من الكربون، والهيدروجين، والأكسجين إلا
أن مقادير هذه العناصر، وأوضاعها مغايرة كل المغايرة لتركيب الزيوت الثابتة،
ومن أمثلة هذا الصنف من الزيوت زيت القرنفل، ونحوه من الزيوت العطرية
ونظرًا لكونها سهلة التطاير تُتحصل بالتقطير، فإذا غُلي الينسون مثلاً في ماء صعد
منه الزيت في بخاره، ويمكن الحصول عليه بالأنبيق، أما الماء الذي غلي فيه فلا
يبقى فيه من هذا الزيت إلا النادر جدًّا أو لا يبقى فيه شيء.
الزيوت الثابتة مغذية ملينة، وتحترق في الجسم فتولد فيه حرارة عظيمة جدًّا،
ولذلك يحسن أكلها في البلاد الباردة.
والزيوت الطيارة منعشة منبهة للأعضاء كلها؛ فتقوي الهضم، ودورة الدم
وتدر البول، وتنفث البلغم من الصدر، وتزيد في قوة الحركة الدودية للأمعاء؛
وبذلك تخرج أرياحها، وتزيل آلامها، وهي مطهرة أيضًا قاتلة للميكروبات؛
فتطهر الشُعب والأمعاء والبول.
أما الأملاح التي في النباتات فهي مقادير كبيرة من فسفات البوتاسيوم وفيها
أيضًا فسفات الحديد، وهو كثير الوجود في البقول خصوصًا في القمح، فيكثر دم
آكله، ويقل في الأطعمة النباتية ملح الطعام؛ فلذا يحتاج إليه النباتيون كثيرًا
فيأخذونه من الخارج، وفي الخضر والفواكه أملاح عضوية وحوامض مثل حامض
الطرطريك (الدرديك) وهو موجود بكثرة في الليمون والبرتقال (واليوسف أفندي)
والكريز وغير ذلك، وحامض التفاحيك موجود بكثرة في التفاح والكمثرى
(الإجاص) وحامض الأكساليك [٧] ، يوجد في الحماض، والكرنب، والطماطم،
والراوند، وغير ذلك من الحوامض، وهي تتحول في الدم إلى كربونات قلوية فتدر
البول وتذيب حامض البوليك الذي ينشأ من احتراق المواد الزلالية احتراقًا ناقصًا؛
فينشأ منه النقرس (داء مخصوص في المفاصل) ، والحصوات الكلوية، والمثانية،
فهذه الحوامض النباتية تساعد على إزالة حامض البوليك الضار بالجسم.
والامتناع عن أكل الخضر زمنًا طويلاً يؤدي إلى ضعف بالجسم، وتقرح
باللثة، وحدوث أنزفة متعددة في أنسجة الجسم وخارجه، وهذه الأعراض كلها هي
المسماة (بداء الإسكربوط) ولا دواء له إلا الخُضَر، والأغذية غير المتعفنة.
ومما تقدم يُعْلَم أن الاقتصار على أكل اللحوم، وغيرها من المواد الحيوانية قد
يضر بالجسم، وخصوصًا إذا أكلها الإنسان ولم يروض جسمه بالحركات، أو
الأعمال البدنية المتعبة؛ فإن ذلك يقلل احتراق المواد الزلالية الاحتراق الواجب
الذي تتحول به إلى (بولينا) ليتيسر للكلى أن تخرجها من الجسم لسهولة ذوبانها،
بل يكون الاحتراق ناقصًا؛ فيتولد من المواد الزلالية حامض البوليك الذي يحدث
مرض النقرس والحصوات كما سبق، وهذا المرض كثير الحصول للمترفين بسبب
إسرافهم في المآكل الزلالية كاللحوم وغيرها، وإقلالهم من الحركات الجثمانية؛
ولذلك يسمى (داء الملوك) وللوقاية منه يجب القصد في أكل المواد الزلالية،
والمواظبة على الرياضة البدنية، والإكثار من أكل النباتات من خضر، وفواكه،
وغيرها حتى تذيب هذا الحامض الضار (أي حامض البوليك) ، وتخرجه من
الجسم.
وأكل المواد النباتية بلا طبخ قد تنشأ عنه أمراض كثيرة كالحمى التيفودية،
والدوسنطاريا، وبعض الديدان المعوية كالدود الخيطي الذي يوجد بكثرة في
المستقيم عند بعض الناس؛ والسبب في تلك الأمراض هو وجود بعض الميكروبات
وبويضات الديدان في الطين والماء الذي يسقى به الزرع؛ فتعلق هذه بالنباتات
وبذلك تصل إلى الإنسان إذا أكلها بدون تطهير؛ ولذلك يجب غسلها غسلاً جيدًا
متكررًا؛ فإن ذلك يزيل كثيرًا من مضارها؛ ولكن الأولى تطهيرها بالغلي لمن أراد
أن يصون نفسه صيانة تامة من هذه الأمراض، ويجب في زمن انتشار بعض الأوبئة
كالهيضة (الكوليرا) ، والحمى التيفودية أن تغلى جميع هذه المأكولات غليًا جيدًا،
أو يترك أكلها حتى ينتهي الوباء.
ولما كانت الحوامض كالليمون والخل قاتلة لبعض الميكروبات المرضية كان
وضعها على النباتات الخضراء كالخس مثلاً، أو الفجل هو من أحسن الوسائل التي
تقي الجسم شر هذه الميكروبات، أما تأثيرها في بويضات الديدان فهو غير وافٍ
بالغرض، والراجح أنها لا تقي الإنسان منها مطلقًا.
الكلام في الحبوب وأغذيتها وغير ذلك:
(أ) القمح: فيه نشاء كثير، وزلال، ودهن قليل جدًّا، والمادة المسماة
سللولوز، وأملاح أهمها فسفات الحديد - كما سبق - وماء، أما السللولوز فيوجد
أكثره في غلاف حبوب القمح، وهو الذي يُفصل بالطحن والنخل، ويسمى بالنخالة،
وأكلها يهيج حركة الأمعاء، ويُحْدِث لينًا؛ فلذا كان نافعا من هذه الوجهة.
الطبقة التي تلي غلاف القمح، تشتمل على الجزء الأعظم من الزلال،
ولونها أسمر، وأما باطن الحبة ففيه الجزء الأعظم من النشاء.
والخبز يُصنع بعجن الدقيق بالماء - كما هو معلوم - فيتحول زلال الدقيق إلى
المادة المسماة جلوتين، وإذا أريد الحصول عليها يُوضع العجين في قطعة من
الموصلي (الشاش) ، ثم يفرك عدة مرات في الماء؛ فيخرج النشاء الذي في
العجين من ثقوب الشاش، وتبقى مادة الجلوتين في داخل الشاش، وهذه يُصنع منها
خبز، أو فطير للمصابين بالبول السكري.
أما الخميرة: فهي مركبة من خلايا نباتية، وفائدتها إحداث الغول (الكحول)
وثاني أكسيد الفحم، وهو المقصود بالذات؛ لأنه يُحْدِث الفقاقيع في العجين؛
فيجعله إسفنجيًّا، وبذلك يسهل هضمه بعد خبزه، وبالخبز يزول ما في العجين من
الكحول والغاز وتقتل خلايا الخميرة.
(ب) الشعير: وتركيبه يقارب تركيب القمح، إلا أن زلاله لا يتكون منه
الجلوتين بإضافة الماء إليه؛ وإنما يبقى ذائبًا في الماء، ويُصنع من الشعير (ماء
الشعير) ، وهو مغذٍ قليلاً نافع للمرضى والأطفال، وإذا وُضِع على لبن الجاموس
أو البقر منع تجبنه في معد الأطفال تجبنًا كبيرًا، بل تتكون قطع جبنية صغيرة
متفرقة يسهل هضمها، ولا يصح إعطاء هذا اللبن للأطفال إلا إذا خُفف بماء
الشعير، وكيفية صناعة هذا الماء، أن يغلى ٥٠ جرامًا من الشعير اللؤلؤي [٨] في
٧٥٠ جرامًا من الماء مدة ٢٠ دقيقة، في إناء مغطى، ثم يصفى الماء، وهذا الماء
هو المسمى بماء الشعير.
(ج) القرطم (الشوفان) : وهو يشبه الشعير في زلاله، وفيه دهن كثير.
(د) الأرز: وفيه نشاء كثير، وزلال قليل جدًّا، ودهن أقل من الزلال،
وسللولوز أقل منها كلها، وملح قليل جدًّا، فكأنه لا يشتمل إلا على النشاء، وإذا
طبخ جيدًا كان سهل الهضم جدًّا بسبب قلة السللولوز فيه.
(هـ) الذرة: هي مثل القرطم في تركيبه بالنسبة لاشتمالها على دهن كثير
وزلال كزلاله، وتنقصها كذلك مادة الجلوتين اللزجة؛ فيتفتت خبزها، وينمو في
العتيق منها فطر مخصوص يفسدها، فإذا أكلها الناس فقد يحدث لهم المرض
المسمى (بالبللغرا) ، وهي كلمة يونانية وإيطالية أيضًا معناها " الجلد الوحشي "
(pellis جلد، و Agria وحشي) وقال بعضهم: إنه قد ينشأ حتى من أكل الذرة
السليمة إذا كان الشخص معدمًا رديء التغذية.
وظن آخرون سنة ١٩١٠ أن له ميكروبًا ينتقل ببعض أنواع الذباب (السَّكيت)
(Sandflies) ، وقيل إن سببه كسبب الإسكربوط، أعني أنه ينشأ من عدم
إعطاء الجسم حقه من المواد الضرورية لتغذيته، فالأسباب أحد ثلاثة:
(١) إما الذرة الفاسدة.
(٢) وإما نقص بعض المواد الضرورية للجسم.
(٣) وإما ميكروب مخصوص ينتقل بلسع السَّكيت.
وهذا المرض كثير الانتشار في مصر، وأعراضه: آلام بالمعدة، وإسهال
متعاصٍ، وفساد في الهضم، وضعف في الجسم، وفقر في الدم وطفح يظهر كثيرًا
في الأيدي، والأقدام، والمرافق، والركب، والعنق، والصدر، ويسمى هذا
الطفح عند الفلاحين (بالقشف) ، ويكون الجلد فيه خشنًا متشققًا أسمر اللون أو
أسوده، ثم يتقشر ويضمر، ومن أضر أعراض هذا المرض ضعف يصيب
المجموع العصبي كله؛ فيصاب الإنسان بالضعف العقلي، والماليخوليا [٩] (أي
جنون الكآبة والحزن) ، وأعراض أخرى من الجنون كالميل للانتحار، وهذا الداء
من أعظم أسباب الجنون في مصر - وكذلك شرب الحشيش -، وأعراضه تزول
في آخر الصيف عادة، ثم تظهر في الربيع، ويتكرر ذلك كل سنة، وبعد ٣ أو ٤
سنوات، وفي الحالات الخفيفة ١٠ إلى ١٥ سنة والأطفال قليلو الإصابة به، وهو
يكثر بين سن الثلاثين والخمسين.
وعلاج هذا الداء أن تمنع الذرة بتاتًا عن المصاب، ثم تعالج الأعراض التي
عنده مثل الإسهال؛ فيعالج بالغذاء اللبني والمواد القابضة المعروفة في الطب، فإذا
زال الإسهال يعطى المريض الأغذية الجيدة السهلة الهضم، والأدوية المقوية
كالحديد والزرنيخ خصوصًا، وتراعى جميع الوسائل الصحية، وهذا الداء إن لم
يتدارك في أول الأمر استفحل، واستحال شفاؤه، وأدى إلى الموت لا محالة، وقد
يموت الشخص منه ولا يصاب بالجنون.
والذرة التي تُحْدِث هذا المرض هي الذرة الشامية، وحبوبها كبيرة - كما هو
معلوم - وأما الذرة الرفيعة المستديرة، فلم يُعْرَف أنها تُحْدِثه.
وتمتاز حبيبات نشاء القمح عن حبيبات الذرة بتكوير أكبرها، أما حبيبات
الذرة فهي كثيرة السطوح، وبهذا يمكن بالمجهر تمييز دقيق الذرة.
(و) الحمص والفول والعدس: هذه المواد فيها زلال أكثر مما في اللحم،
وفيها نشاء كثير أيضًا، ودهن قليل، وفيها أيضًا مادة السللولوز، فهي من أعظم ما
عند النباتيين من المواد المغذية، أما زلالها فيوجد فيها متحدًا على الأكثر مع
الكبريت والفسفور، وهو غير الجلوتين الذي بالقمح، ولولا أنها عسرة الهضم لكان
للنباتيين وجه وجيه في تأييد مذهبهم (راجع أيضًا صفحة ٧١ من هذا الكتاب) .
(ز) البطاطس: فيها نشاء كثير، وزلال قليل، ودهن قليل جدًّا، وبعض
أملاح وسللولوز، وفيها أيضًا مقدار من حامض الليمونيك، إما خالصًا، أو متحدًا
مع البوتاسيوم، والصوديوم، والكلسيوم، ولذلك فهي مغذية جدًّا نافعة في
الإسكربوط.
(جدول تركيب بعض الأغذية النباتية السابقة)
المواد القمح الشعير القرطم الأرز العدس الحمص البطاطس
الماء ... ١٣.٦ ١٣.٨ ١٢.٤ ١٣,١ ١٢,٥ ١٤.٨ ٧٦.٠
المواد الزلالية ١٢,٤ ١١.١ ١٠.٤ ٧.٩ ٢٤.٨ ... ٢٣.٧ ٢.٠
الدهن ... ١.٤ ٢.٢ ... ٥.٢ ٩.٠ ٧.٩ ... ١.٦ ... ٠.٩
النشاء ... ٦٧.٩ ٤.٩ ... ٥٧.٨ ٧٦.٥ ٥٤.٨ ٤٩.٣ ٢٠.٦
السللولوز ٢.٥ ... ٥.٣ ... ١١,٢ ٠.٦ ... ٣.٦ ... ٧.٥ ... ٠.٧
الأملاح ... ١.٨ ... ٢.٧ ... ٣.٠ ١.٠ ... ٣,٤ ... ٣.١ ... ١.٠

(ح) الفواكه: يكثر فيها الماء، وأنواع ومختلفة من الحوامض والأملاح
والسكر والسللولوز وغير ذلك كالصمغ في التين مثلاً، وفي بعضها نشاء كثير
كالطلح (المَوْز) فهي مغذية مدرة للبول مذيبة لحامض البوليك مانعة للإسكربوط،
والنقرس، وبعض الحصوات البولية، وطبخ بعضها مما يسهل هضمها كالتفاح،
والخوخ، وهو قاتل لما فيها من الميكروبات وغيرها، وفي البلح والموز - فوق
ذلك - مواد زلالية، فهما من الأغذية الكاملة.
وأكل الفواكه عقب الطعام يعين على الهضم؛ لأنها تكثر عصارة الفم والمعدة
بلذيذ طعمها.
تركيب البلح [*]

ماء ... ... ... ... ... ... ١٢.٠٠ ... ...
مادة صمغية ... ... ... ... ١٢.٠٠
سكر (من نوع سكر القصب) ... ٥٠.٠٠٠ ... ...
سللولوز ... ... ... ... ٢٠.٠٠
مواد زلالية ... ... ... ... ٦.٠٠
تركيب الموز [*]
ماء صاف ... ... ... ... ٧٣
مواد أخرى متنوعة ... ... ... ٢٧
أما هذه المواد الأخرى ففيها ما يأتي بالنسبة للمائة:
ماء ... ١٣.٠٠ ... ... ... مواد زلالية ٤.٢٥
نشاء ... ٦٧.٥٠ ... ... ... أملاح ... ٣.٥٠
صمغ ... ٤.٥٠ ... ... ... سكر ... ٢.٠٠
سللولوز ٤,٧٥ ... ... ... زيت ودهن ٠.٥٠

(تنبيه)
اعلم أن الدهن والزلال المأخوذ من عالم الحيوان أسهل هضمًا بكثير مما
يؤخذ من عالم النبات، والعبرة في جميع الأغذية هي بما يمتصه الجسم من الأشياء
المأكولة، لا بمقدار ما في الطعام الذي يزدرده الإنسان من المواد المغذية فإنها
قد تكون عسرة الهضم.
(٦) الماء:
مركب من الهيدروجين والأكسجين - كما سبق - بنسبة اثنين من الأول إلى
واحد من الثاني حجمًا، وهو ضروري جدًّا لجميع الأجسام الحية؛ فإن ٦٤ في
المائة من جسم الإنسان ماء، وهو أيضًا ضروري لجميع إفرازات الجسم، ولسيولة
الدم، ولغسل ما في الجسم من الأوساخ، وإخراجه في مثل العرق البول، وبتبخره
إذا خرج في العرق تتلطف حرارة الجسم.
والماء عسر الهضم قليلاً في المعدة، بمعنى أنه يُمْتَص منها ببطء؛ ولكنه
يُمْتَص بسرعة زائدة من الأمعاء؛ ولذا كان الإكثار منه مع الطعام، أو عقبه بقليل
محدثًا لعسر الهضم؛ بسبب تخفيفه للعصير المعدي؛ ولكن المقادير المعتدلة منه
أثناء الأكل تزيد في إفراز هذا العصير، وإذا شرب الماء بمقادير كبيرة في وقت
خلو المعدة من الطعام، أدر البول، وغسل كثيرًا من أوساخ الجسم، وزاد في
سمنه بترسيب مواد شحمية فيه، وكمل التغيرات الحيوية في الجسم؛ فينقص مقدار
حامض البوليك المنفرز في البول؛ وبذلك يقلل تكون الحصوات الكلوية، ويغسل
الصغير منها، وكذلك يقلل تكون الحصوات الصفراوية في مرارة الكبد وقنواته.
والماء ينعش الخلايا الحية؛ فيزيد في قوة مقاومة الجسم للميكروبات المختلفة
ومن فوائده أيضًا أنه إذا شرب منه قليل عند القيام من النوم صباحًا؛ أحدث لينًا
عند المصابين بقبض الأمعاء.
وللماء فوائد أخرى كثيرة في استعماله في الغسل، والاستحمام سنتكلم عليها -
إن شاء الله تعالى - عند الكلام على النظافة.
وبالاختصار إنه من أكبر ضروريات الحياة، بحيث إن الامتناع عن شربه
أيامًا قليلة قاتل لا محالة، والممزوج منه بالأشربة السكرية، وغيرها كالشاي،
والمرق قد يغني عن الصِرْف.
هذا ويجب الاحتراس من شرب الماء البارد عقب التعب الجثماني الشديد،
كأن يشرب الإنسان بعد العدو ونحوه من الأعمال والرياضات المتعبة؛ فإن ذلك قد
يقتل الشخص بالسكتة القلبية، وشرب الماء الحار مسكن للقيء، مساعد للهضم؛
ولكن الماء الفاتر هو من أشهر المقيئات وأبسطها.
ويجب خلو الماء من جراثيم الأمراض خصوصًا وقت فراغ المعدة من الطعام
لعدم وجود العصارة الحمضية المطهرة حينئذ.
(٧) الأملاح (ومن أهمها ملح الطعام وهو كلوريد الصوديوم) :
هذه الأملاح ضرورية للجسم أيضًا؛ لأنها تدخل في تركيب جميع أجزاء
الجسم، وسوائله، ويتكون منها حامض الهيدروكلوريك الضروري للهضم المعدي
وتذيب المواد الزلالية الموجودة في الدم، وغيره من سوائل الجسم، ولولاها لرسب
كثير من الزلال في الأوعية الدموية واللمفاوية فتبطل الدورة، وقلة تعاطي ملح
الطعام تُحْدِث ضعفًا شديدًا، وتورمًا، وفقرًا في الدم، وموتًا، وهذه الأعراض
كانت تُشَاهَد كثيرًا في بلاد فرنسة، حينما كان الناس يمتنعون عن تعاطي الملح
بسبب وضع ضرائب عليه، والمقادير الكبيرة من ملح الطعام مثل مِلء الملعقة من
أحسن المقيئات؛ فيفيد في الإسعاف لسهولة الحصول عليه في أوقات التسمم، وهو
أيضًا يحدث إسهالاً إذا أخذ بكثرة، وحقن محلوله في المستقيم يزيل الديدان الخيطية
منه، ويحقن أيضًا تحت الجلد وفي الأوردة بنسبة ٧. ٥ جرامات إلى كل لتر ماء
معقم عند حصول النزف - كما سبق -، وفي تسمم الدم وفي الغيوبة الديابيطيسية،
أي الناشئة من البول السكري، والغرض من حقنه أن يخفف من تأثير السم في
الجسم، ويزيل بعضه بإدرار البول.
والإكثار من ملح الطعام قد يُحْدِث تورمًا في الجسم أيضًا، خصوصًا في
الالتهاب الكُلوي الحاد، لتعسر خروج هذا الملح مع البول في هذا المرض،
فيتراكم في أنسجة الجسم، ويجتذب إليه الماء الذي يتخلف فيها، ويحدث الورم
(oedema) .
أما الأملاح الأخرى كفسفات الكلسيوم، ومركبات الحديد، فهي ضرورية
لتكون العظام؛ ولتولد الكريات الحمراء وغير ذلك، وأملاح الجير موجودة بكثرة
في اللبن، والبيض، والخضر، وهي مما ينمي عظام الأطفال؛ ولذلك كان أكل
هذه المواد المذكورة واجبًا على المراضع لكيلا تصاب أولادهن بداء الكساح.
(٨) التوابل والأفاوية والمنبهات:
يوجد غير ما تقدم مواد أخرى كثيرة يستعملها الإنسان في طعامه، وشرابه،
والغرض منها تنبيه الهضم، أو الجهاز العصبي وغيره، ومن هذه المواد الفلفل،
والبصل، والثوم [١٠] ، وأنواع البهار المعروفة، والقهوة، والشاي، وغير ذلك.
أما المواد العطرية والبهارات، فالشيء الفعال فيها زيوت طيارة تنبه
الأعصاب، والعضلات، وتكثر العصارات الهاضمة؛ ولكن الغلو في تعاطيها مما
يؤدي إلى تعب المعدة، وفساد الهضم.
(أ) الخل: حامض مخفف معروف، يستخرج إما بالتقطير الجاف للخشب،
أو بتأكسد الخمر بواسطة بعض الميكروبات؛ فإنها إذا عُرِّضت للهواء مدة طويلة
استحالت إلى خل، وبطل تأثيرها المعروف، وعناصر الخل (وهي الكربون،
والهيدروجين، والأكسجين) توجد في الخشب بحالة أخرى؛ فإذا حُلل الخشب
بالنار في إناء مغلق حدث منه الخل، وهو نافع في داء الإسكربوط، إلا أنه أقل
فائدة في ذلك من عصير الليمون، ومن فوائده أيضًا أنه يساعد الهضم، ويدر البول
فهو كباقي الحوامض النباتية المذكورة آنفًا.
وحامض الخليك في الخل (بنسبة ٣-٦ في المائة) مختلط ببعض مواد
أخرى.
(ب) القهوة: معروفة، وتسمى حبوبها بعد تحميصها، ودقها (البُن) ،
وهو الذي يُوضَع في الماء المغلي، ويُشْرَب، وفي القهوة مادة آزوتية، وقهوين،
ودهن، وسكر، وحامض التنيك (الدّبغ) ، وسللولوز، وأملاح.
أما القهوين: فهو أهم ما فيها وفائدته تنبيه المخ فيقلل النوم، وهو أيضًا
يقوي العضلات وضربات القلب، ويدر البول، فلذا يستعمله الناس لإزالة النعاس،
ولتنبيه المخ للأعمال العقلية، وفي بعض أمراض القلب، والقليل من القهوة أيضًا
يحدث في بعض الأشخاص لينًا؛ ولكن الإكثار من تعاطيها يحدث عسرًا في الهضم،
وينهك القوى العصبية، فيحدث أرقًا، وخفقانًا، وتقطعًا في ضربات القلب، فلذا
يجب عدم الإفراط في شربها، وأحسن وقت لاستعمالها أن يشربها الإنسان إذا أحس
بالنعاس بعد أن يستوفي الجسم الراحة التي يحتاجها من النوم وغيره، وشرب القليل
منها عقب الطعام يساعد على الهضم، خصوصًا بما فيها من الحرارة. وحامض
التنيك الذي فيها من أشد المواد القابضة، فإذا أُخذت القهوة بمقدار زائد أحدثت قبضًا
بدل اللين المذكور.
والقهوة بما فيها من حامض التنيك، والقهوين من أحسن ما يستعمل ترياقًا
للتسمم بالأفيون، ويصح حقنها بمقادير كبيرة في المستقيم عند المسموم به إذا كان
في حالة الغيبوبة.
(ج) الشاي: مثل القهوة في التركيب تقريبًا، وفائدته كفائدتها ويصح
استعماله مع اللبن في الإسهال، والدوسنطاريا؛ فإنه يحدث قبضًا.
وطريقة صنعه هو أن يغلى الماء غليًا جيدًا، ثم يجعل على ورق الشاي يضع
دقائق؛ فيخرج منه نقيع مشتمل على المواد النافعة في الشاي، ويقل بذلك نزول
حامض التنيك في النقيع، بخلاف ما إذا غلي في الماء، ونظرًا لكونه أشد صفاء
من القهوة جاز استعماله أكثر منها في الإسهال، ونحوه لعدم وجود رواسب فيه
تؤذي الأمعاء، وحكم الإكثار منه، أو الإدمان عليه كحكم القهوة، إلا أنه يحدث
النَّقَد في الأسنان.
(د) الكاكاو: حبوب شجرة مخصوصة تنبت كثيرًا في جزائر الهند الغربية،
ويدخل في تركيبها الماء، والزلال، والثيوبرومين [١١] ، والدهن والنشاء،
وبعض أملاح، وصمغ، وسللولوز، وليس في الكاكاو (تنين) ولذلك لا يحصل
منها القبض الذي يحصل من القهوة والشاي.
والثيوبرومين مادة تشبه القهوين، والشايين في تركيبها، وتأثيرها غير أنها
تؤثر في المجموع العضلي أكثر من تأثيرها في المجموع العصبي؛ ولذلك يشعر
الإنسان بقوة في جسمه وعضلاته بعد تعاطي الكاكاو، وهو أيضًا مدر للبول،
ونظرًا لاشتمال الكاكاو على كثير من الدهن (نحو ٥٠ في المائة) يعد من الأغذية
النافعة، وفيه أيضًا نشاء كثير، ومن الكاكاو تصنع (الشوكولاتا) ؛ وذلك بإزالة
جزء من دهنها، ثم يضاف عليها السكر، وبعض مواد أخرى عطرية، وغيرها،
فلذا كانت (الشوكولاتا) مغذية منبهة.
وكلمتا (كاكاو) و (شوكولاتا) مكسيكيتان.
ودهن الكاكاو أو زبدته يستعمل طبيًّا في صناعة الأقماع الشرجية التي تلبس
لإزالة بعض الآلام والأمراض التي في الشرج، والسبب في اختيار هذه الزبدة هو
أنها تذوب بحرارة الجسم الطبيعية.
(هـ) المياه الغازية: - مثل ماء الصودا، والغازوزة - أهم ما فيها الماء
مع غاز ثاني أكسيد الفحم، وشربها منبه للهضم، مسكن لآلام المعدة وللقيء،
ويجب أن تُعمل من ماء نظيف لكيلا تنقل إلى الإنسان ميكروبات الأمراض، على
أننا نعلم أن ثاني أكسيد الفحم مع الضغط الشديد يقتل كثيرًا من الميكروبات التي في
الماء.
(و) الخمور: يستعملها الناس أيضًا للتنبيه والإنعاش، وقد سبق الكلام
عليها فلا حاجة للتكرار، وإنما نقول كلمة في كيفية صناعتها، فهي نوعان:
أحدهما أنها تُعمل بتخمير بعض أنواع السكر المستخرج من الفواكه، وغيرها
كالشعير المستعمل في الجعة (البيرة) ، والنوع الآخر يستخرج بالتقطير بعد
التخمير، فمن أمثله النوع الأول الخمر التي يسمونها الآن النبيذ [١٢] ، والبيرة،
ومن أمثلة النوع الثاني الكونياك والوسكي، وأهم ما في النوعين هو الغول
(الكحول) ؛ ولكن فيها مواد أخرى بعضها ينشأ من التخمير، والبعض الآخر أصله
مما في الفواكه وغيرها.
ومن الخطأ الشائع اعتقاد أن شرب البيرة نافع، فقد قرر الأطباء أنها ضارة
كباقي أنواع الخمر، زد على ذلك أنها تهيئ الجسم أكثر من بعض الأنواع الأخرى
لمرض النقرس، والروماتزم، والسمن الزائد، وشربها بكثرة يفسد الهضم،
ويضاف عليها حشيشة الدينار، وهي مما يخدر الأعصاب؛ فتحدث ثقلاً في الدماغ
وميلاً للنوم الكثير، وفيها مواد أخرى تنشأ أيضًا أثناء التخمير، وهي ضارة
بالجسم ضررًا بليغًا.
(ز) الدخان: يسمى بالطباق أو التبغ (Tobacco) وبالتتن، وهو
ورق شجرة معروفة، أعظم مادة مؤثرة فيه تسمي النيكوتين (Nicotine) نسبة
لرجل يسمى " نيكوت " (Nicot) ، وهو الذي جلبها لفرنسة في سنة ١٥٦٠،
ومادة النيكوتين من أشد السموم فعلاً، وأقواها تأثيرًا وسرعة، وهي تكثر اللعاب،
وقد تحدث إسهالاً، وقيئًا، وهمودًا (هبوطًا) ، والإكثار من التدخين قد يحدث
التهابًا في الحلق، وإقهاء (فقد شهوة الطعام) ، وتقطعًا في ضربات القلب،
وخفقانًا، ونزلة حنجرية، والتهابا في العصب البصري يؤدي إلى ضعف في النظر،
وضمور في هذا العصب، وكثيرًا ما يعجز الشخص المكثر منه عن تمييز الأحمر
من الأخضر.
ولا فائدة فيه إلا أنه منبه للمخ، مريح للعقل عند كثير من الناس.
هذا وقد زعم بعض المؤلفين أن الدخان لا يؤثر في النظر إلا إذا كان الشخص
من المدمنين للخمر أيضًا، والحق أن كُلاًّ منهما كافٍ بمفرده لإحداث هذا التأثير في
النظر؛ فتجد أن المدمن للتدخين، أو لشرب الخمر (وخصوصًا من يواظب على
شرب مقادير صغيرة يوميًّا، ومتكررة بحيث لا يسكر منها) إذا بلغ عمره ٣٥ -
٥٠ سنة، لا يقدر على القراءة، أو الكتابة ونحوهما، ويضعف نظره للأشياء كلها
خصوصًا في النور الشديد، ويعجز عن تمييز الألوان، كما سبق. وهذه الأعراض
تبتدئ عنده بسرعة، إلا أن حصولها كلها لا يتم إلا تدريجيًّا بعد مضي عدة أسابيع،
أو أشهر من مبدئها، وهي كثيرة الحصول للأشخاص الذين يجمعون بين إدمان
الخمر والدخان، وإن كان كُلاًّ منهما وحده كافٍ لإحداثها - كما قلنا - أما الذين
يسكرون أحيانًا، وفي الفترات لا يدخنون، ولا يشربون خمرًا، فهم أقل تعرضًا
لتلك الأعراض.
وإذا لم يستفحل الداء، ولم يزمن، فمجرد الامتناع عن الخمر والدخان كافٍ
لتحسين الحال أو الشفاء، ومما يساعد على ذلك استعمال يودور البوتاسيوم، وحقن
الإستركنين في الصدغ أو تعاطيه من الباطن، والحجامة الجافة والرطبة، والحمام
الساخن للأقدام، ومراعاة القوانين الصحية كافة خصوصًا ما به إصلاح المعدة،
والاستغراق في النوم، ولا بد من المواظبة على ذلك زمنًا طويلاً مع عدم العودة
إلى شرب الدخان أو الخمر مطلقًا.
وفي مبدأ هذا المرض ربما لا يُشاهد تغيير ما في قاع العين إذا امتحن،
ثم توجد فيه أشياء يراها الإخصائيون بمنظار العين (Ophthalmoscope) .
والتغير الذي يحصل في هذا المرض هو كالذي يحصل في الكبد والمخ مثلاً
لمدمن الخمر؛ فتضمر الألياف العصبية بسبب الضغط عليها بالمواد الالتهابية،
وبما زاد في المنسوج الضام الذي بينها، ثم ينقبض عليها ويفسدها.
طبخ الطعام:
الطبخ نافع لأسباب عديدة (منها) أنه يقتل الميكروبات، والديدان، ونحوها
فيقي الجسم من أمراضها (ومنها) أنه في المآكل النباتية يشقق طبقات السلولوز
التي تحيط بنشائها؛ وبذلك يسهل هضمها (ومنها) أنه في اللحوم، وغيرها من
المواد الحيوانية يذيب بعض المواد المخصوصة العسرة الهضم جدًّا، على أنه يجمد
المواد الزلالية التي فيها أيضًا، إلا أن هذا أخف وطأة من المضار الأخرى التي
تنشأ من أكل اللحم نيئًا، (ومنها) أنه يفرق الألياف العضلية للحم بتكون فقاقيع من
البخار بينها؛ وبذلك يسهل هضمها، وبتجمد المواد الزلالية يسهل مضغها،
وسخونة الطعام نافعة للهضم، منعشة للجسم.
وإذا أريد الحصول على مرق من اللحم مغذٍّ قطع اللحم إلى قطع صغيرة،
ووُضع في الماء البارد، ثم سُخن بالتدريج شيئًا فشيئًا إلى أن يغلي، أما إذا أريد
الاحتفاظ بالمواد الغذائية، وبقاؤها في اللحم دون المرق، فيغلى الماء غليًا شديدًا،
ثم يوضع فيه اللحم أثناء الغليان؛ فإن ذلك يجمد المواد الزلالية في الحال، ويكوِّن
طبقة تحيط باللحم تمنع نزول المواد المغذية في الماء؛ ولذلك كان المرق المصنوع
بهذه الطريقة قليل النفع.
أوقات الطعام وقوانينه:
سبق أن الطعام يمكث في المعدة أربع ساعات في الغالب، ويختلف هذا
الوقت باختلاف قدر الطعام ونوعه، والصحة والمرض، والراحة والتعب، ونوع
الهواء المستنشق، وغير ذلك؛ ولذا تعود الناس أن يأكلوا مرة كل ٥ أو ٦ ساعات،
وهي طريقة حسنة لا اعتراض عليها؛ ولكن يجب أن يراعي الإنسان - فوق ذلك-
في مسألة الأكل عدة أمور:
(١) أن لا يأكل إلا إذا جاع، وبعبارة أخرى أن لا يدخل طعامًا على طعام؛
فإن ذلك يفسد الهضم.
(٢) أن لا يأكل الإنسان عقب تعب شديد.
(٣) أن لا يجهد نفسه بعد الطعام في عمل جثماني أو عقلي؛ فإن ذلك
يصرف الدم عن المعدة إلى الأعضاء العاملة؛ فيتعطل الهضم، وعليه فمن الخطأ
المذاكرة أو الجري أو الجماع عقب الأكل مباشرة، وأضرها الجماع؛ فإن الصدمة
العصبية التي تحدث للجسم منه قد تقتل الشخص بالسكتة القلبية لا سيما إذا كان
القلب مريضًا، والتعب الذي يعقبه مفسد للهضم، ويلحق بذلك أيضًا الاستحمام عقب
الأكل؛ فإنه ضار أيضًا بسبب توجه الدم إلى الجلد، إذا كان الماء ساخنًا، أما إذا كان
باردًا؛ فإن حركة المعدة، والقلب تضطرب بسبب البرودة، ثم يذهب الدم عن المعدة
حينما تتمدد أوعية الجلد بسبب رد الفعل المعتاد عقب الاستحمام بالماء البارد فتتعب
هي والقلب، وكذلك لا تحسن المذاكرة عقب الطعام إلا بعد ساعة على الأقل.
(٤) أن لا ينام الإنسان عقب الطعام مباشرة؛ فإن النوم يضعف حركة
جميع أعضاء الجسم، ومنها المعدة؛ فيتعطل الهضم، ويضيق النفس، نعم إن
الراحة عقب الطعام نافعة؛ ولكن الاستغراق في النوم هو الضار، ومن المستحسن
جدًّا أن يتعود الإنسان تناول الفطور في الصباح مع قليل من القهوة أو الشاي؛
فإن ذلك يقوي الجسم والهضم، حتى أنه شُوهِد في البلاد التي فيها حمى الملاريا
(النافض) قلة إصابة الأشخاص المتعودين فعل ذلك في الصباح، وحسن
بنيتهم.
(٥) أن لا يشرب ماء شديد البرودة على طعام شديد السخونة.
أما الإكثار من الطعام زيادة عن المعتاد؛ فيحدث ضعفًا في المعدة، وتمددًا
فيها، وفسادًا في الأمعاء، واحتقانًا في الكبد، ويتعب الكُلى، ويحدث داء النقرس،
وإذا كان الطعام الزائد شحمًا، أو سكرًا، أو نشاء، فقد يحدث سمنًا زائدًا،
وانحلالاً في العضلات، أو بولاً سكريًّا من كثرة النشاء والسكر، والامتناع عن
أكل الدهن، والشحم ألبتة يضعف الصحة.
أما الامتناع عن المواد الكربوهيدراتية (النشاء، والسكر، ونحوهما)
فيضطر البنية إلى إحراق ما فيها من الشحم؛ فيتولد من ذلك حوامض شحمية،
ومركبات عضوية من قبيل حامض الزبديك (Butyric) ، وهذه الحوامض تقلل
قلوية الدم؛ فإن كان الشخص مصابًا بالبول السكري (الديابيطس) [١٣] ، فقد
يُحْدِث له الغيبوبة التي تكون سببًا في موته.
لذلك يرى أعلم الأطباء أن الامتناع المطلق عن أكل تلك المواد في هذا
المرض - كما كان متبعا من قبل - خطر جدًّا، ولذلك قلنا إن عسل النحل نافع في
هذا المرض؛ لأنه يغني عن تلك المواد الكربوهيدراتية، وهو من أسهلها هضمًا،
والقليل منه يكفي (راجع صفحة ٨٨ من هذا الكتاب) .
وإذا أريد تقليل سمن شخص مصاب بالتشحم العام وجب عليه الامتناع عن
المواد الدهنية، والكربوهيدراتية بقدر الإمكان، والإكثار من تعاطي المواد الزلالية
فإنها تزيد احتراق أنسجة الجسم، وهذه الطريقة تسمى طريقة بنتنج Banting [١٤]
أما قلة الطعام فإنها تُحْدِث ضعفًا في الجسم، وتقلل قوة مقاومته للميكروبات،
فإن من المعلوم أن الكريات البيضاء تزيد عقب الأكل؛ فتكون قوة الجسم على
مقاومة الميكروبات أكبر، فإذا قلت هذه الكريات بالصوم ضعف الجسم، وربما
صار عُرضة لبعض الأمراض، نعم إن الصوم عن الطعام نافع في أمراض المعدة
والأمعاء، والكبد، والكُلى، وحصواتها، والنقرس، والروماتزم (الرثية) ،
والحميات، وأمراض القلب، وغير ذلك، إلا أن الغلو فيه له هذا الضرر الذي
ذكرناه؛ ولذلك نص الشارع - صلى الله عليه وسلم - على وجوب الاعتدال في
كل شيء، ونهى عن صوم الدهر، وعن الوصال في الصيام، واستحب السحور
وتأخيره، وتعجيل الفطر وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لمن نهاه عن كثرة
الصيام والقيام: (إن لبدنك عليك حقا) .
ومما يخفف ضرر الصوم عند المسلمين أن يباح لهم أن يتعاطوا كل ما أرادوا
ليلاً؛ فلذلك كان الضرر الناشئ من الضعف في أثناء النهار قليلاً، أو معدومًا،
وبجانبه نفع يفوق كثيرًا هذا الضرر، وذلك هو إراحة الجهاز الهضمي، والكبد،
والجهاز البولي، وإحراق ما في الجسم من الزيادة الضارة، وغير ذلك مما ذكرناه،
ولكن يجب الاحتراس من ملء المعدة عقب الإفطار مباشرة؛ فإن الجسم تكون
قواه في ذلك الوقت ضعيفة، وكذلك المعدة، فالواجب طبيًّا أن يأكل الإنسان، أو
يشرب شيئًا قليلاً، ثم يعود إلى إتمام الأكل بعد صلاة المغرب كما كان يفعل
الرسول، صلى الله عليه وسلم.
ولما كان الصوم نافعًا من الوجهة الدينية والأخلاقية اغتفر الشارع ذلك
الضرر القليل، أو المشكوك فيه في جانب نفعه العظيم.
ومما يمحو ذلك الضرر الابتعاد عن ملاقاة المرضى، وكل ما لامسهم أثناء
النهار، وصرف الوقت في النوم بقدر الإمكان؛ ولذلك يُستحب عندنا في الشريعة
الإسلامية النوم للصائم، فإنه فضلاً عن فائدته الطبية بإراحته الجسم، وتوفير قواه
يقي الإنسان من اللغو، والرفث، ولذلك ورد في بعض الآثار (نوم الصائم عبادة)
***
الجهاز البولي
ووظيفته
لا يختلف هذا الجهاز في الذكور والإناث إلا في الإحليل (مخرج البول)
وهو في كل منهما مركب مما يأتي:
(١) الكُليتان وهما عضوان مخصوصان لإفراز البول، موضعهما في
القسم القطني من البطن خلف البريتون على جانبي العمود الفقري، ويمتدان من
الفقرة الأخيرة الظهرية إلى الثالثة القطنية، واليمنى منهما منخفضة قليلاً عن
اليسرى بسبب وجود الكبد في هذه الجهة، وطول كل منهما نحو أربع بوصات،
وعرضهما نحو بوصتين ونصف.
والكلية عبارة عن منسوج مخصوص مركب من أنابيب كثيرة العدد لإفراز
البول من الدم، والدم يأتي إليها بشريان عظيم متصل بالأورطى (الأبهر) مباشرة،
ويتفرع هذا الشريان في الكلية إلى عدة فروع يخرج منها فروع دقيقة جدًّا تنتهي
بعمل أشكال كروية تسمى كريات مالبيغي [١٥] (Malpighi) يحيط بها مبدأ
أنابيب الكُلى، وكل أنبوبة بعد تعرجها تصب في أنابيب أخرى مستقيمة، وهذه
الأنابيب تنفتح في قمم حلمات صغيرة (عددها من ٨ إلى ١٨) توجد في بطن
الكلية حول تجويف مخصوص يسمى " الحويض الكلُوي " وهو مبدأ للحالب.
(٢) أما الحالب: فهو عبارة عن أنبوبة تمتد من الكلية إلى المثانة،
وتحمل البول إليها، وينفتح في قاع المثانة بانحراف، أعني أنه يسير قليلاً في
جدارها بين غشائها المخاطي، والطبقة العضلية، وذلك لمنع رجوع البول فيه
بانطباقه على نفسه بسبب ضغط البول عليه، حينما تمتلئ المثانة به، وكل من
الحالبين مركب من منسوج ليفي، ومنسوج عضلي، وغشاء مخاطي، والغرض
من المنسوج العضلي أن يدفع البول نحو المثانة.
(٣) أما المثانة: فهي كيس يسع نحو نصف لتر من البول في امتلائه
العادي، وموضعه في الحوض خلف العظم العاني، وفي أسفل الجدار الأمامي
للبطن، والمثانة مركبة من عدة طبقات أهمها الطبقة العضلية، والطبقة المخاطية،
وفائدة الطبقة العضلية هي قذف البول إلى الخارج، وهذه الطبقة العضلية مركبة
من ثلاث طبقات: خارجية، وداخلية (وأليافهما تمتد من الأمام إلى الخلف غالبًا) ،
ووسطى، وأليافها حلقية تحيط بالمثانة، وعند فتحة المثانة في الإحليل تتجمع من
هذه الطبقة الوسطى ألياف كثيرة تسمى " العضلة العاصرة للمثانة "، وهي التي
تمنع البول من السلس.
(٤) أما الإحليل: فهو اسم لمجرى البول في كل من الذكر والأنثى، وهو
- طبعًا - أطول في الذكر منه في الأنثى، أما فتحته في الأنثى فهي فوق فتحة
المهبل الذي هو عبارة عن مكان الجماع، ومخرج دم الحيض، والجنين.
أما كمية البول فهي في اليوم نحو ١٥٠٠ سنتمتر مكعب، وهذه الكمية تختلف
أيضًا باختلاف مقدار الشرب، وحرارة الجو، وقوة القلب، وبعض المواد المأكولة،
فإذا اشتدت حرارة الجو مثلاً كثر إفراز العرق؛ وبذلك يقل البول، وإذا شرب
الإنسان مقدارًا عظيمًا من الماء، أو تعاطى بعض المواد المدرة للبول؛ فإن هذه
الكمية تزداد.
والبول حمضي التأثير في ورق عباد الشمس، هذا في الحيوانيين، أما في
النباتيين فإنه قلوي التأثير، وإذا تُرِك البول في إناء مدة من الزمن تحولت (البولينا)
التي فيه بفعل الميكروبات إلى كربونات النوشادر، وصار البول قلوي التأثير،
وهذا هو سبب رائحة النوشادر فيه.
والثقل النوعي للبول يختلف من ١٠١٥ إلى ١٠٢٥، وفي البول السكري
يزداد هذا الثقل النوعي كثيرًا.
والبول مشتمل على مواد كثيرة أهمها الماء، والأملاح، وبعض المركبات
العضوية الأخرى كالبولينا.
أما جل الماء، والأملاح فتُفْرَز بواسطة كريات مالبيغي، وأما باقي المواد
الأخرى فتفرزها أنابيب الكُلى المتعرجة أثناء سير الدم في الأوعية الشعرية التي
حولها.
والبول الطبيعي خالٍ من السكر، ومن الزلال تقريبًا، فلا يوجد فيه شيء
منهما يذكر [١٦] إلا في أحوال مرضية، والسكر الذي يوجد حينئذ فيه هو سكر العنب،
ولا يوجد فيه سكر اللبن إلا في المراضع، وأهم سبب لوجود الزلال فيه هو
التهاب الكُلى المسمى داء بريت (Bright) [١٧] الذي يفسد خلاياها خصوصًا
خلايا كريات مالبيغي، وأهم ما يُحْدِث هذا الداء التعرض للبرد الشديد خصوصًا
عقب الإفراط في السُّكر، أو الجماع، أو الإصابة بالحميات العفنة كالقرمزية،
وهذا الداء من أضر ما يحدث للجسم، وهو سبب في موت كثير من الناس، وهناك
مرض آخر منتشر في الجهاز البولي في مصر يسمى (داء بلهارس) سنتكلم عليه
عند الكلام على الديدان.
وإذا أراد الإنسان التبول صدر من النخاع الشوكي تيار عصبي إلى المثانة
فانقبضت، وإلى عضلات البطن فانقبضت أيضًا، وفي أثناء انقباضهما ترتخي
العضلة العاصرة لعنق المثانة؛ فيخرج البول إلا إذا عاقه عائق كحصاة تكونت في
المثانة.
وقد تتكون الحصيات في أنابيب الكُلى نفسها، وتكون حينئذ صغيرة جدًّا
كحبات الرمل، أما الحصيات الكُلوية التامة؛ فتكون غالبًا في أعلى الحالب، أي
في الحويض الكلوي، وهي السبب في حصول الآلام القطنية عند المصابين بها،
فإذا نزل جزء منها في الحالب اشتد المغص بالمصاب إلى درجة مفزعة، ولا
يزول غالبًا إلا إذا تراكم البول خلفها، وضغط على منسوج الكلية فأتلفه، وإذا
طالت مدته استحالت الكلية إلى كيس عظيم، وأهم هذه الحصيات هي حصيات
حامض البوليك الذي يكثر بتعاطي المواد الزلالية مع قلة الحركة الجثمانية - كما
قلنا - ولا علاج للحصاة بعد تكونها إلا بالعمليات الجراحية ما لم تكن صغيرة
وتخرج بنفسها مع البول، وأحسن المخترعات الحديثة لمعرفة مكانها وشكلها
وحجمها هو أشعة رونتجن (Rontgen) ؛ فإنها تُظْهِر ما في الجسم من الأجسام
الصلبة كالحصيات، والعظام، والأشياء الغريبة كالرصاص - وسيأتي الكلام
عليها-.
والخلاصة أن وظيفة الكلية هي إفراز المواد المتخلفة من الاحتراق الداخلي
للجسم لأن بقاء هذه الفضلات فيه ضار به جدًّا، وإذا بطلت هذه الوظيفة بسبب
فساد الكليتين نشأ عن ذلك الموت لتسمم الجسم بالمواد البولية؛ ولذلك يسمى هذا
التسمم بالتسمم البولي (Uraemia) ، وبعبارة أصح (تسمم الدم بالبول) .
***
الجهاز التناسلي
ووظيفته
هذا الجهاز - وإن اختلف في الظاهر في الذكر والأنثى - هو واحد في منشئه،
وتركيبه، ولذلك قال ابن سينا [١٨] في قانونه: إن آلة التوليد في الإناث (كأنها
مقلوب آلة الذكران) وهو تعبير يُقَرِّب المسألة إلى الفهم وإن لم يكن حقيقيًّا على
إطلاقه.
أعضاء الذكر:
القضيب والصفن المشتمل على الخصيتين، والقناة الناقلة، والحويصلات
المنوية، والبروستاتة وغيرها مما سيأتي.
أما القضيب: فهو مركب من ثلاثة أجسام أسطوانية الشكل: اثنان منها في
أعلاها، والثالث في أسفلها، ومنسوج هذه الأجسام الثلاثة يشتمل على تجاويف
عديدة إذا احتبس فيها الدم بسبب ضغط العضلات على الأوردة حصل الانتصاب،
والجسم الأسطواني الأسفل هو الذي فيه الإحليل (أي مجرى البول) .
ومركز الانتصاب في (الانتفاخ القطني للنخاع الشوكي) الذي يقابل الفقرتين
أو الثلاثة الأخيرة من الفقار الظهرية.
والحشفة متصلة بالقسم الأسفل من تلك الأجسام الأسطوانية، ويغطي الحشفة
جلدة تسمى القلفة، وهي التي تقطع في الختان.
وفائدة الختان منع تراكم الإفرازات تحت القلفة، وكذلك تسهيل معالجة ما
ينشأ في الحشفة من الأدواء، ومن فوائدها أيضًا تعريض الحشفة نفسها لشدة
الإحساس، فتقوى الشهوة، ويكون الالتذاذ بالجماع أكمل، وفي بعض الأشخاص قد
تكون فتحة القلفة ضيقة؛ فيتعسر خروج البول؛ ويتسبب من ذلك كثرة الزحير
فيصاب الشخص بمثل سقوط المستقيم، أو الفتق السري، أو الأُرْبي وغير ذلك.
وضيق الفتحة هذا هو من أكبر الأسباب لهذه الأمراض خصوصًا في الأطفال
ولا دواء له إلا الختان، وتراكم الإفرازات قد يؤدي إلى جلد عميرة، والتهاب
الحشفة والتصاقها بالقلفة، ويهيئها لقبول الأمراض الزهرية، بل والسرطانية في
الشيوخ؛ ولذلك كان الختان عند فقهاء المسلمين سنة مؤكدة، وعند بعضهم واجبًا؛
ولكنه عند اليهود فرض لا هوادة فيه.
الصفن: وهو الجلدة المعروفة التي تشبه الكيس، وفيها الخصيتان، أما
الخصيتان فهما غدتان كبيرتان كحجم البيضة مختصتان بإفراز الحيوانات المنوية،
أما تركيبهما فهو كما يأتي: يحيط بالخصية غشاء سميك يخرج منه عدة جدران
تقسم الخصية إلى عدة أقسام، وفي هذه الأقسام توجد أنابيب طويلة، ورفيعة جدًّا
يبلغ عددها نحو ٨٤٠ (وقيل ٣٠٠) ، وطول كل منها نحو من قدمين وربع،
وقطرها صغير جدًّا، وهي ملتفة على نفسها، ومبطنة من داخلها بخلايا مخصوصة
تتحول بالتدريج إلى الحيوانات المنوية.
أما هذه الحيوانات المنوية: فكل منها عبارة عن خلية واحدة، لها رأس،
وجسم، وذنب، ورأسها هو نواة الخلية، ولها حركة سريعة جدًّا، وإذا رآها
الإنسان بالميكروسكوب ظنها ديدانًا دقيقة، أو علقًا، وتعيش مدة بعد خروجها من
الإنسان، وشكلها يختلف باختلاف الحيوانات المتنوعة، وأقرب الأشكال شبها
بحييوين الإنسان حييوين مَني القرد، وإذا انفصلت هذه الحيوانات من خلايا
الأنابيب سارت فيها، وهذه الأنابيب تتجمع شيئًا فشيئًا إلى أن تتكون منها قناة
واحدة تسمى (بالقناة الناقلة) ، والدم الوارد إلى الخصيتين يأتيهما بشريانين رفيعين
طويلين يخرجان من الأبهر الممتد من القلب خلف الترائب إلى نهاية الصلب تقريبًا
(والصلب هو السلسلة الفقرية كما سبق) ، وهذا الدم يغذي الخصية، فتنقسم
خلاياها بعد أن تتغذى به، وينشأ من انقسامها هذه الحيوانات المنوية، وعلى ذلك
فأصل المني أو دمه يخرج كما قال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (الطارق: ٧) [١٩] .
أما هذه القناة الناقلة التي يحس بها الإنسان في الصفن كحبل صلب، فهي
تحمل المني إلى جدران البطن، ثم تدخل البطن؛ لكنها تبقى خارج البريتون،
وتستمر في سيرها إلى أسفل المثانة، وتكون بينها وبين المستقيم [٢٠] ، وهناك تتحد
بقناة الحويصلة المنوية التي في الجهة الوحشية منها، ويتكون من اتحاد القناتين قناة
واحدة تصب في مجرى البول بعد خروجه من المثانة بقليل، وتسمى (بالقناة
القاذفة) .
أما الحويصلة المنوية: فهي كيس صغير كأنبوبة ملتفة على نفسها، ولها في
جوانبها عدة فروع، وهي تفرز سائلاً لبنيًّا رقيقًا يضاف إلى المني لتسهيل حركة
الحيوانات فيه، وفي هاتين الحويصلتين يتجمع المني إلى حين قذفه عند الجماع
ونحوه، فهما مستودعان له.
البروستاتا: (وهي كلمة يونانية معناها الإمام) يحيط بمبدأ مجرى البول بعد
عنق المثانة خلف العظم العاني وتحته، وهو يفرز مادة تضاف إلى المني تسمى
بالودي [٢١] ، وتنبعث منه بعدة أنابيب تصب في مجرى البول أثناء مروره في
البروستاتا، وهذا العضو كثيرًا ما يصاب بالضخامة في الشيوخ؛ فيحدث عندهم
عسر البول، واحتباسه.
وهناك غدتان صغيرتان في العجان على جانبي مجرى البول لهما إفراز
مخصوص يسمى بالمذي، وهو السائل الذي ينزل عند المداعبة، وفائدته تليين قناة
البول لتسهيل سير المني فيها، وتيسير إيلاج القضيب في الفرج عند الجماع،
وهاتان الغدتان تسميان غدتي (كوبر) (Cowper) ، والقذف يحصل بانقباض
الألياف العضلية التي في المجاري المنوية وحولها، فإن في كل هذه الأجزاء
المذكورة كثيرًا من المنسوج العضلي.
ويبتدئ تكون الحيوانات المنوية عند البلوغ، وهو يحصل عادة في بلادنا
بين السنة ١٢ و ١٦، وقد يبلغ بعض الغلمان في التاسعة من عمرهم، وآخرون
في السنة ١٨، وإذا بلغ الشخص خشن صوته ونبت الشعر في وجهه، وعانته،
ووجد فيه الميل الطبيعي للأنثى، ويستمر إفراز المني إلى أواخر العمر، فقد عُرِف
أن بعض الشيوخ رزقوا بالولد في سن الثمانين، بل بعد المائة؛ ولكن الميل
الشهواني يضعف عادة في الإنسان كلما كبر، وقد يزول في الصغر لضعف أو
مرض أو غيرهما، ويكون حينئذ قاصرًا على الميل النفسي، وإن كانت القوة
الجثمانية نفسها ضعيفة أو مفقودة بسبب ضعف الانتصاب أو عدمه.
أعضاء الأنثى:
تبتدئ هذه الأعضاء من الخارج إلى الداخل بالفرج، وأجزاؤه هي:
(١) جبل الزهرة [٢٢] : وهو القبة التي في أعلاه، وعليها ينبت الشعر.
(٢) الشفران الكبيران: وهما الممتدان من جبل الزهرة إلى ما يسمى
بالشوكة، وهي الغشاء الذي يجمع بينهما عند أسفلهما، وهذه الأجزاء مركبة من
جلد وشحم من جزء من المنسوج المسمى بالخلوي، وفيها غير ذلك أعصاب،
وأوعية، وغدد وألياف عضلية، والشفران في الأنثى يقابلان الصفن في الرجل.
(٣) الشفران الصغيران: وهما قطعتان صغيرتان من الجلد بين
الشفرين الكبيرين ويعرفان عند عامة النساء في مصر بالورقتين، يمتدان في
أعلاهما إلى البظر.
(٤) البظر: وهو جسم صغير يقابل في الذكر القضيب، وهو مثله في
تركيبه، ونشوئه، غير أنه مركب من جسمين أسطوانيين فقط، وله رأس كرأس
الذكر؛ ولكنه غير مثقوب، ولا يوجد فيه الجسم الثالث الذي للرجل، والبظر
عضو حساس خصوصًا رأسه، ويتحرك بالشهوة وينتصب كالذكر تمامًا؛ ولذلك
اعتاد الشرقيون - من قديم الزمان - أن يقطعوه وحده، أو مع الشفرين
الصغيرين، وتسمى هذه العملية بعملية الخفض، وهي مستحسنة في الشريعة
الإسلامية لأنها مما يقلل ثوران الشهوة عند النساء، وخصوصًا في البلاد الحارة.
(٥) غدد (بارثولين) : وهما غدتان صغيرتان على جانبي فتحة الفرج تفرز
كل منهما مادة لزجة صافية تشبه المذي، وهي تسيل مثله عند تحرك الشهوة في
النساء.
(٦) العُذرة (غشاء البكارة) : وهو غشاء يسد فتحة الفرج كلها أو
بعضها؛ ولكنه له في الغالب فتحة أو أكثر لنزول دم الحيض، وله أشكال
عديدة أكثرها الهلالي والحلقي، وقد يكون معدومًا بالمرة من أصل الخلقة، وإذا كان
هذا الغشاء مسدودًا بالمرة امتنع دم الحيض من النزول؛ فيتراكم في الرحم،
وينشأ منه أعراض مخصوصة يعرفها الأطباء، وتسمى المرأة المصابة بهذه العاهة
بالرتقاء، وعند تمزق هذا الغشاء في العذارى يخرج منه مقدار من الدم - كما هو
معروف - ويسمى هذا التمزق بالافتضاض، وفي تمزيقه بالإصبع خطر فقد
يتمزق معه المهبل، وربما يفضي ذلك إلى الوفاة.
هذه هي أعضاء المرأة الظاهرة.
أما أعضاؤها الباطنة فتبتدئ بالمهبل: وهو أنبوبة عضلية موصلة بين الفرج
والرحم، ولها فتحة مسدودة بالغشاء المذكور، وفي أعلى هذه الفتحة يوجد الصماخ
البولي، أي فتحة البول الواصلة إلى المثانة، والمثانة في النساء فوق المهبل.
ووظيفة المهبل: هي أن يكون محلاًّ للجماع، ومخرجًا للجنين، ودم الحيض
أما الرحم: فهو جسم كمثري الشكل، عضلي سميك أجوف، له فتحة في
المهبل، وفيه فتحتان أخريان لأنبوبتين تسميان بوقي فللوبيوس [٢٣] لحمل البويضات
إلى الرحم.
أما (البوقان) فمبطنان من الداخل بغشاء مخاطي له أهداب، وطول كل
منهما نحو أربع بوصات، وطرف كل منهما مشرشر، وخلف البوقين (المبيضان)
وهما جسمان يشبهان الخصيتين، وليسا أجوفين، وفي داخلهما بويضات صغيرة
جدًّا ميكروسكوبية في داخل حويصلات تسمى حويصلات (جراف) ، وهذه
الحويصلات تقرب من سطح المبيض شيئًا فشيئًا حتى تنفجر فتخرج البويضة [٢٤]
وتصل إلى البوق، والبوق متصل بالمبيض بقناة صغيرة هي جزء من الطرف
المشرشر، وهو ينطبق على المبيض حين انفجار الحويصلة.
البويضة والبلوغ واليأس:
أما البويضة فأصلها من الغشاء المحيط بالمبيض، الذي هو عبارة عن
البريتون، وتتكون هذه البويضات في البنات منذ ابتداء خلقتهن بحيث تولد البنت
وفيها عدد مخصوص من البويضات تبلغ الألوف، ويقال إن هذه البويضات تسقط
من البنات في زمن طفوليتهن قبل البلوغ، ويتفق في البنات البالغات والنساء زمن
انفجار الحويصلات، وخروج البويضات منها مع زمن الحيض، والرأي الراجح
الآن عند بعض العلماء أن كل مبيض تنفجر منه حويصلة مرة في كل شهرين،
بمعنى أن الحيض إذا اتفق مع انفجار الحويصلة التي في المبيض الأيمن مثلاً في
الشهر انفجرت حويصلة من المبيض الأيسر في الشهر التالي وهكذا، أي أن كل
انفجار من مبيض يكون في شهر وحده.
وأما زمن البلوغ في البنات عندنا فيكون من ١٢ إلى ١٤ سنة، وفي البلاد
التي أشد حرًّا من مصر كبلاد الهند والعرب كثيرًا ما تحيض البنت في السنة
التاسعة، وزمن الحيض يتفق مع زمن النسل عادة، إلا أنه ثبت أن بعض البنات
حملت قبل أن تحيض، كما ثبت أن بعض العجائز حملت بعد اليأس، وسن اليأس
في النساء هو في الغالب من ٤٥ إلى ٥٠، ومنهن مَن يستمر حيضها إلى ما بعد
ذلك بكثير كسن التاسعة والستين.
الحيض: عبارة عن نزف يحصل من الغشاء المخاطي المبطن للرحم،
ويصحبه تمزق في هذا الغشاء، وسقوط بعض الأجزاء منه، ولا يحدث الحيض
إلا للنساء، ولبعض أنثيات القرود، ومدته تختلف من يوم إلى ثمانية أيام، وفي
الغالب ستة أيام فقط.
وسبب الحيض، وفائدته مجهولة إلى الآن، وهو ليس ضروريًّا لحدوث
الحمل، فقد شوهد أن بعض النساء لا تحيض مطلقًا، ومع ذلك تحمل كالعادة.
الخنثى: إنسان يتعسر أو يتعذر تمييز نوعه، إن كان ذكرًا أو أنثى، وهي
أنواع:
(١) من يكون في الحقيقة ذكرًا؛ ولكن أعضاءه تشبه الأنثى، فيكون له
صفن مشقوق كشفري المرأة، وقضيبه صغيرًا جدًّا، ولا فتحة فيه، وتكون فتحة
البول بين الشفرين، وقد يكون له ثديان [٢٥] ؛ ولكنه لا يحيض، وينقذف منه المني
من خصيتين تكونان غالبًا في شفريه، وقد تبقيان في بطنه، وفي هذه الحال لا
يمكن الحكم عليه إلا بفحص دقيق جدًّا، كأن يُمتحن السائل المقذوف منه؛ فإن
وجدت فيه حيوانات منوية تحققنا ذكورته وإلا فلا، وفي مثل هذا الشخص تكون
فتحة البول أضيق من المهبل، وتتصل بالمثانة، ولا يحس بوجود رحم له.
(٢) من تكون أنثى، وأعضاؤها تشبه الذكر كأن تكون ثدياها ضامرتين،
وبظرها كبيرًا جدًّا، ومنهن من يكون رحمها أيضًا ساقطًا بين فخذيها فيشبه الصفن
ومثل هذه المرأة قد تشتهي النساء وتميل إلى السحاق، وتعرف هذه بحصول
الحيض لها، وعدم وجود أي حيوان منوي في إفرازها، وقد يدرك الباحث فيها
وجود المبيضين ووجود الرحم.
(٣) من يوجد له مبيض في جهة، وخصية في الجهة الأخرى، ووجدت
أحوال نادرة جدًّا، كان الشخص يأتيه الحيض شهريًّا، ومع ذلك يقذف حيوانات
منوية، كشخص عرف في أوربة يسمى " كثرين هوهمان " (CATHERINE
HOHMANN) لم يعرف له نظير.
ومن هذا النوع الأخير من تكون أعضاؤها الظاهرة كأعضاء الذكر، والباطنة
كأعضاء الأنثى، وبالعكس، ولا يوجد دليل على أن مثل هذا الشخص لا تتلقح
بويضاته بمني نفسه، غاية الأمر أن وجود مثل هذا الشخص أندر من الكبريت
الأحمر، وأكثر منه ندرة أن تلقح حيواناته المنوية بويضاته.
ولا يوجد عندنا مانع عقلي أو نقلي يمنعنا من تجويز أن تكون مريم - عليها
السلام - من هذا النوع الأخير فمسألتها أندر من النادر، فلا غرابة إذا لم نعرف
أنها حدثت لغير مريم، إذ يندر أن يتفق حصول ذلك في العالم إلا مرة أو مرتين
فيتعذر على الناس معرفة ذلك باليقين، على أن الوثنيين قد زعموا حصول مثل تلك
الولادة لبعض آلهتهم، وربما كان بعض ما زعموا صحيحًا (راجع كتاب
(النصرانية والأساطير) تأليف روبرتسن صفحة ١٦٨ ١٧١) ولا ينافي ذلك أن
تكون مريم، وابنها آية للعالمين، فإن في كل ما خلق الله آية خصوصًا مثل تلك
الشواذ العجيبة النادرة جدًّا، ولذلك قال تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ
آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية: ٤) ، أما إرسال المَلَك إليها فقد كان لتبشيرها
بحصول هذا الحمل النادر العجيب، كما بشر زكريا بالولد مع شيخوخته، وعقم
امرأته، وقوله في سورة مريم: {أَهَبَ لَكِ} (مريم: ١٩) قد يراد به أنه متكلم
عن الله، كما قالت الملائكة المرسلة للوط: {إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا} (الحجر: ٦٠)
أي قدر الله؛ ولذلك ورد في قراءة سبعية قول جبريل (ليهب لك) أي ليهب لك الله،
وإنما هو مبشر لها بذلك فقط، ويؤيد ذلك أيضًا قوله تعالى في سورة آل عمران:
{إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} (آل عمران: ٤٥) الآية، وأما قول أمها: {إِنِّي
وَضَعْتُهَا أُنثَى} (آل عمران: ٣٦) إذا دل على أنها عرفت حقيقتها فقوله تعالى
بعده مباشرة: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} (آل عمران: ٣٦) أدل على أنها
لم تعرف الحقيقة؛ وإنما حكمت بالظاهر، والله أعلم منها بالواقع ونفس الأمر
وقوله: {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ} (آل عمران: ٤٢) أي فضلك عليهن لا
يدل على أنها منهن ولذلك لم يقل (اصطفاك منهن) [٢٦] .
على أننا لم نقل إنها لم تكن امرأة بل نقول: (يحتمل أنها كانت لها أعضاء
الذكر والأثنى، وتغلب عليها الأنوثة بدليل حملها لعيسى، وولادتها له، وإرضاعها
إياه وإذا صدقنا كتب العهد الجديد قلنا إنها أيضًا تزوجت بعد ولادة عيسى، ورزقت
بأولاد (مت ١: ٢٥ و١٣: ٥٥) فكانت أعضاء الأنوثة فيها أجلى وأكمل من
أعضاء الذكورة) .
هذا ويوجد في الحيوانات الدنيئة ما تتوالد إناثها بلا تلقيح عدة أجيال، فيجوز
أن ما يحصل في هذه الحيوانات على سبيل القاعدة يحصل مثله في الإنسان على
سبيل الشذوذ، مثال ذلك أن المعتاد في بعض الحيوانات أن تلد عدة صغار في بطن
واحد كالأرانب وغيرها وذلك هو القاعدة فيها، ومن النساء من ولدت ٦ أطفال في
بطن واحد، ومنهن من كان لها أكثر من ثديين. والخلاصة أن عجائب مخلوقات
الله تعالى كثيرة، وله في كل شيء آية.
التلقيح:
التلقيح هو اجتماع عنصر الذكر (الحيوان المنوي) بعنصر الأنثى
(البويضة) وإذا كان التلقيح بين الأقارب الأقربين كان النسل رديئًا لسببين:
(١) أنه يكون أضعف ممن يولد من زوجين بعيدين [٢٧] ، وهذه القاعدة
مطردة حتى في النباتات؛ فإن ثمر الشجرة التي تلقحت أزهارها بأزهار أشجار
أخرى يكون أقوى وأحسن، حتى أن ثمرة الزهرة الواحدة إذا تلقحت بزهرة
مجاورة لها من نفس شجرتها كانت ثمرتها خيرًا مما إذا تلقحت بنفس أبورها
(هو مسحوق التذكير في الزهرة كما سبق) .
(٢) أنه إذا كان الزوجان قريبين انحصرت في نسلهما الأشياء الرديئة
الموروثة عنهما، أما إذا اختلطت البيوت بعضها ببعض تحسن نسل الرديء منها
وبقي، ولولا ذلك لانقرض أو لبقيت بعض الأمراض العقلية والجثمانية متوارثة
في نسله إلى ما شاء الله، فلهذه الأسباب حَرَّم القرآن الشريف زواج الأقارب
الأقربين.
وبالجماع يصب المني في مهبل المرأة فتسير حيواناته المنوية إلى الرحم،
ويساعدها في سيرها حركة امتصاص تحصل في الرحم نفسه، فإذا وصلت إلى
الرحم ذهبت إلى البوقين، وهناك تتجمع في البوقين، وتعيش بضعة أسابيع، فإذا
صادفتها بويضة لقحتها، وإذا لم تتلقح البويضة تموت بعد خروجها من الحويصلة
ببضعة أيام.
والتلقيح عبارة عن دخول رأس الحيوان المنوي، وجسمه في البويضة مع
سقوط ذنبه؛ فيتحد هذا الجزء من الحيوان المنوي بنواة البويضة بعد أن ينفصل
عنها جزء كبير منها، والتقليح يحصل عادة في بوق (فللوبيوس) ، والذي يراه
جمهور العلماء أن حيوانًا واحدًا يلقح بويضة الإنسان، ومنهم من يرى أن الذي
يلقحها (أو يمتزج بها) حيوانات عديدة وهو الأرجح
وليس الجماع، ولا التذاذ النساء ضروريًّا لحصول التلقيح، بل قد يكفي قذف
المني على باب الفرج، ولو كانت الفتاة عذراء أو نائمة أو مخدرة بالكلورفورم فإن
ما للحيوانات المنوية من الحركة كافٍ لتوصيلها إلى البوقين، ولذلك ورد عن النبي
- صلى الله عليه وسلم - (أن العزل لا يمنع الحمل) كما هو مشهور في الأحاديث،
ومن ذلك قوله: - صلى الله عليه وسلم- (اصنعوا ما بدا لكم، فما قضى الله فهو
كائن، وليس من كل الماء يكون الولد) .
((يتبع بمقال تالٍ))