الثَّانِي، أَنْ يُسَافِرَ فِي أَثْنَاء الشَّهْرِ لَيْلًا، فَلَهُ الْفِطْرُ فِي صَبِيحَةِ اللَّيْلَةِ الَّتِي يَخْرُجُ فِيهَا، وَمَا بَعْدَهَا، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَسُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ: لَا يُفْطِرُ مَنْ سَافَرَ بَعْدَ دُخُولِ الشَّهْرِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: ١٨٥] . وَهَذَا قَدْ شَهِدَهُ.
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: ١٨٤] . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ، ثُمَّ أَفْطَرَ وَأَفْطَرَ النَّاسُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ مُسَافِرٌ فَأُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ، كَمَا لَوْ سَافَرَ قَبْلَ الشَّهْرِ، وَالْآيَةُ تَنَاوَلَتْ الْأَمْرَ بِالصَّوْمِ لِمَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ كُلَّهُ، وَهَذَا لَمْ يَشْهَدْهُ كُلَّهُ. الثَّالِثُ، أَنْ يُسَافِرَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَحُكْمُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَمَنْ سَافَرَ لَيْلًا، وَفِي إبَاحَةِ فِطْرِ الْيَوْمِ الَّذِي سَافَرَ فِيهِ، عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَهُ أَنْ يُفْطِرَ.
وَهُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَدَاوُد، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِمَا رَوَى عُبَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ: رَكِبْت مَعَ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ فِي سَفِينَةٍ مِنْ الْفُسْطَاطِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَدَفَعَ، ثُمَّ قَرَّبَ غَدَاءَهُ، فَلَمْ يُجَاوِزْ الْبُيُوتَ حَتَّى دَعَا بِالسُّفْرَةِ، ثُمَّ قَالَ: اقْتَرِبْ، قُلْت: أَلَسْت تَرَى الْبُيُوتَ؟ قَالَ أَبُو بَصْرَةَ «أَتَرْغَبُ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَأَكَلَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ السَّفَرَ مَعْنًى لَوْ وُجِدَ لَيْلًا وَاسْتَمَرَّ فِي النَّهَارِ لَأَبَاحَ الْفِطْرَ، فَإِذَا وُجِدَ فِي أَثْنَائِهِ أَبَاحَهُ كَالْمَرَضِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمَا فِي إبَاحَةِ الْفِطْرِ بِهِمَا، فَأَبَاحَهُ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ كَالْآخَرِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تَخْتَلِفُ بِالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فِيهَا غَلَبَ حُكْمُ الْحَضَرِ، كَالصَّلَاةِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ يُفَارِقُ الصَّلَاةَ فَإِنَّ الصَّلَاةَ يَلْزَمُ إتْمَامُهَا بِنِيَّتِهِ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ حَتَّى يُخَلِّفَ الْبُيُوتَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ يُجَاوِزُهَا وَيَخْرُجُ مِنْ بَيْن بُنْيَانِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: يُفْطِرُ فِي بَيْتِهِ، إنْ شَاءَ، يَوْمَ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَطَاءٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute