كَمَا قَالَ فِي لَفْظِهِ الْآخَرِ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ» .
قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَلَا أَرَى لِمَا صَارَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ حُجَّةً، لِأَنَّ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ مُتَعَارِضَةٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَلَا حُجَّةَ فِيهَا مَعَ الِاخْتِلَافِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، خِلَافُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَصْحَابُنَا.
ثُمَّ لَوْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِمْ حُجَّةٌ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِهِ، وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ أَقْوَالُهُمْ امْتَنَعَ الْمَصِيرُ إلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرُوهُ؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي رَوَيْنَاهَا، وَلِظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ إبَاحَةُ الْقَصْرِ لِمَنْ ضَرَبَ فِي الْأَرْضِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: ١٠١] . وَقَدْ سَقَطَ شَرْطُ الْخَوْفِ بِالْخَبَرِ الْمَذْكُورِ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ. فَبَقِيَ ظَاهِرُ الْآيَةِ مُتَنَاوِلًا كُلَّ ضَرْبٍ فِي الْأَرْضِ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» . جَاءَ لِبَيَانِ أَكْثَرِ مُدَّةِ الْمَسْحِ، فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ هَاهُنَا، وَعَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُهُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ الْقَصِيرَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَفَرًا، فَقَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» .
وَالثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ بَابُهُ التَّوْقِيفُ، فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ بِرَأْيٍ مُجَرَّدٍ، سِيَّمَا وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يُرَدُّ إلَيْهِ، وَلَا نَظِيرٌ يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَالْحُجَّةُ مَعَ مَنْ أَبَاحَ الْقَصْرَ لِكُلِّ مُسَافِرٍ، إلَّا أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ. (١٢٣١) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ فِي سَفِينَةٍ فِي الْبَحْرِ، فَهُوَ كَالْبَرِّ، إنْ كَانَتْ مَسَافَةُ سَفَرِهِ تَبْلُغُ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، أُبِيحَ لَهُ، وَإِلَّا فَلَا، سَوَاءٌ قَطَعَهَا فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ أَوْ قَصِيرٍ، اعْتِبَارًا بِالْمَسَافَةِ وَإِنْ شَكَّ هَلْ السَّفَرُ مُبِيحٌ لِلْقَصْرِ أَوْ لَا؟ لَمْ يُبَحْ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الْإِتْمَامِ، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ.
وَإِنْ قَصَرَ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَهَا أَنَّهُ طَوِيلٌ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى شَاكًّا فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّى شَاكًّا فِي دُخُولِ الْوَقْتِ.
[فَصْلٌ الِاعْتِبَارُ بِالنِّيَّةِ لَا بِالْفِعْلِ فَيُعْتَبَرُ أَنْ يَنْوِيَ مَسَافَةً تُبِيحُ الْقَصْرَ]
(١٢٣٢) فَصْلٌ: وَالِاعْتِبَارُ بِالنِّيَّةِ لَا بِالْفِعْلِ، فَيُعْتَبَرُ أَنْ يَنْوِيَ مَسَافَةً تُبِيحُ الْقَصْرَ، فَلَوْ خَرَجَ يَقْصِدُ سَفَرًا بَعِيدًا، فَقَصَرَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَرَجَعَ، كَانَ مَا صَلَّاهُ مَاضِيًا صَحِيحًا، وَلَا يَقْصُرُ فِي رُجُوعِهِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ مَسَافَةُ الرُّجُوعِ مُبِيحَةٌ بِنَفْسِهَا. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا. وَلَوْ خَرَجَ طَالِبًا لِعَبْدِ آبِقٍ، لَا يَعْلَمُ أَيْنَ هُوَ، أَوْ مُنْتَجَعًا غَيْثًا أَوْ كَلَأً، مَتَى وَجَدَهُ أَقَامَ أَوْ رَجَعَ، أَوْ سَائِحًا فِي الْأَرْضِ لَا يَقْصِدُ مَكَانًا، لَمْ يُبَحْ لَهُ الْقَصْرُ، وَإِنْ سَارَ سَفَرًا أَيَّامًا.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يُبَاحُ لَهُ الْقَصْرُ إذَا بَلَغَ مَسَافَةً مُبِيحَةً لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ سَفَرًا طَوِيلًا. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، فَلَمْ يُبَحْ لَهُ، كَابْتِدَاءِ سَفَرِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُبِحْ الْقَصْرَ فِي ابْتِدَائِهِ فَلَمْ يُبِحْهُ فِي أَثْنَائِهِ، إذَا لَمْ يُغَيِّرْ نِيَّتَهُ، كَالسَّفَرِ الْقَصِيرِ، وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، وَمَتَى رَجَعَ هَذَا يَقْصِدُ بَلَدَهُ، أَوْ نَوَى