الْمَكِّيُّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ، فَمِنْ مَكَّةَ؛ لِلْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَسَخُوا الْحَجَّ، أَمَرَهُمْ فَأَحْرَمُوا مِنْ مَكَّةَ. قَالَ جَابِرٌ: «أَمَرَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَلَلْنَا، أَنْ نُحْرِمَ إذَا تَوَجَّهْنَا مِنْ الْأَبْطَحِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَاطِنِي مَكَّةَ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ بِهَا، كَالْمُتَمَتِّعِ إذَا حَلَّ، وَمَنْ فَسَخَ حَجَّهُ بِهَا.
وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، أَنَّهُ يُهِلُّ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَالصَّحِيحُ خِلَافُ هَذَا؛ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَحْمَدَ إنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ إذَا خَرَجَ إلَى الْمِيقَاتِ، وَلَا يَسْقُطُ إذَا أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ.
وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمَكِّيِّ، أَمَّا الْمَكِّيُّ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمُ مُتْعَةٍ بِحَالٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: ١٩٦] . وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ يَحُجُّ عَنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ بَعْدَهُ لِنَفْسِهِ، أَوْ دَخَلَ يَحُجُّ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ لِغَيْرِهِ، أَوْ دَخَلَ بِعُمْرَةٍ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ لِغَيْرِهِ، أَوْ دَخَلَ بِعُمْرَةٍ لَغَيْرِهِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ لِنَفْسِهِ، أَنَّهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ يَخْرُجُ إلَى الْمِيقَاتِ، فَيُحْرِمُ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَعَلَيْهِ دَمٌ.
قَالَ: وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ: إذَا اعْتَمَرَ عَنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ أَرَادَ الْحَجَّ لِنَفْسِهِ، يَخْرُجُ إلَى الْمِيقَاتِ، أَوْ اعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ، يَخْرُجُ إلَى الْمِيقَاتِ، وَإِنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، ثُمَّ أَرَادَ الْحَجَّ، يَخْرُجُ إلَى الْمِيقَاتِ. وَاحْتَجَّ لَهُ الْقَاضِي، بِأَنَّهُ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ، غَيْرَ مُحْرِمٍ لِنَفْسِهِ، فَلَزِمَهُ دَمٌ إذَا أَحْرَمَ دُونَهُ، كَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ حَجَّ عَنْ شَخْصٍ وَاعْتَمَرَ عَنْ آخَرَ، أَوْ اعْتَمَرَ عَنْ إنْسَانٍ ثُمَّ حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ عَنْ آخَرَ، فَكَذَلِكَ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ إلَى الْمِيقَاتِ فِي هَذَا كُلِّهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ كَالْقَاطِنِ بِهَا، وَهَذَا حَاصِلٌ بِمَكَّةَ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ، فَأَشْبَهَ الْمَكِّيَّ.
وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي تَحَكُّمٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ خَبَرٌ، وَلَا يَشْهَدُ لَهُ أَثَرٌ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى فَاسِدٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَرِيدًا لِلنُّسُكِ عَنْ نَفْسِهِ حَالَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَبْدُو لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. الثَّانِي، أَنَّ هَذَا لَا يَتَنَاوَلُ مَنْ أَحْرَمَ عَنْ غَيْرِهِ. الثَّالِثُ، أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ بِهَذَا الْخُرُوجُ إلَى الْمِيقَاتِ، لَلَزِمَ الْمُتَمَتِّعَ وَالْمُفْرِدَ؛ لِأَنَّهُمَا تَجَاوَزَا الْمِيقَاتَ، مُرِيدَيْنِ لِغَيْرِ النُّسُكِ الَّذِي أَحْرَمَا بِهِ. الرَّابِعُ، أَنَّ الْمَعْنَى فِي الَّذِي يُجَاوِزُ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، أَنَّهُ فَعَلَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فِعْلُهُ، وَتَرَكَ الْإِحْرَامَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ، فَأَحْرَمَ مِنْ دُونِهِ.
[فَصْل مِنْ أَيْ الْحَرَم أُحَرِّم بِالْحَجِّ جَازَ]
(٢٢٦٧) فَصْلٌ: وَمِنْ أَيِّ الْحَرَمِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِحْرَامِ بِهِ الْجَمْعُ فِي النُّسُكِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute