وَالثَّانِي، حَمْلُ اللَّفْظِ الدَّالِ عَلَى الْجَمْعِ عَلَى الْمُفْرَدِ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ أَهْلِهَا كُفَّارًا، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِمْ، وَصَرْفُهُ إلَيْهِمْ وَالتَّخْصِيصُ يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ بِإِخْرَاجِ الْأَكْثَرِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَدْخُلَ الْكُفَّارُ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ فِي مِثْلِ هَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ قَرِيبٌ، وَتَخْصِيصَ الْأَكْثَرِ بَعِيدٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى دَلِيلٍ قَوِيٍّ
وَالْحُكْمُ فِي سَائِرِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ، مِثْلَ أَنْ يُوصِيَ لِإِخْوَتِهِ، أَوْ عُمُومَتِهِ، أَوْ بَنِي عَمِّهِ، أَوْ لِلْيَتَامَى، أَوْ لِلْمَسَاكِينِ، كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا أَوْصَى لِأَهْلِ قَرْيَتِهِ. فَأَمَّا إنْ أَوْصَى بِذَلِكَ كَافِرٌ، فَإِنَّ وَصِيَّتَهُ تَتَنَاوَلُ أَهْلَ دِينِهِ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَتَنَاوَلُهُمْ، وَقَرِينَةُ حَالِهِ إرَادَتُهُمْ، فَأَشْبَهَ وَصِيَّةَ الْمُسْلِمِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا أَهْلُ دِينِهِ. وَهَلْ يَدْخُلُ فِي وَصِيَّتِهِ الْمُسْلِمُونَ؟ نَظَرْنَا، فَإِنْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى دُخُولِهِمْ، مِثْلُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْقَرْيَةِ إلَّا مُسْلِمُونَ، دَخَلُوا فِي الْوَصِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا كَافِرٌ وَاحِدٌ، وَسَائِرُ أَهْلِهَا مُسْلِمُونَ، وَإِنْ انْتَفَتْ الْقَرَائِنُ، فَفِي دُخُولِهِمْ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَدْخُلُونَ، كَمَا لَمْ يَدْخُلْ الْكُفَّارُ فِي وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ
وَالثَّانِي، يَدْخُلُونَ؛ لِأَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُهُمْ، هُمْ أَحَقُّ بِوَصِيَّتِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَلَا يُصْرَفُ اللَّفْظُ عَنْ مُقْتَضَاهُ، وَمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِحُكْمِهِ إلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ فِي الْقَرْيَةِ كَافِرٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِ الْمُوصِي، لَمْ يَدْخُلْ فِي وَصِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ حَالِ الْمُوصِي تُخْرِجُهُ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ مَا وُجِدَ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ الْأَوْلَوِيَّةِ، فَبَقِيَ خَارِجًا بِحَالِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَخْرُجَ، بِنَاءً عَلَى تَوْرِيثِ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ عَلَى اخْتِلَافِ دِينِهِمْ.
[مَسْأَلَةٌ أَوْصَى بِكُلِّ مَالِهِ وَلَا عُصْبَة لَهُ وَلَا مَوْلَى لَهُ]
(٤٧٣٢) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى بِكُلِّ مَالِهِ، وَلَا عَصَبَةَ لَهُ، وَلَا مَوْلَى لَهُ، فَجَائِزٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَا يَجُوزُ إلَّا الثُّلُثُ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَنْ لَمْ يَخْلُفْ مِنْ وُرَّاثِهِ عَصَبَةً، وَلَا ذَا فَرْضٍ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ وَصِيَّتَهُ جَائِزَةٌ بِكُلِّ مَالِهِ. ثَبَتَ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَالَ عُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَمَسْرُوقٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: لَا يَجُوزُ إلَّا الثُّلُثُ
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ؛ لِأَنَّ لَهُ مَنْ يَعْقِلُ عَنْهُ، فَلَمْ تَنْفُذْ وَصِيَّتُهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ، كَمَا لَوْ تَرَكَ وَارِثًا. وَلَنَا، أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ إنَّمَا كَانَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّك أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» . وَهَا هُنَا لَا وَارِثَ لَهُ يَتَعَلَّقُ حَقٌّ بِمَالِهِ، فَأَشْبَهَ حَالَ الصِّحَّةِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَالِهِ حَقُّ وَارِثٍ وَلَا غَرِيمٍ، أَشْبَهَ حَالَ الصِّحَّةِ أَوْ أَشْبَهَ الثُّلُثَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute